نظرة فلسفيّة في معنى «الإعجاب» على مواقع التواصل

كأنها عُملة «رأس مال» اجتماعي

نظرة فلسفيّة في معنى «الإعجاب» على مواقع التواصل
TT

نظرة فلسفيّة في معنى «الإعجاب» على مواقع التواصل

نظرة فلسفيّة في معنى «الإعجاب» على مواقع التواصل

لقد غيّر انتشار الإنترنت أشياء كثيرة في هذا العالم. ولا شك في أن تأثيره على مجال التواصل بين البشر كان ثوريّاً بحق، إذ جعل من هذا الكوكب المترامي الأطراف قرية صغيرة، بحيث يمكن بأقل الجهد وأرخص التكاليف ربط أي عدد من الأشخاص معاً، وتبادل الرسائل فيما بينهم بأشكال مختلفة، كما منح الجميع فرصة تأسيس دوائر اتصال تتراوح بين عدد محدود من الأقرباء والأصدقاء إلى جمهور عالمي قد يغدو كبيراً، وكل ما بينهما.
التغيير الأهم مع ذلك مسّ معنى التواصل وماهيته، إذ إن الشبكات الاجتماعيّة أضافت جوانب جديدة لصيغ التخاطب الإنساني، مثل «الإعجابات» أو إعادة التغريد، كما أشكال جديدة للتعبير، مثل «الإيموجي»، والتعبيرات المختصرة، والـ«جي آي إف»، وغيرها، والتي أصبحت خلال أقلّ من عقد واحد جزءاً لا يتجزأ من خبرة التواصل لما يقارب 4 مليارات مستخدم للمنصات الاجتماعيّة عبر العالم، يقضي كل منهم ما معدله ساعتين ونصف يومياً في التفاعل معها.
ومع كل هذه التغييرات الهائلة المتسارعة، ما زال البحث الفلسفي والقانوني واللغوي بشكل عام متأخراً عن تفكيك وتفسير سرعة أدوات الخطاب الجديد تلك. ومن ذلك -مثلاً- الجدل القانوني الذي شهدته محكمة في زيوريخ (سويسرا) عام 2020، بعدما حكم القضاة بأن وضع علامة الإعجاب على منشور مسيء على «فيسبوك» يرتقي كي يكون عملاً جرمياً، على اعتبار أن علامة الإعجاب إشارة إلى تأييد المحتوى –المسيء في هذه الحالة– والمساعدة على نشره، بحكم أن خوارزميات هذه المنصة توصل المنشورات بطريقة أو بأخرى إلى جمهور صاحب علامة الإعجاب. وهناك حالات قانونيّة سُجلت في بريطانيا والهند وتايلاند لأناس استُدعوا إلى المساءلة أو اعتُقلوا جراء إبدائهم الإعجاب بمنشورات معينة.
ومن المعروف أن خاصية الإعجاب بالتحديد تمتاز بسهولتها المطلقة، إذ لا تتطلب كبير جهد سوى الضغط على الزر المناسب. لكن قبل إضافتها لمواقع التواصل كان رد الفعل الممكن الوحيد هو كتابة تعليق، الأمر الذي لا يفضله كثيرون لما يتطلبه من وقت وجهد وحذر أيضاً. والواقع أن استخدام خاصية الإعجاب على الشبكات الاجتماعيّة لا تعني بالضرورة أن الشخص يقول بأنّه يمتدح محتوى المنشور، بقدر ما هو ينخرط في سلوك اجتماعي أقرب إلى تعابير الوجه أو الابتسامة أو التلويح باليد أو الأصوات التي نصدرها كي نُشعر الآخر بأننا نستمع له، أو حتى تلك التعابير الفارغة من المعنى التي نتبادلها كنوع من المجاملة، مثل: «كيف الحال»، و«يا له من طقس جميل»، وهكذا. وهو ربما يعني مديح المحتوى للبعض؛ لكنه أيضاً قد يكون بمثابة تقدير متبادل بين طرفين يتبادلان الإعجابات، ربما دون الاطلاع على تفاصيل مادة المنشور. وهناك حتى أمثلة لمنشورات تعلن عن وفاة أشخاص حازت إعجابات مليونيّة، لم يكن أصحابها بالتأكيد يعبرون عن إعجابهم بموت نجومهم، بقدر ما كان نوعاً من إبداء المشاركة العاطفيّة في الحدث الحزين، أو حتى تأكيداً اجتماعيّاً للاطلاع على ذلك المنشور. ولذلك فإن المعنى الحقيقي للإعجاب يظل في أفضل الأحوال ملتبساً وغير محسوم.
وحتى عندما حاولت منصة «فيسبوك» –أكبر الشبكات الاجتماعيّة على الإطلاق بحوالي 2.5 مليار مستخدم– إضافة تعبيرات أدق للتعبير عن المشاعر تجاه المنشورات، فإن معناها النهائي أيضاً غير مؤكد. فهل إشارة الضحك تعني تأييداً للمنشور أم سخرية منه؟
على أنّ إبداء الإعجاب الفردي قد يكون أقل أهميّة في بيئة الشبكات الاجتماعيّة من عمليّة تراكمه، التي يبدو أنّها تمنح عند تكرره وتضخم أعداده، صاحب الحساب، نوعاً من مكانة أو سلطة، كأنها «رأس مال اجتماعيّ» على الصيغة التي وصفها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، يمكن أن يستثمر تالياً لكسب رأس مال سياسي أو اقتصاديّ، ناهيك عن قيمتها المضمرة كشبكة علاقات اجتماعيّة، تقارب تلك التي ينسجها المرء من خلال عضويته في نادٍ اجتماعي أو لجنة تطوعيّة.
