كيف نثقُ في الترجمة؟

استكشافات ومساءلات من داخل المشغل الترجمي

كيف نثقُ في الترجمة؟
TT

كيف نثقُ في الترجمة؟

كيف نثقُ في الترجمة؟

تقول أمثولة شائعة إنّ «من يرى ليس كمن يسمع»؛ لذا فإنّ من يتحدّثُ عن العملية الترجمية - بكلّ حيثياتها المشتبكة – من داخل المشغل الترجمي ليس كمن يتحدّثُ حديثاً عاماً من غير مسؤولية أو مرجعيات عمل حاكمة.
الفعالية الترجمية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع اللغة التي نترجم منها (اللغة الأصل) وإليها (اللغة الهدف). اللغة هيكل إطاري يشكّل قاعدة لرؤيتنا المميزة للعالم؛ العربي مثلاً يرى العالم بطريقة تتمايز عن رؤية الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الياباني أو الصيني. اللغة بهذا المفهوم حاملٌ لهذه الرؤية، وكلّ لغة جديدة نتعلّمها هي إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم بسبب إعادة تشكيل أدمغتنا على المستوى البيولوجي الدقيق. وفقاً لهذا السياق، ثمة اختلافات أساسية لا يمكن اختزالها بين طرق التعبير عن فكرة واحدة في سياقات لغوية مختلفة؛ وعلى هذا الأساس يجب أن نقبل بوجود اختلافات حتمية بين النصوص المترجمة. لا أحبّ الحديث عن (الخيانة الحتمية في فعل الترجمة)؛ فهو ليس أكثر من تعبير درامي عن حقيقة أساسية، وبخلاف هذا الحديث لا بأس من التأكيد على البديهيات التالية...
- البديهية الأولى؛ الترجمة تفاوض بين لغتين (كما يعبّر أومبرتو إيكو)، تتنازل فيه كلّ لغة عن شيء من كيانها التعبيري.
- البديهية الثانية؛ كلّ إنسان له لغته الوجدانية الخاصة التي لا تشبه أي لغة لشخص سواه.
- البديهية الثالثة؛ الإنسان الذي لا يعرف سوى لغة واحدة يجهل لغته الأم لأنه يفتقد المرجعيات التي يقارن بها، ومن خلالها ثراء السياقات النحوية والدلالية غير التقليدية للغته الأم. هذا ما يراه غوته.
- البديهية الرابعة؛ كل نصّ مترجَم هو نصٌّ موازٍ للنص الأصلي. فكرة المطابقة الترجمية وهمٌ خالص لأسباب جوهرية لا علاقة لها بمدى احترافية المترجم.
- البديهية الخامسة؛ كلّ نصّ مترجَمٍ يحملُ بصمة المؤلف والمترجِم معاً. لا يمكن فكّ الاشتباك بين أي نصّ مترجَمٍ ومترجمه.
لا يمكن الحديث جدياً عن الترجمة في غياب القراءة التأصيلية للفعل الترجمي وارتباطه بالهياكل النحوية syntactic والدلالية semantic للغة. أرى أنّ عالم اللغويات والإنثروبولوجيا الثقافية جورج شتاينر هو أفضل من تناول هذه الموضوعات في كتابه «بعد بابل... جوانب من اللغة والترجمة» After Babel Aspects of Language and Translation المنشور في طبعته الأولى عام 1975 (وهو غيرُ مترجمٍ إلى العربية). أما الجوانب التقنية في الترجمة فيمكن الرجوع فيها لمراجع عدّة، منها كتاب «فن الترجمة» للدكتور محمد عناني، وكتاب «عن الترجمة» للفيلسوف الراحل بول ريكور، وكتابان للدكتور الراحل صفاء خلوصي، أحدهما بعنوان «الترجمة التحليلية»، والآخر عنوانه «الترجمة في ضوء الدراسات المقارنة».
