محمَّلاً بآمال استعادة الاستقرار الأمني والسياسي، ولو بشكل نسبي، عاد «رجل المفاجآت» الرئيس الصومالي السابق حسن شيخ محمود، إلى سدة الحكم مجدداً، ليصبح الرئيس العاشر للصومال، محطماً عرفاً انتخابياً دام 62 سنة، ومواجهاً اختبار الفرصة الثانية في بلد يموج بالاضطرابات الأمنية والسياسية. تسلم شيخ محمود، منصبه كرئيس جديد للبلاد يوم (الاثنين) الماضي، وسط مراسم تنصيب محدودة بالقصر الرئاسي في مقديشو. وجاء فوزه بالانتخابات منتصف مايو (أيار) الجاري، على حساب الرئيس المنتهية ولايته محمد عبد الله فرماجو، في ماراثون انتخابي دام أكثر من سنة من قِبل أعضاء البرلمان بغرفتيه، وكان يجتمع داخل مرآب طائرة في مطار العاصمة مقديشو تحت حراسة مشددة من القوات الأفريقية، لتفادي هجمات مسلحة باتت أمراً اعتيادياً في البلاد. هذا، وسبق أن تولى شيخ محمود (66 سنة)، منصب الرئاسة من قبل بين عام 2012 وعام 2017، في حين لم يسبق أن فاز رئيس سابق بولاية ثانية في الصومال.
يرى مراقبون للمشهد الصومالي أن الرئيس حسن شيخ محمود استغل خبرته السابقة ونجاحه في فرض «هدوء نسبي» إبان فترته الأولى، وفيها تمكن من «إضعاف حركة الشباب» المسلحة والموالية لتنظيم «القاعدة»، فضلاً عن الدعم الإقليمي والدولي الذي يحظى به، كمبرر قوي لعودته للحكم مرة أخرى. وتشير أستاذة الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة هبة البشبيشي، في لقاء أجرته معها «الشرق الأوسط»، أن فوز شيخ محمود بالمنصب مرة أخرى، يعبّر عن «رغبة أعضاء البرلمان الصومالي في استعادة فترة حكمه السابقة والتي اتسمت نوعاً بوجود استقرار نسبي، ليس حقيقياً، لكن على الأقل فإن التخلص من (سلفه محمد عبد الله) فرماجو وصراعه المحتدم مع رئيس وزرائه محمد حسين، والذي تورّط فيه عدد من الموظفين الدوليين في الصومال، بات أمراً ملحاً».
غير أن شيخ محمود يواجه تحديات صعبة خلال رئاسته المقرر لها 4 سنوات. وتقول البشبيشي موضحة: «أمام الرئيس الجديد مهام صعبة بل في غاية الصعوبة من محاولة سيطرة حركة الشباب، ومواجهة الحالة الاقتصادية المتردية، وخطر المجاعة والجفاف الذي يحيط بأكثر من 3 ملايين صومالي». لكنها تعوّل مع ذلك على قدرة شيخ محمود على «إنهاء فصول التجاذبات السياسية» التي تعصف بالبلاد.
جاء فوز شيخ محمود بالرئاسة، بعد انتخابات ماراثونية دامت ثلاث جولات، اقتصر فيها حق التصويت فقط على نواب البرلمان، بسبب المخاوف الأمنية من إجراء انتخابات شاملة، حيث اقتصرت المشاركة في التصويت على 328 نائباً. وحصل الرئيس المنتخب على 214 صوتاً، مقابل 110 أصوات لصالح خصمه فرماجو في جولتها الأخيرة، أقسم بعدها محمود اليمين الدستورية.
وتعد هذه المرة الثالثة فقط الذي تجري فيها انتخابات رئاسية بطريقة غير مباشرة داخل الصومال، التي لم تشهد انتخابات ديمقراطية شعبية منذ 1969، بل إن الانتخابات السابقة أُجريت في كينيا وجيبوتي المجاورتين، الأمر الذي جعل محللين يرون أن إجراء الانتخابات بالصومال «نجاح في حد ذاته». وكان يفترض أن تجري الانتخابات العام الماضي مع انتهاء ولاية فرماجو، لكن الخلافات السياسية وعدم الاستقرار ساهما في تأجيل التصويت أكثر من مرة، ما أتاح لفرماجو البقاء في السلطة.
