الكرملين يعزز أوراقه التفاوضية تحضيراً لـ«ما بعد الدونباس»

سيناريوهات لتحديد مصير المناطق الانفصالية ومسار المواجهة مع الغرب

رجل إطفاء أوكراني على سطح مبنى دمر جزء منه بقصف روسي قبل أيام (رويترز)
رجل إطفاء أوكراني على سطح مبنى دمر جزء منه بقصف روسي قبل أيام (رويترز)
TT

الكرملين يعزز أوراقه التفاوضية تحضيراً لـ«ما بعد الدونباس»

رجل إطفاء أوكراني على سطح مبنى دمر جزء منه بقصف روسي قبل أيام (رويترز)
رجل إطفاء أوكراني على سطح مبنى دمر جزء منه بقصف روسي قبل أيام (رويترز)

مع اقتراب الحرب الأوكرانية من دخول شهرها السادس، بدأ الكرملين تحضيراته لدخول مرحلة جديدة من الصراع، في مقابل تفاقم إمدادات الأسلحة الغربية إلى ساحة المعركة، ودخولها بشكل نشط على خط المواجهة الميدانية في إطار ما وُصف خلال الأسبوع الأخير بأنه «الهجوم المضاد لتحرير مدينة خيرسون». وفي الوقت ذاته، وضع اقتراب القوات الروسية من حسم معركة السيطرة في منطقة حوض الدونباس القيادة الروسية أمام السيناريوهات المحتملة للتعامل مع «المناطق المحررة»، وذلك في ضوء صعوبة تكرار تجربة ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014 عبر استفتاء شعبي صوريّ لم يحظَ باعتراف دولي. لقد كان السؤال الأكثر تردداً عندما أطلقت روسيا المرحلة الثانية من عمليتها العسكرية في أوكرانيا تحت عنوان «تحرير الدونباس» هو: هل يذهب الكرملين أبعد من ذلك؟ وهل يتجه نحو إطلاق مرحلة جديدة يحاول فيها رغم كل الضغوط الغربية توسيع مساحة سيطرته عسكرياً... والانتقال إلى هدف «تقويض السلطة النازية في أوكرانيا»؟

أثارت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الأيام الأخيرة عن أن بلاده «لم تبدأ بعد تنفيذ مهامها الجدية في أوكرانيا» مخاوف وتساؤلات حول طبيعة «المهام» التي يقصدها، وما إذا كانت مرتبطة بمرحلة جديدة من العمليات العسكرية تعقب السيطرة الروسية الكاملة على منطقة حوض الدونباس في جنوب شرقي أوكرانيا.
لقد تعمّد الرئيس الروسي إطلاق تصريحه المثير للجدل خلال اجتماع لرؤساء الكتل النيابية في مجلس الدوما (النواب) الخميس الماضي، وقال إن «كل الأطراف تعلم جيداً أننا لم نبدأ بعد أي شيء جدي في أوكرانيا». وأردف: «نسمع أننا بدأنا حرباً في الدونباس، في أوكرانيا. لا، لقد أطلقها هذا الغرب الجماعي، حيث نظم ودعم انقلاباً مسلحاً غير دستوري في أوكرانيا في عام 2014 ثم شجع وبرّر الإبادة الجماعية ضد الناس في الدونباس»، مضيفاً أن «هذا الغرب الجماعي نفسه هو المحرّض المباشر والمذنب فيما يحدث اليوم».

