الحروب... هل حقاً تختار موعدها؟

كان الفارابي يرى أنها طبيعة جوهرية في الإنسان

مارشال روزمبيرغ
مارشال روزمبيرغ
TT

الحروب... هل حقاً تختار موعدها؟

مارشال روزمبيرغ
مارشال روزمبيرغ

ليس بغريب أن يحتاط الإنسان من كل شيء قد يتسبب في تعطيل نبض الحياة فيه. يتشبث بتلابيبها ويحرص على استمراريتها فيه واستمراريته فيها. لكنه رغم ذلك يأسره شغف المغامرة بأنواعها، ويستهويه ركوب الأخطار، ومحاذاة شبح الموت، بل مشاكسته وملامسته أحياناً.
ليس بعجيب أن يمجد الإنسان الحياة أيما تمجيد، ثم يذهب منصاعاً إلى الحرب. جندياً بسيطاً. يختبئ خلف سلاحه العاج بالذخيرة. يحتمي به. يتمترس خلفه وهو يدرك أنه لن يقدر على صد خطر الموت عنه. ثم إن شعوراً بالوحدة والاغتراب سيجتاحه رغم وجود آلاف المقاتلين حوله، وخلفه، وأمامه، وترسانة الأسلحة الضخمة والمتطورة. سينتابه الإحساس أنه سيموت وحيداً وغريباً إن أصابته شظية. لن ينتبه له أحد. فكل مجند من هؤلاء الآلاف بل الملايين، سيراوغ الحياة عن نفسها وحيداً، ويتشبث بالجحيم الذي هو فيه، بكل ما أوتي من قوة وحيلة، حتى لا يعبُر إلى العالم الآخر بجحيمه وجناته.عالم الأموات. رغم أنه عالم آخر يشمل الحياة الأخرى التي يؤمن بها بشدة وعمق، ويوصلها بحياته المؤقتة، كأفق جديد مفتوح على الخلود والجمال والعدالة والحرية... نعم...سيكون وحيداً في موته، مثل آلاف المحاربين الآخرين. سيكونون جميعاً وحيدين في ميتاتهم.
- الحياة جميلة لكن بها أشياء حمقاء.
- مثل ماذا؟
- الحرب مثلاً.
لا شك فهي لعنة دائمة. تغيرت قناعات كثيرة عند المخلوق البشري، من دهشته حيال ظاهرة شروق الشمس وغروبها، وصولاً إلى علم الأنساب الجيني. ما عدا الحرب فقد ظلت هي الحرب.
ويا للغرابة. فقد تغيرت عنده قناعات عدة، من بينها أن الأرض لم تعد مركز الكون، وأنها ليست ثابتة، وتبدّى له أيضاً أنها تدور حول نفسها وتدور حول الشمس. إلا الحرب ظلت حالة ثابتة. يدور الزمن، ويخبرنا التاريخ منذ «ملحمة جلجامش» أول نص بشري كُتب على الأرض وحتى عصرنا هذا الحافل بثمار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بأن الحرب نشاط بشري بامتياز. إنها حالة درامية تتكرر عبر الأزمنة. لا تهدأ الصدامات بكل أنواعها ومنها الدبلوماسية، ويحتدم الصراع، وتتواصل الانقلابات، والتسابق نحو التسلح، وحروب العصابات، والنزاعات، والاحتلالات، والمواجهات الداخلية، والحروب الطويلة، والاحتجاجات، والمظاهرات الدامية، والهجرات الجماعية، والعصيانات المدنية، والانتفاضات، والاستثمار في تطوير الأسلحة الفتاكة وليس يهم إذا ما فتكت بالكون كله.
لكن من قال إن المخلوق البشري يستطيع أن يُشفى من إدمانه من نشاطه الأثير الموجع: الحرب؟ إنه فقط يتناساها ليسترجع أنفاسه منها ولها، كما يفعل عصفور حين يغرد صباحاً بشغف، وكأنها لم تكن عاصفة البارحة...