وفي الحقيقة، فإن الحصول على الإعجابات قد يتضمن جوانب أبعد حتى من مسألة اكتساب المكانة تلك. فطبيعة التواصل عبر المنصات الافتراضيّة تبدو من دون تلقي ردود أفعال من الآخرين، أشبه بالصراخ في فضاء مفتوح، ولذلك فإن الإعجابات من تلك الناحية ضروريّة لمنح صاحب المنشور الشعور باكتمال عمليّة التواصل (مرسل ورسالة ومتلقٍّ)، وإن ما عبّر عنه يلقى نوعاً من القبول الاجتماعي، أقلّه على سبيل الافتراض، وإلا فغالباً ما سينتهي إلى الانسحاب من العمليّة.
وأيضاً، لا شكّ في أن منح الإعجابات يخلق بشكل عام نوعاً من الأجواء الإيجابيّة في العلاقات الاجتماعيّة، كما الهدايا أو البطاقات البريديّة التي يتم تبادلها في المناسبات، وبالطبع يبقى معناها النهائي مرتبطاً بالشخصين وطبيعة علاقتهما؛ سواء الحقيقية أو الافتراضيّة، مع الصلاحيّة للمتلقي دائماً في قبولها من عدمه، لا سيما في حالات تتعلق بشخصيات تقتصر معرفتنا بها على الشبكات، أو تتعلق بأفراد من جنسين مختلفين، إذ يمكن في بعض الأحيان أن تقرأ تلك الإعجابات في إطار إيماءات أقرب للغزل –الافتراضي دائماً-.
ولبناء رأس مال اجتماعي من وراء الإعجابات، سيكون ضرورياً الاستمرار في إنتاج المنشورات والتفاعل مع الآخرين على شبكة التواصل، وهي عمليّة تتطلب وقتاً وجهداً، ويضطر بعض المشاهير لتوكيل إدارتها اليوميّة لمساعدين. على أن الأبحاث أظهرت أن تلقي الإعجابات بأعداد كبيرة على الشبكات الافتراضيّة يمنح الشخص شعوراً بالسعادة، إذ وُجد أنها تطلق مادة «الدوبامين» في الدّماغ، تماماً كما لو كان الشخص قد تلقى هديّة مالية مثلاً، ولذلك فإن كثيرين ينتهون إلى مستوى ما من الإدمان على تلقي الإعجابات، والشعور بآثار الانسحاب عند انحسارها.
ويتفق كثيرون اليوم على أن الصيغة التي بُنيت عليها خوارزميات شبكات التواصل تساعد بشكل عام في نشر معلومات ومعارف وتحديثات وآراء، لم يكن ممكناً في أوقات سابقة الوصول إليها، أقلّه بالسهولة التي تقدّمها الشبكات في وقتنا الرّاهن. لكن ذلك ينبغي ألا ينسينا الجوانب السلبيّة التي يمكن لها أن تتضمنها تجربة الشبكات الافتراضيّة، ومنها السقوط في فخّ التخندق مع أشخاص يقاربوننا في الفكر، والابتعاد عمن لا تعجبنا أقواله دون دلائل. وهذا يؤدي إلى نشوء نوع من «غُرف صدى» من متشابهين لا يثقون بجمهور غرف الصدى الأخرى، على نحو يعيق صيغ الحوار السياسي بين مختلف فئات المواطنين، ويعيد إنتاج الاستقطابات القائمة بينهم ويعمقها. ويشتق من هذه الجهة أن التورط في غرف الصدى تلك يدفع بصاحبه إلى نوع من الكسل الفكري، وتوزيع الإعجابات كجزء من لعبة نكاية بالآخرين، الأمر الذي يخلق بيئة من العلاقات السطحيّة دون فهم معمّق لماهيّة المحتوى المتضمن في المنشورات والتغريدات، أو برغم رداءته، وهو ما يسميه الفلاسفة «سقوط المعنى». ولعل ذلك يفسّر ظواهر مثل: شعراء/ شاعرات «فيسبوك»، أو المفكرين الافتراضيين السطحيين الذين قد تدفعهم الإعجابات المتواردة إلى نشر مزيد من المادة الرديئة، وشغل الفضاء الافتراضي بها.
وقد تنبه القائمون على شبكات التواصل الاجتماعي إلى الجوانب السلبية لمسألة تجميع الإعجابات تلك، والسلوكيّات الخطرة التي يقوم بها البعض سعياً للحصول عليها. وهم بصدد إجراء تجارب للتخلّص من عداداتها الملحقة بكل منشور، بينما أضاف «فيسبوك» خدمة اختيارية يمكن من خلالها إخفاء العدادات الظاهرة أمام المستخدم على صفحته.
ومع ذلك، فإن الإعجابات تحديداً، وجوانب التواصل الإنساني التي أضافتها الشبكات الافتراضية، تظل في النهاية محايدة القيمة، كما كل تكنولوجيا حديثة، ومتعددة الأوجه، بحيث يمكن استخدامها في الأبيض من المعنى، كما في الأسود منه.