- إشارات لا... زلّات لسان
لقد دلّت التجارب السابقة إلى ضرورة التعامل بجدية مع الإشارات التي يطلقها الرئيس الروسي، والتي تأتي أحياناً على شكل «زلات لسان» تبدو للوهلة الأولى كأنها غير متعمدة.
إذ اعتاد بوتين على توجيه إشارات واضحة ومباشرة أحياناً، إلى خطواته المقبلة عند الاستحقاقات الكبرى، ولم يخفِ في أوقات سابقة توجهه إلى اتخاذ قرارات مصيرية في حالات عدة. وهذا حدث عند اتخاذ قرار ضم القرم في مارس (آذار) 2014، وعند إعلان الاعتراف بسيادة لوغانسك ودونيتسك يوم 21 فبراير (شباط) الماضي، قبل ثلاثة أيام فقط من إعلان انطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا.
وحقاً، ربط معلقون روس عبارة الرئيس الجديدة، بتطورات الوضع الميداني في أوكرانيا، بعد مرور أيام على استكمال فرض سيطرة كاملة على منطقة لوغانسك والانتقال إلى حسم معركة دونيتسك. وهو ما يعني أن كلمات بوتين قد تحمل بين دلالاتها إشارة محددة إلى مرحلة «ما بعد الدونباس» في الحرب الجارية.
اللافت هنا أن حديث الرئيس الروسي جاء تتويجاً لإشارات مماثلة صدرت عن المستوى العسكري والأمني في روسيا، فضلاً عن التلويح المتواصل باتساع حجم المعركة ودخولها مرحلة طويلة الأمد تكاد تكون حرب استنزاف كاملة، كما قيل أكثر من مرة، على أعلى المستويات السياسية في روسيا.

- «حرب مفتوحة»
ولقد عزز من هذا التوجه تزايد تصريحات المسؤولين الروس خلال الفترة الأخيرة حول تحول المعركة في أوكرانيا من مواجهة محدودة الأهداف إلى «حرب مفتوحة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) تجري على الأراضي الأوكرانية» وفقاً لتصريح رئيس جهاز المخابرات الخارجية سيرغي ناريشكين.
في هذا الإطار، لا يمكن تجاهل أن بوتين كان قد وضع أصلاً بين أهداف العملية العسكرية الرئيسية «نزع سلاح أوكرانيا وتقويض النازية» في هذا البلد، فضلاً عن هدف حماية سكان الدونباس. وهذه أهداف تبدو أبعادها واسعة النطاق وأبعد من خطوات ميدانية محددة مثل إنجاز السيطرة على منطقة دونباس.
وتحمل إشارات الخارجية الروسية خلال اليومين الماضيين حول امتداد «النازية الجديدة» إلى كل أوروبا بعدما كانت واضحة في أوكرانيا وحدها، إشارة لافتة وخطرة إلى آليات تفكير النخبة السياسية في روسيا هذه الأيام. وهذا، خصوصاً مع عودة الإشارات إلى خطر اتساع المواجهة المباشرة وانتقالها إلى «صراع مباشر بين روسيا والغرب» كما نبّهت قبل أيام الناطقة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا التي حذّرت من أنه في هذه الحال لا يمكن تقليل المخاوف من انزلاق الوضع نحو مواجهة تستخدم فيها مكونات نووية.
لكنّ إشارة بوتين الواضحة جاءت محددة في الإطار الجغرافي الأوكراني، وتحمل دلالات مباشرة إلى أن عدم التوصل إلى خطة سلام مُرضية للروس سوف يعني «استكمال تنفيذ الأهداف الأكثر جدية في أوكرانيا».
في هذا الإطار، برزت تصريحات لافتة لمسؤولين عسكريين، بينهم الرئيس الشيشاني الذي يقود مجموعات من كتائب المتطوعين الذين لعبوا دورا رئيساً في معركة الدونباس. وهو قال أخيراً إن جنوده «بانتظار تعليمات من القيادة العليا لاستكمال أهداف أخرى تصل إلى العاصمة كييف».
لكن، هل يعني ذلك بالفعل أن بوتين يستعد لاستهداف كييف، وتوسيع نطاق المعركة ونقلها مجدداً إلى كل المناطق الأوكرانية كما برز في الشهر الأول من الحرب؟
لا يمكن التكهن بإجابة محددة عن السؤال، كما يقول خبراء روس تحدثت إليهم «الشرق الأوسط». إذ برزت ترجيحات متباينة حول هذا الأمر، وبدا واضحاً أنه لا يوجد إجماع على هذه النقطة.
من جهة، لا يستبعد البعض أن تكون إشارة بوتين مقصودة لجهة توسيع مساحة السيطرة العسكرية المباشرة في مناطق جديدة فشلت موسكو سابقاً في اجتياحها، مثل خاركيف وميكولايف وبعض الأجزاء الأهم من زاباروجيه ومناطق استراتيجية عدة تقع في محيط الدونباس.
يبدو هذا الهدف امتداداً طبيعياً من وجهة نظر هذا الفريق من المحللين للنتائج التي وصلت إليها العملية العسكرية حتى الآن. ولسعي موسكو إلى مواجهة «الهجمات المضادة» من جانب أوكرانيا... التي اتخذت بعداً أكثر خطورة مع تكثيف استخدام الصواريخ الأميركية وسلاح المدفعية وتقنيات الطائرات الهجومية المسيرة من دون طيار.