تقريب المسافات
يدرك شيخ محمود، الملقب محلياً بـ«رجل المفاجآت»، المهمة الرئيسية التي استُدعي إليها، وهي توحيد الصفوف ولمِّ الشمل. ولذلك استهلّ إعلان فوزه في أول كلمة له أمام البرلمان، تعهّد خلالها بالعمل على تقريب المسافات بين الصوماليين، ونافياً الانتقام من أنصار النظام السابق. ومما قاله شيخ محمود: «علينا المضيّ قدماً ولسنا بحاجة إلى ضغائن... ولا انتقام». وأردف: «لا يمكننا أن ننسى الماضي المؤلم ولكن نستطيع أن نسامح. هنا في هذه القاعة سُلمت الرئاسة إلى محمد (فرماجو) في عام 2017 وسلمها هو لي الليلة».
كلام شيخ محمود، المرفق دائماً بابتسامته الشهيرة الهادئة، ضخّ تفاؤلاً لدى كثيرين من أبناء الصومال بل والمجتمع الدولي، ما جعل الكاتب الصومالي عبد القادر علي ورسَمه، يصفه بـ«الرئيس البسام»، قائلاً: «الشيخ محمود شخصية لا تفارقه البسمة في وجهه، وقد أكد في برنامجه الانتخابي العفو العام عن الجميع... وبدأت مرحلته بهذه النوع من الفرحة والسرور... إننا نتفاءل بابتسامته، وبتحمله المشاق في سبيل الإصلاح المنشود».
في المقابل، يُجمل الخبير في الشأن الأفريقي الدكتور حمدي عبد الرحمن، السبب الأساسي في خسارة فرماجو أمام شيخ محمود بأن الأول «جعل الصومال، بما تعانيه من تحديات بناء الدولة، جزءاً من استقطاب سياسات القرن الأفريقي... فهزم الرجل الذي تشبّث بأهداب السلطة حتى آخر لحظة بالمماطلة والأساليب كافة». وأضاف في تغريدة له على صفحته بـ«فيسبوك»، «هزم فرماجو في الجولة الثالثة في ماراثون انتخابي من قبل أعضاء البرلمان بغرفتيه والذي اجتمع في أحد هناجر مطار مقديشو تحت حراسة مشددة من القوات الأفريقية. ولعل ذلك يعطي دلالة على ما قدم الرجل أنه على الرغم من السنوات الخمس التي قضاها في السلطة والأموال التي أُنفقت على المؤسسة الأمنية والعسكرية لم يتمكن البرلمان من عقد جلسته في مقره المعتاد وإنما في مكان قصيّ وبحراسة قوات أجنبية».
يدرك شيخ محمود جيداً أنه يواجه مهمة صعبة في دولة يبلغ عدد سكانها 15 مليون نسمة، وتعاني من أسوأ جفاف منذ 40 عاماً.
ويعاني الصومال من حرب أهلية وتمرد وصراع بين العشائر مع عدم وجود حكومة مركزية قوية منذ الإطاحة بالحاكم الاستبدادي محمد سياد بري عام 1991، وليس للحكومة أي سيطرة تُذكر خارج العاصمة كما تتولى قوة من الاتحاد الأفريقي حماية «منطقة خضراء». وفي محاولة لتغيير هذا الواقع المرير تعهد شيخ محمود بالإصغاء لجميع الفرقاء في الصومال، ومحاولته تشكيل مناخ سياسي حر، وقال إنه يعتزم جمع كل الأطراف على طاولة واحدة لمناقشة مستقبل البلاد.
خبرة تعليمية وتربوية
يحظى شيخ محمود، المولود في مدينة غللقسي وسط الصومال عام 1955، بخبرة تربوية وتعليمية واسعة، بخلاف خبرته السياسية كونه سبق أن تولى رئاسة البلاد بين سبتمبر (أيلول) 2012، و16 فبراير (شباط) 2017، وأنه رئيس حزب «السلام والتنمية» الذي أسسه عام 2011.