نعم منذ أقدم حرب، حرب الحاضرتين السومريتين لغاش وأُمّا، وحروب بلاد ما بين النهرين، إلى حرب طروادة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إلى غزوات المغول التي خلفت ثلاثة وخمسين مليون قتيلٍ، وحروب روما القديمة، وآسيا الشرق الأوسط، واليونان، وأوروبا، وأميركا الجنوبية، وتمرد التابينغ في الصين الذي خلف أربعة وأربعين مليون قتيلٍ وغيرها وغيرها... وحتى الحربين العالميتين المدمرتين حيث خلفت الأولى 1914 - 1918 حوالي 18 مليونا كخسائر بشرية، والثانية 1939 - 1945 تسببت في 60 مليون ضحية لتأتي الحروب الارتدادية التي توالدت بعدها وحتى الآن. حروب تشاهَد على المباشر بدم بارد. تتسارع أحداثها المأساوية على الشاشات. أمام أعين الناس الباردة. وكأن وباء خطيراً انتشر بين البشر اسمه: التحديق البارد في المجازر.
هل حقاً تختار الحروب موعدها؟ هل هذا ما يحدث الآن... إذ يدور الكوكب دورته، وينتصف القرن بالكاد أو يزيد، كما ينتصف نهارٌ تتوسط سماءَه شمسُ صيف حارق. يبدو أنه الوقت الملائم لموعد انطلاق الحروب الكبرى. فبعد أن اختمرت، بدأت تتململ آلياتُها وتزمجر على الأبواب. انقضت فترة الاستراحة الباردة من الحروب الحامية السابقة. فترة ليست للسلام ولكن من أجل الاستعداد لحرب جديدة، من أجل سن السيوف، والنصال، والحِراب، والمجانيق، وتصنيع الرصاص، والقنابل البيولوجية البكتيرية الجرثومية، والمهجنة وراثياً، وتحديث المدرعات، والراجمات، والقباب السماوية الواقية، وتحديث الترسانة النووية، ومداعبة الرؤوس الحربية النووية الغافية إلى حين، قبل أن تحملها الصواريخ العابرة للقارات، وتطوير تكنولوجيا السلاح، والتخطيط لاستراتيجيات نووية، وعد الصواريخ فرط - صوتية، والأزرار النووية، وتوفير أقراص اليود والملاجئ النووية...
هل يجب الهلع؟! لماذا يهجم البشر على بشر آخرين ويرومون إفناءَهم... ما الذي يجب فعله بما أن الحرب ليست أمراً طارئاً، وأنها متجذرة في جينات المخلوق البشري منذ البدء، وأن فاعليتها بدت جلية في نواميس الكون منذ الصراع الدموي الأول لسليلي آدم، قابيل ضد أخيه هابيل، إلى ما يخترعه خيال عرافي التاريخ البشري المسكون بحرب نجوم قادمة ونهاية العالم...
ما الخطب؟ أليس من سبيل إلى واقع جديد، تستحدِث فيه مهاراتُ العقول الخلاقة في مراكز أبحاثها العلمية العالمية مصْلاً ناجعاً يُسمى «مصل السلام العالمي»، يقي البشرَ ويحميهم من فيروس الوباء العضال المسمى: «الحرب»؟ وتفنيد الفكرة الشائعة أنها شر لا بد منه، وأنها حتمية كي يستعيد بها الإنسان طبيعته السياسية التي خلق من أجلها كما يرمي إلى ذلك الفيلسوف أرسطو، لتتردد حتى زمن دوركهايم وميكافيلي وسيغموند فرويد. وأنها ضرورية كما يخبرنا بذلك ابن خلدون حاسماً، وهو فيلسوف الحروب بامتياز، يسوغ الحرب علانية مستنداً إلى ما استقاه من آراء الفلاسفة والملاحظين لشؤون الحروب قبله، من فلاسفة اليونان ومن فلاسفة المسلمين، من بينهم الفيلسوف اليوناني هيراقليطس الذي مجد الحرب في كتاب له، والقديس أوغسطين الذي اعتبرها مرتبطة بطبيعة السوء الكامن في جوهر الإنسان منذ خطيئته الأولى وخروجه من الجنة. لكن فيلسوف الحرب ابن خلدون يستند أكثر في هذه المسألة إلى الفيلسوف والعالم أبي نصر الفارابي. أقربهم