- حسابات واحتمالات
في حال صحّت هذه التوقعات فإن موسكو مع غياب أفق التسوية السياسية ستذهب نحو تعزيز قبضتها في المناطق التي سيطرت عليها وفرض أمر واقع جديد على الأرض يمنع محاولات استعادتها. لكن في المقابل، يرى آخرون أن رسالة بوتين بقدر ما هي موجهة إلى الداخل الأوكراني، فهي موجهة إلى الغرب بدرجة أقوى.
بهذا المعنى فإن التلويح لا يتعلق بحسابات توسيع السيطرة الميدانية بقدر ما يستهدف توجيه رسائل حازمة في إطار السجالات المتواصلة بين روسيا و«ناتو» على ملفات تسليح أوكرانيا وتعزيز الوجود العسكري على طول الحدود مع روسيا وجارتها الأقرب بيلاروسيا.
هكذا، فإن بوتين يضع عملياً، وفقاً لوجهة نظر هذا الفريق، أوراقه التفاوضية على الطاولة، بعد حسم معركة الدونباس، عبر التلويح بقدرته على توسيع مساحة المعركة ووضع أهداف جديدة «أكثر جدية» في حال لم تجد موسكو تجاوباً مع شَرطيها الرئيسيين لإطلاق عملية سلام: الأول استسلام أوكرانيا وقبولها شروط الكرملين المعلنة، والآخر توقف الغرب عن ضخ مزيد من الأسلحة وإطلاق آلية للحوار لا تقتصر على تسوية في أوكرانيا بقدر ما تشمل مسائل حيوية أخرى بينها نشر الأسلحة ومواصلة سياسات تطويق روسيا عسكرياً واقتصادياً.
في الحالين، يُبدي بوتين تصميماً على رفض موسكو التراجع في أوكرانيا قبل الوصول إلى تسوية مُرضية تلبّي مطالبها الأمنية الاستراتيجية.
بالتوازي مع هذا المسار، فقد فرض اقتراب الكرملين من إنجاز هدف السيطرة الكاملة على منطقة الدونباس، تنشيط النقاش في الدوائر الروسية حول السيناريوهات المحتملة للتعامل مع «الأراضي المحررة»، وسط تأكيد متواصل على مستوى البرلمان والأحزاب الكبرى في البلاد على أن النتيجة الطبيعية هي ضم تلك المناطق إلى الدولة الروسية وتكريس تقسيم أوكرانيا عملياً إلى شطرين:
الأول، الشطر الغنيّ بموارده الطبيعية وامتداده على البحار الدولية وحركة نقل البضائع، وهو يدخل «طواعية» تحت السيادة الروسية.
والآخر، يبقى منهكاً اقتصادياً ومعيشياً ومصيره معلقاً بالغرب الذي سيرث تركة ثقيلة وسيكون عليه أن «يطعم ملايين الأوكرانيين» الموزعين بين الولاء لبولندا أو رومانيا أو بلدان أخرى.
وهكذا، مع تركيز الضغط العسكري الروسي في منطقة دونيتسك لإحكام السيطرة عليها، بعد الإعلان قبل أيام عن «استكمال تحرير كل أراضي لوغانسك» طغت مسألة مستقبل «الأراضي المحررة» على النقاشات الدائرة. وجاء هذا متزامناً مع مواصلة موسكو خطوات تشكيل الهياكل القيادية في الأقاليم الأوكرانية التي انتقلت إلى السيطرة الروسية.
لقد كان لافتاً لجوء الكرملين إلى تعيينات جديدة في هذه الهياكل غلب عليها تكليف مسؤولين روس بشغل المواقع الرئيسة فيها بشكل مباشر، بدلاً من الاكتفاء بالاعتماد على الانفصاليين الأوكرانيين. وخلال الأسبوع الأخير، غدت منطقة زاباروجيه التي تسيطر موسكو على نحو ثلثيها، الأخيرة من بين أربع مناطق في شرق أوكرانيا تم تعيين مواطنين روس في مناصب رسمية فيها. ولفت التطور إلى أن سياسة إنشاء إدارات عسكرية - مدنية تعتمد بشكل أساسي على موظفين محليين في المناطق الانفصالية الخارجة عن سيطرة أوكرانيا لم تُثبت فاعلية كافية بالنسبة إلى الكرملين.
هذا ما أظهره، على سبيل المثال، تفويض مسؤولين روس لشغل مناصب قيادية في إقليمي لوغانسك ودونيتسك، بينما في منطقة خيرسون -التي وقعت تحت السيطرة الروسية بالكامل في مارس الماضي- فقد تم تشكيل رأس هيكلية السلطة بالكامل من شخصيات روسية.