مقالات ذات صلة

مَن يتحمل مسؤولية «أكاذيب» الذكاء الاصطناعي؟

إعلام مَن يتحمل مسؤولية «أكاذيب» الذكاء الاصطناعي؟

مَن يتحمل مسؤولية «أكاذيب» الذكاء الاصطناعي؟

لم يكن الذكاء الاصطناعي مجرّد أداة تقنية مساعدة في الإعلام، بل بات اليوم شريكاً فعلياً في صياغة الخبر، وتحرير المحتوى، بل تشكيل الانطباعات عن الأشخاص والشركات.

إيلي يوسف (واشنطن)
الخليج من اجتماع اللجنة الإعلامية المنبثقة عن «مجلس التنسيق السعودي - القطري» في الدوحة الخميس (واس)

مباحثات سعودية - قطرية لتعزيز التعاون الإعلامي

بحث سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي مع الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني رئيس المؤسسة القطرية للإعلام، سبل تعزيز وتطوير آليات التعاون والشراكة الإعلامية بين البلدين.

«الشرق الأوسط» (الدوحة)
يوميات الشرق وزير الإعلام السعودي يلتقي رئيس صحيفة الشعب الصينية بالتزامن مع افتتاح مكتبها الإقليمي في الرياض (الوزارة)

صحيفة الشعب الصينية تفتتح مكتبها الإقليمي في الرياض

افتتحت صحيفة الشعب الصينية مكتبها الإقليمي في الرياض، ليُمثِّل جسراً للتواصل الثقافي والتبادل الإعلامي والمعرفي بين البلدين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون تُوِّجت «مانجا العربية» بجائزة التميز لتطويرها محتوى رقمياً يعزّز تجربة القراءة بأساليب عصرية (واس)

«معرض الرياض للكتاب 2025» يختتم فعالياته بتوزيع «جوائز التميز»

توَّج معرض الرياض الدولي للكتاب 2025 شركة «مانجا العربية»، التابعة لـ«المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)»، بجائزة التميز في النشر عن فئة المنصات الرقمية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق لمى الصبّاح تعد بسنّ قوانين للحدّ من ظاهرة التنمّر (الصبّاح للإنتاج)

«الصبّاح للإنتاج» تُطلق «بودكاست من أجل قضية» لمكافحة التنمّر

«بودكاست من أجل قضية» سيُصوَّر في أكثر من بلد عربي، فيُسلّط الضوء على معاناة شخصيات معروفة في السعودية، والإمارات، وبلاد المغرب.