سأتناولُ في الفقرات المحدّدة التالية تفاصيل مقترنة بالعمل الترجمي، أحسبُ أنّ كل مشتغل بالترجمة لا بد اختبرها في عمله؛ لكن لا بأس من الإشارة قبل هذا إلى أنّ الترجمة فعالية عقلية مرتبطة باللغة. لا أريد هنا ترديد العبارة المكرورة من أنّ كلّ مترجم متمكّن من أدواته الترجمية لا بد أن يكون ممسكاً بقياد كلّ من اللغة التي يترجمُ منها واللغة التي يترجمُ إليها. لن ينفع الإمساك بواحدة منهما فحسب. هذه بديهية نتفق عليها، ولا ضرورة لتكرارها.
أتناول قبل كل شيء مسألة الثقة في المادة المترجمة. كيف السبيل إلى ذلك؟ سأقدّمُ جوابيْن لهذا السؤال؛ الأول عام يمكن أن نجد نظيراً له عندما يسأل أحدنا؛ كيف تثق بطبيب أسنانك؟ أو كيف تثق بأستاذك الجامعي؟ أو كيف تثق بأحد الباعة؟ نتداولُ كثيراً مثلاً يقول «التجربة أعظم برهان». جرّب وقدّرْ نتيجة تجربتك. لا أحسبُ أنّ من يغشّ أو يكذب يمكن أن يستمرئ اللعبة إلى مدى لا نهائي. لا بد أن تتكشف لعبته المعيبة في نهاية المطاف. سيقولُ بعضنا إنّ لكلّ مهنة أخلاقياتها وقوانينها الحاكمة؛ لكنّ هذا لا يكفي. الضمير الحي والنزاهة الشخصية خصائص ثمينة وهي الفيصل النهائي في كلّ ممارسة بشرية. على هذا الأساس يمكن أن تقرأ نصوصاً مترجمة جرى تزكيتها من قبل كثرة من القرّاء؛ لكنّ التزكية وحدها لا تكفي، لا بد من معيار شخصي. هنا ننتقلُ إلى الجواب الثاني لسؤال؛ كيف نثق في الترجمة؟ وهذا الجواب ذو معيار إجرائي.
جرّب أن تأخذ نصاً مترجماً وحاول مقارنته مع مرجعه الأصلي، وربما الأفضل (والأكثر سهولة) هو مقارنة مقالة مترجمة لمترجم ما مع نصها الأصلي. قلّب الترجمة من جميع جوانبها ودقّق في السياق الذي اعتمده المترجم وكيفية هيكلته للعبارة المترجمة. ادرُس السياق النحوي والدلالي للعبارة المترجمة ولاحظ مدى تصاديه مع روح العبارة الأصلية.
لا بد أن تبذل جهداً لكي تتأكّد من مصداقية ونزاهة عمل أي مترجم، وإلا فليس من سبيل سوى الثقة المزكّاة من قبل أغلبية القرّاء والمتخصصين. سيكون من قبيل البداهة القول إن هذه المقاربة الإجرائية تتطلب معرفة مقبولة باللغة الأصل التي يترجم منها المترجم الذي يُرادُ التأكّد من دقّة عمله.
تستدعي هذه الرؤية في الترجمة مساءلة واستكشاف بعض الموضوعات المتأصّلة بكلّ مشغل ترجمي حقيقي. هاكُمْ بعضاً من هذه المساءلات والاستكشافات...
* خصوصية الترجمة الأدبية واختلافها عن سائر الترجمات؛ هذه حقيقة مؤكدة ليس هناك من يختلف عليها. الترجمة الأدبية أكثر تعقيداً من الترجمات في سائر الموضوعات الأخرى؛ لذا تتطلبُ جهداً ومصابرة ومكابدة ومقدرة. السبب واضح: الأدب بوصفه اشتغالاً بشرياً أكثر توظيفاً للقيمة الدلالية من القيم الأخرى بالمقارنة مع سائر الموضوعات. من المتوقّع أن تقود هذه الحقيقة إلى تخصّص بعض المترجمين بالترجمات الأدبية دون سواها؛ لكن يجب الإشارة إلى أنّ الإشارة التقنية هنا تعنى بالنصوص الأدبية (الشعر تحديداً، ثم النصوص الأدبية الأخرى) وليس الدراسات الأدبية التي تنتمي لقطاع الأعمال الفكرية والثقافية العامة. ليس كلّ الأدب شكسبير أو جويس أو فوكنر في نهاية المطاف.