- ضم الأراضي يتسارع
أظهرت هذه التطورات أن عملية ضم هذه الأراضي إلى الاتحاد الروسي آخذة في التسارع، رغم أنه ليس من الواضح بعد، كيف سيجري تنظيم هذا المسار، وما إذا كان سيناريو القرم قابلاً للتكرار في مناطق الشرق الأوكراني، أي عبر القيام بضم مناطق جديدة إلى روسيا بعد تنظيم استفتاءات صورية فيها.
بيد أن الأهم من ذلك، وفقاً لخبراء، أنّ التعيينات المعلنة في الجزء الخلفي القريب من خطوط تماس العملية الخاصة، عكست حرص الكرملين على وجود شخصيات عسكرية موالية بشكل كامل للقيادة الروسية.
وفقاً لهذا المسار جاء إعلان فولوديمير روغوف، عضو «الإدارة العسكرية المدنية» التي عيّنتها موسكو في زاباروجيه، عن قرار رئيس هذه الإدارة يفغيني باليتسكي بتعيين نائبين جديدين له هما أندريه كوزينكو، النائب السابق في مجلس الدوما عن شبه جزيرة القرم، وفيكتور إميليانينكو، الذي كان حتى عام 2014 النائب الأول لرئيس مقاطعة زاباروجيه قبل أن ينتقل إلى معسكر الكرملين. وحدد روغوف أن «إميليانينكو سيتعامل مع قضايا التكامل السياسي (مع روسيا)، وكوزينكو سوف يتولى ملف التكامل الاقتصادي».