فيفيان حداد (بيروت)

تكريم عمر خيرت في الدورة الأولى لـ«مهرجان الأوبرا» بقطر

الموسيقار المصري عمر خيرت (وزارة الثقافة المصرية)
الموسيقار المصري عمر خيرت (وزارة الثقافة المصرية)
TT

تكريم عمر خيرت في الدورة الأولى لـ«مهرجان الأوبرا» بقطر

الموسيقار المصري عمر خيرت (وزارة الثقافة المصرية)
الموسيقار المصري عمر خيرت (وزارة الثقافة المصرية)

يستهل «مهرجان الأوبرا العربية» فعاليات دورته الأولى في قطر بتكريم الموسيقار المصري عمر خيرت، وذلك برعاية وتنظيم «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» (الألكسو)، حيث اختيرت مصر ضيف شرف المهرجان بوصفها صاحبة أقدم دار أوبرا في العالم العربي.

وتنطلق الدورة الأولى للمهرجان بالتعاون مع المؤسسة العامة للحي الثقافي (كتارا) خلال الفترة من 8 حتى 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وقد تقرَّر تكريم عمر خيرت «تقديراً لعطائه وعرفاناً بدوره الرائد في إثراء ساحة الإبداع العربي»، وفق بيان لوزارة الثقافة المصرية. ويقدِّم «أوركسترا القاهرة السيمفوني» بقيادة المايسترو أحمد عاطف حفلاً يتضمن مجموعة من المؤلفات المصرية لكل من علي إسماعيل، وفؤاد الظاهري، ويوسف شوقي، وعمار الشريعي، وحسن أبو السعود، وعمر خيرت، وأندريا رايدر.

وعدَّ الدكتور علاء عبد السلام، رئيس «دار الأوبرا المصرية»، اختيار الأوبرا المصرية ضيف شرف الدورة الأولى «تأكيداً لأعرقيَّتها عربياً»، مشيراً إلى أن ذلك «يُبرز عمق العلاقات بين الأشقاء ويعكس التطلعات إلى مستقبل أكثر إشراقاً للفنون في المنطقة». وأضاف أن «احتضان دولة قطر للمهرجان خطوة ثقافية رائدة تعكس تقديرها للمسار الفني العربي، وتُبرز أهمية تلاقي التجارب والمؤسسات الفنية في فضاء واحد تُصاغ فيه مشروعات جديدة وتُفتح آفاق رحبة للتعاون والإبداع».

«دار الأوبرا المصرية» ضيف شرف «مهرجان الأوبرا» بقطر (وزارة الثقافة المصرية)

وقال الناقد الفني المصري أحمد السماحي إن «عمر خيرت يستحق هذا التكريم عن جدارة؛ فهو منذ بداياته يقدِّم نغمة مختلفة ومتجددة، وعمل على تطوير الموسيقى المصرية من خلال توزيعاته أولاً ثم من خلال مؤلفاته». وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «خيرت من أوائل من ساهموا في تطوير التوزيع الموسيقي في الوطن العربي، ونجح في جذب أجيال واسعة، خصوصاً من الشباب، إلى الموسيقى، وقدّم ألبومات موسيقية خالصة بأسلوب متفرد حظيت بنجاح وانتشار كبيرين».

وقدّم عمر خيرت عدداً كبيراً من الألبومات والمقطوعات التي ارتبطت بالدراما والسينما، وغنَّى من أعماله نجوم الطرب في مصر والعالم العربي، مثل علي الحجار، ومحمد الحلو، ومدحت صالح، وحنان ماضي، ولطيفة. ومن أشهر مقطوعاته السينمائية «قضية عم أحمد»، و«إعدام ميت»، و«ليلة القبض على فاطمة»، و«عفواً أيها القانون»، ومن موسيقاه في الدراما «ضمير أبلة حكمت»، و«البخيل وأنا»، و«غوايش».

وكان مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية، الذي عقد دورته الـ24 في الرباط (المغرب)، قد أقر إقامة «مهرجان الأوبرا العربية» في قطر، واختيرت «دار الأوبرا المصرية» ضيف شرف دورته الأولى بالنظر إلى أسبقيتها التاريخية، إذ أسَّست مصر أول دار أوبرا في الوطن العربي، وفق بيان وزارة الثقافة.