وهو أيضاً يعد ابناً للبيئة الصومالية بالأساس، فقد تلقى تعليمه الأساسي في غللقسي، قبل أن ينتقل إلى العاصمة مقديشو عام 1978 وفي عام 1981 نال درجة الليسانس في مجال التكنولوجيا من جامعة الصومال الوطنية وأجرى الدراسات العليا (الماجستير) في المجال نفسه في جامعة بركات الله الهندية عام 1988.
عمل شيخ محمود، الذي تنحدر أصوله من قبيلة «أبغال»، إحدى كبرى القبائل الصومالية، أستاذاً في جامعة حكومية حتى انهيار الحكومة المركزية في عام 1990. ولم يغادر حينها البلاد، إذ عمل في عدد من المنظمات الدولية المحلية، معتمداً على لغته الإنجليزية الجيدة، منها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) كمسؤول تربوي في جنوب ووسط الصومال، وهو من مؤسسي «جامعة سيمد» إحدى الجامعات الأهلية المرموقة في البلاد.
ورغم تمتعه بخلفية «سياسية – إسلامية»، فإنه يجهر بمعاداته لمنهج حركة «الشباب» المتطرفة ويقبل بالعمل مع الغرب لبناء الصومال، حيث يتبنى منهجاً وسطياً توافقياً لا يمانع فيه من تطبيق الشريعة بحكم أن الإسلام دين كل الصوماليين. وتحالف في ولايته الرئاسية الأولى مع مجموعة «الدم الجديد» المنشقة عن حركة الإصلاح فرع «الإخوان الدولي» في الصومال، لكن -ووفق مراقبين- فإنه «لا يتمتع بآيديولوجية دينية أو فكرية محددة».
المعترك السياسي
عبر بوابة التعليم دخل شيخ محمود غمار السياسة، فبعد أن شارك عام 1999 في تأسيس «المعهد الصومالي للإدارة والتنمية الإدارية» بالعاصمة مقديشو، أسس عام 2011، حزب «السلام والتنمية»، الذي لا يزال يرأسه. ومنه انتُخب عام 2012 بوصفه رجلاً أكاديمياً وناشطاً في المجتمع المدني، نائباً بالبرلمان لأول مرة عام 2012، وفي الانتخابات نفسها أصبح مرشحاً للرئاسة، ورغم حظوظه القليلة أمام منافسه الرئيس الأسبق شريف شيخ أحمد، فاز بها فأصبح بعدها «رجل المفاجآت».
في ولايته الأولى تمكن شيخ محمود من تأسيس نظام فيدرالي قسّم فيه البلاد إلى ولايات، وأعاد بناء مطار مقديشو الدولي، كما نجح في السيطرة نسبياً على عدة مناطق في مواجهة حركة «الشباب» المسلحة، كما اشتهر بالسعي إلى تنفيذ سياسة توافقية بين الفرقاء الصوماليين.
ويسجل شيخ محمود في إنجازات ولايته الأولى، تحرير 36 مدينة من قبضة «حركة الشباب»، الأمر الذي يلقي على عاتقه مهمة معقدة. ويقول إن «الأمن هو أولوية الفترة الجديدة وإن الحل العسكري أولويته في مكافحة حركة الشباب المسلحة التي ظهرت عقب الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد».
وفي عام 2013 اختارت مجلة «تايم» شيخ محمود ضمن أكثر 100 شخصية تأثيراً حول العالم. وكان شيخ محمود من الأسماء التي عارضت تمديد فترة ولاية الرئيس السابق فرماجو.
وبشأن مستقبل ولايته الثانية، أكد شيخ محمود أن تحقيق الاستقرار السياسي وإنشاء دولة ديمقراطية هو أهم أولوية للإدارة الجديدة عقب تحقيق الأمن. وأوضح في مقابلة مع «الأناضول» أن الصومال لم ينجح في حل مشكلاته الأمنية رغم كل الخطوات والمبادرات التي تم تنفيذها، وأن معضلة الأمن تزداد بالمشكلات الموجودة بالمجالات الأخرى، مؤكداً أنه سيحرص على عدم تكرار أخطاء الماضي.