- مفاوضات الإلحاق
بهذا الشكل سيتولى المسؤولان المفاوضات الهادفة إلى وضع مسار التحاق الإقليم بروسيا، بينما يُطلب من القرم إقامة اتصالات تجارية واقتصادية بين المنطقة وشبه الجزيرة. ولفتت تقارير وردت ممّا تسمى «الأراضي المحررة الأخرى في أوكرانيا»، بما في ذلك لوغانسك ودونيتسك، إلى أنه «ستكون هناك قريباً تعيينات أخرى في زاباروجيه، معظمها من بين التكنوقراطيين الروس».
في السياق ذاته، جاءت التعيينات الجديدة في خيرسون المجاورة لاحقاً، وأصبحت الحكومة الجديدة في منطقة خيرسون، يسيطر عليها العنصر الروسي بالكامل، وبدأت تعمل بكامل طاقتها.
حصل هذا بعد تعيين النائب الأول السابق لرئيس الوزراء في حكومة منطقة كالينينغراد، سيرغي إليسيف، رئيساً لـ«حكومة» الإقليم. وتدل سيرته الذاتية على أنه شغل مناصب بارزة في هيئة (وزارة) الأمن الفيدرالي الروسي بين عامي 1993 و2005، كما جرى تعيين مسؤول آخر كان يشغل مناصب مهمة في إدارة السياسات الزراعية.
اللافت أنه مع تشكيل «حكومة الإقليم» بهذه الطريقة، لم يُعلن حتى الآن عن انتهاء صلاحيات «الإدارة العسكرية المدنية» التي عيّنتها موسكو فور فرض سيطرتها في الإقليم. ويقول خبراء إنه جارٍ تفسير ذلك بأن موسكو تفحص عبر آليات التنفيذ العملية إمكانية تكرار نموذج إدارة الكيانات المكوِّنة للاتحاد الروسي في المناطق الأوكرانية التي تعمل على توطيد سيطرتها فيها. وبهذا المعنى فإن تعيين حكام الأقاليم يمنحهم صلاحيات تنفيذية واسعة يمكن للحاكم (رئيس الإقليم) أن يتولاها بنفسه أو يكلف بها أقرب مساعديه.


مقالات ذات صلة

مسيّرات أوكرانية تهاجم منشأة لتخزين الوقود في وسط روسيا

أوروبا جنود أوكرانيون يستعدون لتحميل قذيفة في مدفع هاوتزر ذاتي الحركة عيار 122 ملم في دونيتسك أول من أمس (إ.ب.أ)

مسيّرات أوكرانية تهاجم منشأة لتخزين الوقود في وسط روسيا

هاجمت طائرات مسيرة أوكرانية منشأة للبنية التحتية لتخزين الوقود في منطقة أوريول بوسط روسيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناته عبر «تلغرام»)

زيلينسكي يدعو إلى  تحرك غربي ضد روسيا بعد الهجمات الأخيرة

دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الغرب إلى التحرك في أعقاب هجوم صاروخي جديد وهجوم بالمسيرات شنتهما روسيا على بلاده

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف (د.ب.أ)

الكرملين: التصريح الأخير لترمب بشأن أوكرانيا «يتماشى تماماً» مع الموقف الروسي

نوّه الكرملين الجمعة بالتصريح الأخير لدونالد ترمب الذي اعترض فيه على استخدام أوكرانيا صواريخ أميركية لاستهداف مناطق روسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا القوات الأوكرانية تقصف مواقع روسية على خط المواجهة في منطقة خاركيف (أ.ب)

مسؤول كبير: أوكرانيا ليست مستعدة لإجراء محادثات مع روسيا

كشف أندريه يرماك رئيس مكتب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مقابلة أذيعت في وقت متأخر من مساء أمس (الخميس) إن كييف ليست مستعدة بعد لبدء محادثات مع روسيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا عسكري أوكراني يحتمي أمام مبنى محترق تعرَّض لغارة جوية روسية في أفدييفكا (أ.ب)

قتال عنيف... القوات الروسية تقترب من مدينة رئيسية شرق أوكرانيا

أعلنت القيادة العسكرية في أوكرانيا أن هناك قتالاً «عنيفاً للغاية» يجري في محيط مدينة باكروفسك شرق أوكرانيا، التي تُعدّ نقطة استراتيجية.

«الشرق الأوسط» (كييف)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.