ويرى الناقد الفني المصري أحمد سعد الدين أن «تكريم عمر خيرت في (مهرجان الأوبرا العربية) الأول يعكس القيمة الكبيرة التي يُمثِّلها في الموسيقى العربية، وليس المصرية فقط»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «الاختيار موفَّق جداً، سواء في تكريم خيرت أو في اختيار (دار الأوبرا المصرية) ضيفَ شرفٍ بوصفها الأقدم عربياً».

أُنشئت «دار الأوبرا المصرية» عام 1869 على يد الخديو إسماعيل ضمن احتفالات افتتاح قناة السويس. وبعد أكثر من قرن كانت فيه الأوبرا الخديوية المنارة الثقافية الأبرز في الشرق الأوسط وأفريقيا؛ احترق مبناها في أكتوبر (تشرين الأول) 1971. ومن ثَمَّ اختيرت أرض الجزيرة مقراً للمبنى الجديد بالتنسيق مع هيئة التعاون الدولية اليابانية (JICA) والاتفاق على تصميم معماري إسلامي حديث، ليُفتتح المبنى الجديد في 10 أكتوبر 1988.


«حجر رشيد»... رحلة الأثر الذي فك طلاسم الحضارة المصرية

«حجر رشيد» فيلم وثائقي جديد بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)
«حجر رشيد» فيلم وثائقي جديد بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)
TT

«حجر رشيد»... رحلة الأثر الذي فك طلاسم الحضارة المصرية

«حجر رشيد» فيلم وثائقي جديد بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)
«حجر رشيد» فيلم وثائقي جديد بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)

تحت عنوان «حجر رشيد: مفتاح الحضارة المصرية»، أنتجت مكتبة الإسكندرية فيلماً وثائقياً جديداً هو الخمسون ضمن مشروع «عارف... أصلك مستقبلك» الذي يتناول موضوعات تاريخية وبيئية، ورموزاً في مجالات شتى، ويقدم رحلة بصرية شيقة تمزج بين دقة المعلومة التاريخية وسحر الحكاية.

الفيلم الأحدث بسلسلة الأفلام الوثائقية يتناول حجر رشيد؛ ليس كمجرد قطعة أثرية؛ بل كقصة حضارة خالدة ألهمت العالم أجمع، من خلال استعراض أن الحضارة المصرية قد بدأت قبل عملية التدوين.

يستعرض الفيلم تطور أنظمة الكتابة المصرية القديمة، عبر الخطوط الثلاثة المنقوشة على الحجر، وهي: الهيروغليفية (الرسم المقدس)، والهيراطيقية (خط الكهنة)، والديموطيقية (الخط الشعبي)، وصولاً إلى القبطية التي مثلت الجسر الصوتي للغة المصرية القديمة.

ويتتبع الفيلم رحلة الحجر الأثري، بدءاً من معبد «سايس» بمحافظة الغربية، ومروراً باستخدامه كحجر بناء في قلعة «قايتباي» ببرج رشيد خلال العصور الوسطى، حتى اكتشافه عام 1799 على يد الملازم الفرنسي بيار بوشار.

ويسرد الفيلم قصة الصراع اللاحق عليه بين القوات الفرنسية والإنجليزية، الذي انتهى بوجود الحجر في المتحف البريطاني حالياً.

ويُبرز الفيلم المعركة العلمية الطويلة التي دارت لفك طلاسم الحجر، مسلطاً الضوء على جهود العلماء الأوائل، مثل السويدي يوهان أكربلاد، والإنجليزي توماس يانغ. ويُظهر الوثائقي كيف نجح العبقري الفرنسي جان فرنسوا شامبليون في تحقيق الانتصار العلمي. ويكشف أن تفوق شامبليون جاء نتيجة إجادته للغة القبطية التي استخدمها لربط الصوت بالصورة في النصوص القديمة. ففي سبتمبر (أيلول) 1822، أعلن شامبليون نجاحه في فك أول رموز الكتابة المصرية القديمة. وبهذا الإنجاز، تحول حجر رشيد رسمياً من مجرد وثيقة ملكية قديمة للإعفاء من الضرائب إلى أيقونة عالمية، ومفتاح جوهري لفهم التراث الإنساني.