* موضوع ضرورة المعايشة الجغرافية؛ هذه أخدوعة يريدُ بعضُ المتكاسلين إشاعتها بقصد كسر شوكة المترجمين الواعدين. حجّة هؤلاء أنّ بعض الأعمال، وخاصة الأدبية، تعتمدُ مفردات لا يدرك دلالاتها المكشوفة والمبطّنة سوى من تمرّس في العيش بالنطاقات الجغرافية التي تسود فيها تلك المفردات. هذا صحيح كمبدأ؛ لكن كم حجمُ الأعمال التي تلعب فيها هذه المفردات الشاذة دوراً مؤثراً؟ ثمّ لماذا نفترضُ أنّ المترجم آلة روبوتية ستعبرُ تلك المفردات من غير دراسة مرجعياتها المحلية، والمراجع في هذا الشأن كثيرة. المترجم النزيه لن يعبر شيئاً ما لم يتأكد من خلفيته الجغرافية والثقافية.
* مسألة الترجمة عن لغة وسيطة؛ الأصل في الترجمة أن تكون عن اللغة الأصلية التي كُتِب بها العمل؛ لكن يمكن في حالات خاصة الاعتماد على لغة وسيطة. لمِ لا؟ ما الضير في ذلك؟ لماذا نخسرُ وقتاً ريثما تنضج الظروف الملائمة لترجمة العمل عن اللغة الأصلية؟
* مسألة التخصص الترجمي؛ يرى البعض أنّ الترجمة الاحترافية يجب أن تكون احتكاراً حصرياً لخريجي أقسام الترجمة. تعلّمْنا من خبرة ممتدّة سابقة أنّ الشغف هو الشرط الأولي المسبّق لكلّ عمل يتطلبُ انغماساً فردياً في تفاصيله الدقيقة؛ فكيف نضمنُ توفّر هذا النوع من الشغف في خريجي أقسام الترجمة. ثم إن واقع الحال ينبئنا أنّ أكابر المترجمين العرب ما كانوا خريجي أقسام ترجمة؛ بل كانوا متخصصي لغة إنجليزية في أفضل الأحوال.
* مسألة التخصص في الحقل المعرفي؛ يفترضُ البعض أنّ كتب الفيزياء لا يجب أن يترجمها سوى فيزيائي، وكذا الكيمياء وعلم الاجتماع والفلسفة... إلخ. هذا خطل كبير، فضلاً عن أنه ينطوي على أخدوعة. ثمة فرقٌ شاسع بين ترجمة عمل في الفيزياء ينتمي لحقل الثقافة الجمعية العامة وعملٍ آخر ينتمي لحقل الكتب المرجعية Textbook في الفيزياء. صار كثير من موضوعات الفيزياء (مثل ميكانيك الكم والنسبية ونظرية كلّ شيء والطاقات المتجددة وتقنية المصغّرات «النانوتكنولوجي») وكذلك موضوعات الذكاء الاصطناعي من الموضوعات اللازمة لكلّ معرفة جمعية عامة، والشغف بتلك الموضوعات هو الذي يحدّدُ مَن المؤهّل أكثر من سواه لينهض بعبء ترجمة تلك الموضوعات. لا يختارُ مترجم الأعمال العلمية الأعمال التي ينوي ترجمتها عبثاً أو بطريقة كيفية؛ بل يختارُ الكتب التي تخاطب العامّة ذوي الحدّ المقبول من الثقافة مع التركيز على تاريخ العلم وفلسفته ومنهجيته.
من المفيد في هذا الشأن الإشارة إلى أسماء معروفة من المترجمين الذين قدّموا ترجمات متعددة في حقول معرفية مختلفة؛ فكانوا بذلك مثالاً ترجمياً مناظراً للمشتغلين في حقول معرفية متداخلة ومشتبكة.
* مسألة العائد المالي من الترجمة؛ لا أحد يعمل في الترجمة انتظاراً لعائد مالي مجزٍ أو شهرة منتظرة. أقولُ هذا عن معرفة دقيقة بواقع الترجمة في منطقتنا العربية. الشغف هو المحرّك الأوّل والأخير لكلّ عمل ترجمي. توجد جوائز مغرية للترجمة، هذا صحيح؛ لكن لا أحد يعمل فقط انتظاراً لتلك الجوائز. نعرفُ كثيرين من أكابر المترجمين العرب عاشوا وغادروا الحياة ولم ينالوا واحدة من تلك الجوائز، لأنها ما كانت موجودة أصلاً.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».