إليه، ومرجِعه في تأسيس رأيه القائل بأن الحرب طبيعة جوهرية في الإنسان. تنتج من رغبته في حب التسيد والسيطرة وأخذ ما في يد الغير، والاستيلاء على ما ليس يملكه من خير. ومنطلقاً من معرفته لملابسات الحروب في عصره وما سبقه، يذهب ابن خلدون، إلى تحليل ظاهرة الحرب وزعمائها وأسباب قيامها، وأشكالها، وخِدعها، وحِيلها، ويعالج تأثيراتها السلبية من خراب وتدمير، ويعرض نتائجها الإيجابية باعتبارها من أسباب التمدن. فهل سيفيد اختراع المصل في شيء يا ترى؟ لا بأس... فلنحلم ما دام الحلم لا يحاسب عليه بالقتل.
لا شك أن التفكير في السلام أجدى للإنسانية... فالتنظير للحرب وتسويغها يصير من باب الترف الفكري ما دامت كل حرب تجرّ حرباً أخرى جديدة بكل حمولتها المأساوية... ماذا لو تم التنظير للسلام والبحث عن شروطه وأسباب انتفائه ومسوغات دوامه. ما دامت الحرب حماقة فردية لمن يأمر بها ويشعل فتيلها، وحماقة وسذاجة جماعية لمن يصير حطباً ونثار رماد لها.
لماذا الانحدار المريع نحو جحيم الحرب، بينما العقل البشري بعبقريته وهو الذي اخترع الحوار، ربما قبل أن يفعل ذلك أفلاطون في جمهوريته، يستطيع إيجاد طرق وأسباب لتفاديها.
ولأن لا جمهورية فاضلة مشتهاة على الأرض، تظل تركيبة الإنسان المركبة المتناقضة، تشغل أذهان الذين يحفرون في طبقات التاريخ وجيوبه، ويؤمنون بقدرات العقل البشري على الهدم وعلى البناء على السواء. ويؤذي ضمائرَهم ما تركته الحروبُ من أحزان وجروح ومصائب وآلام للإنسانية منذ غابر الأزمان.
لا مصل هناك... لكن العقل البشري بعبقريته تفطن بأن لكل شيء نقيضه. الحرب لها نقيضها: إنه السلام ولن يتحقق إلا بالحوار العالِم والهادئ، وبالدبلوماسية الماهرة، وتجاوز منطلقات «الحوار» الذي يدخله كل طرف مدججاً - مسبقاً - بقناعاته ومعتقداته الراسخة بِنية تَخطيء الآخر وتكذيبه وشيطنته. منطلقات مغلوطة تؤدي إلى العنف كما يؤكد ذلك صاحب نظرية «التواصل غير العنيف»، الفيلسوف مارشال روزمبيرغ Marshall Rosenberg. الحوار يضحى لعبة خطيرة وعنيفة عندما يأتيه كل طرف بقناعة امتلاك الحقيقة كلها. ينصتُ إلى الآخر ليس بنية محاولة فهمه، بل بنية تفنيد رأيه. إنها سبل لن توصل إلا إلى مزيد من العنف، ولن تتمخض إلا عن قرقعة السلاح، وبدل أن تتكلل بمصافحة الأيدي للسلام، ستدفع باليد القلقة لتتسلل أصابعُها، وتضغط على الزر السري للسلاح النووي لا قدر الله.
أحقاً أن الإنسان لا يطيق العيش في سلام، ولا يستطيع أن يقاوم مضاعفات إدمان رؤية الدم بدم بارد، فيعود للُعبتِه الأثيرة، لعبة القتال، بعد الشعور القاتل بالحرمان منها...؟ أم أن المواطن البسيط في كل أنحاء البسيطة، يريد أن يعيش حياة تنعم بالسلام لمقاومة موت آخر؟ لعل الحقيقة أن هذا يتعارض مع الأقوياء، لأنهم يدركون أن «السلام» لا يخلق أبطالاً، ولا الدبلوماسية قادرة أن تخلق رموزاً. بل هي الحرب، الحرب وحدها تسجل أسماءهم في سجلاتها حتى وإن كانت سجلات سوداء ودامية.

- روائية وشاعرة جزائرية


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.