الكتابة المصرية القديمة ظلت لغزاً لزمن طويل (مكتبة الإسكندرية)

ووفق مدير مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي، بقطاع التواصل الثقافي في مكتبة الإسكندرية، الدكتور أيمن سليمان، فإن الاهتمام بإنتاج فيلم عن حجر رشيد يعود لأهمية هذا الحجر، ودوره في الكشف عن أسرار الحضارة المصرية القديمة، بعد فك طلاسم لغتها ومعرفة أبجديتها، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «فمن خلال لوحة تعود للعصر اليوناني– البطلمي عبارة عن مرسوم ملكي للإعفاء من الضرائب، وُضعت في كل المعابد تقريباً، نقل جزء منها لإعادة بناء قلعة قايتباي على نهر النيل بمدينة رشيد، استطاع العلماء فك رموز الكتابة المصرية»؛ لافتاً إلى أن عالم الآثار الفرنسي جان فرنسوا شامبليون (1790– 1832) استطاع أن يترجم ويكشف عن اللغة المصرية القديمة، نظراً لمعرفته اليونانية والقبطية، وبالمقارنة استطاع أن يترجم منطوق اللفظ والكلمة من الخط المصري القديم؛ سواء المقدس (الهيروغليفي) أو الخط الشعبي (الديموطيقي).

وقدمت سلسلة «عارف... أصلك مستقبلك» 49 فيلماً وثائقياً من قبل، من بينها أفلام: «وادي حيتان»، و«بورتريهات الفيوم»، و«أبو العباس المرسي»، و«الألعاب في مصر القديمة»، و«حديقة الزهرية»، و«توت عنخ آمون الملك الذهبي»، و«أمير الخرائط».


«مَن الذي لا يزال حيّاً» يوثق أحوال الفلسطينيين الفارين من «جحيم غزة»

عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً ضمن فعاليات «مهرجان القاهرة السينمائي» (الشركة المنتجة)
عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً ضمن فعاليات «مهرجان القاهرة السينمائي» (الشركة المنتجة)
TT

«مَن الذي لا يزال حيّاً» يوثق أحوال الفلسطينيين الفارين من «جحيم غزة»

عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً ضمن فعاليات «مهرجان القاهرة السينمائي» (الشركة المنتجة)
عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً ضمن فعاليات «مهرجان القاهرة السينمائي» (الشركة المنتجة)

لم يكن المخرج السويسري نيكولا واديموف يدرك أن اندلاع «حرب غزة» سيقلب أولوياته رأساً على عقب، لكنه وجد نفسه عاجزاً عن التفكير في أي شيء آخر. فالرجل الذي يصوّر في فلسطين منذ نحو 30 عاماً، ويعرف كثيرين بين غزة والضفة، عاش طوال الأسابيع الأولى للحرب تحت وطأة الخوف على أصدقائه العالقين تحت القصف، كما يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط».

ويصف واديموف فكرة أن يكون أولئك الذين يعرفهم جيداً تحت النار من دون أن يعرف مصيرهم بأنها كانت «أمراً لا يُحتمل». ورغم محاولته الاستمرار في مشروعاته الأخرى، سرعان ما اكتشف أن «العقل والقلب كانا في غزة»، وأن المضي في أي مشروع آخر «أصبح مستحيلاً». عندها قرر تجميد جميع أعماله، وحاول مرتين الذهاب إلى غزة ولم ينجح، قبل أن تقوده الصدفة إلى القاهرة، حيث التقى صديقه الفلسطيني جودات هوّاري الذي خرج من القطاع بعد بدء الحرب.

يتذكر واديموف حالة صديقه النفسية في تلك الفترة، ويقول: «وجدته منهاراً كلياً، نفسياً وذهنياً، والصدمة التي رأيته فيها كانت الشرارة التي ألهمتني فكرة الفيلم، والحاجة الملحّة إلى أن تُسمَع هذه الأصوات، خصوصاً في الغرب، حيث تعمل ماكينة سياسية وإعلامية منذ سنوات طويلة على خلق مسافة بين الجمهور والفلسطينيين، وتقديمهم باعتبارهم أرقاماً، إلى حد أن التعاطف معهم بات أصعب مما ينبغي أن يكون».