وقبيل تسمله منصبه رسمياً، التقى الرئيس الصومالي المنتخب حسن شيخ محمود رؤساء الولايات الفيدرالية الخمس، في العاصمة مقديشو، على مأدبة غداء، في خطوة بدت نحو ترميم السياسة الداخلية للصومال، حيث ناقش آليات الاستقرار السياسي والعمل على إنشاء دولة ديمقراطية.
وحول خطة انسحاب قوات مهمة الاتحاد الأفريقي الموجودة منذ سنوات في الصومال والتي يصل عددها إلى 20 ألفاً تقريباً، قال إن خطة الانسحاب أُعدّت منذ مدة طويلة إلا أن تطبيقها لم ينجح. وأشار إلى أن الاتحاد الأفريقي قدم الكثير من أجل الصومال، وأن تسليم المهام الأمنية إلى الحكومة الصومالية سيصبح ممكناً بعد فترة قصيرة من تأسيس النظام الأمني في البلاد.
رسائل دعم دولي
يحظى شيخ محمود بدعم إقليمي ودولي واسع، الأمر الذي قد يسهم في تذليل بعض العقبات خلال مهمته الصعبة، ولعل قرار الرئيس الأميركي جو بايدن، إعادة نشر قوات أميركية في الصومال، بالتزامن مع إعلان فوز شيخ محمود، أبرز خطوة تعكس الدعم الدولي للرئيس الصومالي الجديد.
ووفق مسؤول كبير في الإدارة الأميركية، فإن قرار بايدن جاء بعد أن طلب وزير الدفاع لويد أوستن، الانتشار هناك «لإعادة إنشاء وجود عسكري أميركي مستمر في الصومال لتمكين قتال أكثر فاعلية ضد حركة الشباب، التي زادت قوتها وتشكل تهديداً متزايداً».
وشكر الرئيس الصومالي الجديد، حسن شيخ محمود، نظيره الأميركي جو بايدن على قراره إعادة الوجود العسكري الأميركي إلى الصومال. وفي بيان عبر «تويتر»، قالت الرئاسة الصومالية: «لطالما كانت الولايات المتحدة شريكاً موثوقاً به في سعينا لتحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب».
وجاء القرار الأميري بعد نحو 18 شهراً من انسحاب نحو 750 عسكرياً أميركياً كانوا منتشرين في البلد الواقع في القرن الأفريقي، سيتمركز «أقل من 500» عسكري أميركي مجدداً في الصومال، وفق ما أضاف المسؤول الأميركي الذي تحدث إلى لـ«أسوشييتد برس»، طالباً عدم ذكر اسمه.
وكان الرئيس السابق دونالد ترمب قد أمر في ديسمبر (كانون الأول) 2020 وقُبيل انتهاء ولايته، بسحب القوات الأميركية من الصومال.
وإلى جانب واشنطن، تلقى شيخ محمود دعماً وتأييداً من معظم القوى والمنظمات الغربية والإقليمية، على رأسها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي دعا الرئيس الجديد لسرعة لتشكيل حكومة شاملة تعمل مع الأطراف المعنية الأخرى معاً بشكل وثيق لتعزيز الأولويات الوطنية الحاسمة والتصدي للتحديات التي يواجهها الصومال. كما أعرب أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، عن تمنيه للرئيس الجديد التوفيق وتحقيق ما يصبو إليه الشعب الصومالي من سلام واستقرار. وأكد مصدر مسؤول بالأمانة العامة، أن الجامعة ستواصل وقوفها ودعمها للصومال في مسيرته التنموية وجهوده الحثيثة لتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة بناء مؤسساته.
وكان شيخ محمود قد أعلن خلال حملته الانتخابية أنه سينتهج سياسة خارجية «مبنية على التعايش السلمي مع العالم بعيداً عن خلق عداوة خارجية قد تؤثر سلباً على العلاقات الدبلوماسية مع العالم الخارجي». وأضاف أنه سيعزز مكانة العلاقات الصومالية مع دول العالم خصوصاً التي دعمت بلاده في شتى المجالات إلى جانب حربها ضد الإرهاب، في إشارة إلى حركة «الشباب» الصومالية.