الفيلم عَرض قصصاً لشخصيات فلسطينية (الشركة المنتجة)

من ذلك اللقاء وُلدت نواة فيلمه «مَن الذي لا يزال حيّاً» الذي عُرض في النسخة الماضية من مهرجان «القاهرة السينمائي»، فقد عرّفه صديقه الفلسطيني على آخرين من أبناء غزة المقيمين في القاهرة، فسجّل أصواتهم أولاً، ومن ثَّم بدأت بينهم فكرة بناء فيلم كامل، قبل أن يضمّ شخصيات أخرى يعرفها هو شخصياً من غزة، ليكتمل الفريق المكوّن من 9 أشخاص.

تقوم فكرة فيلم «مَن الذي لا يزال حيّاً» على «إعادة البشر إلى الواجهة في لحظة يُراد لهم فيها أن يتحولوا إلى أرقام»، كما يقول واديموف، مضيفاً أن «الفيلم يقدّم 9 فلسطينيين من غزة: كتّاباً وصحافيين وفنانين وطلاباً ومديرين ومؤثّرين تتراوح أعمارهم بين 14 و62 عاماً، جميعهم فقدوا بيوتهم وأعمالهم وذكرياتهم تحت القصف، وتحولوا إلى لاجئين».

ويشير إلى أنه شعر تجاههم بما يشبه «العائلة الصغيرة» التي ستحمل الفيلم على عاتقها. وبينما كان من المقرر تصويره في سويسرا، فإن رفض منح الحكومة أبطال الفيلم التسعة تأشيرات دخول دفعه إلى نقل الخطة إلى جنوب أفريقيا، وهي من الدول القليلة التي تستقبل الفلسطينيين من دون تأشيرة.

المخرج السويسري نيكولا واديموف (الشرق الأوسط)

ويرى واديموف أن لهذا القرار بعداً رمزياً مهماً بالنظر إلى «العلاقة التاريخية والأخوّة» بين جنوب أفريقيا وفلسطين، مستحضراً رمزية مانديلا وعرفات ونضالهما، قبل أن يمضي الفريق هناك 3 أسابيع لإنجاز التصوير.

ويعترف بأن الفيلم «كان امتحاناً قاسياً على الصعيد النفسي، ليس لي فقط، بل لكل المشاركين. استعادة الذكريات في خضم الصدمة ليست خطوة بسيطة. عادةً يعمل العلاج النفسي على إبعاد تلك الذكريات أو وضعها في مكان آمن حتى يستطيع الإنسان أن يتعافى، في حين طلبتُ العكس من المشاركين بأن يغوصوا في ذواتهم ويستدعوا ما يحاولون نسيانه».

الفيلم صُوّر في جنوب أفريقيا لعدم تمكن فريق العمل من الحصول على تأشيرات سويسرا (الشركة المنتجة)

ويضيف أنه كان يدرك أن ذلك «خطر عليهم»، لكن البيئة التي كوّنها الفريق كانت حاضنة وقائمة على الدعم المتبادل. «كنا بمثابة عائلة قوية نتشارك كل شيء، وكانوا يدعمون بعضهم طوال الوقت»، مؤكداً أن الشخصيات أمام الكاميرا لم تكن بحاجة إلى توجيه، فـ«الصدق جعل حضورهم أقوى من حضور الممثلين».

ورغم حساسية الموضوع، يوضح واديموف أن الهدف لم يكن نقل المعلومات، فالعالم - من وجهة نظره - «يعرف كل شيء»، والجميع شاهد تفاصيل الإبادة «دقيقة بدقيقة عبر وسائل التواصل»، لكن المشكلة، كما يقول، «ليست في المعرفة، بل في الإحساس. فالناس يعرفون لكنهم لا يشعرون. لذلك اعتبرت أن وظيفة الفيلم ليست إخبار الجمهور بما حدث، بل مساعدته على الشعور به؛ لأن المعرفة بلا تعاطف لا تغيّر شيئاً».

وعن المناخ السياسي في سويسرا تجاه ما يحدث في غزة وصعوبات التمويل، يتحدث بوضوح عن «انقسام البلاد إلى شطرين»، لكنه يؤكد أن هذا الانقسام لم ينعكس على تمويل الفيلم؛ إذ حصل على دعم المؤسسات الثقافية الفيدرالية والتلفزيون السويسري، الذي يصفه بأنه «شجاع ويقوم بواجبه». ويضيف: «أصدقائي دعموا خياري منذ البداية. مَن حولي يقفون في الجانب الصحيح من التاريخ، ولا أحتفظ بصداقات مع أشخاص يلتزمون الصمت أمام الإبادة؛ لأن الصمت تواطؤ».