«داعش» والإيزيديون... جرائم تنتظر محاكمات

«الشرق الأوسط» ترصد ردود فعل ضحايا القرشي على قتله قبل أن يحاسب

صورة أرشيفية لإيزيديين يهربون من انتهاكات «داعش» في سنجار غرب العراق (رويترز)
صورة أرشيفية لإيزيديين يهربون من انتهاكات «داعش» في سنجار غرب العراق (رويترز)
TT

«داعش» والإيزيديون... جرائم تنتظر محاكمات

صورة أرشيفية لإيزيديين يهربون من انتهاكات «داعش» في سنجار غرب العراق (رويترز)
صورة أرشيفية لإيزيديين يهربون من انتهاكات «داعش» في سنجار غرب العراق (رويترز)

أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن القوات الأميركية الخاصة نفذت بنجاح عملية قتل زعيم تنظيم «داعش» أبو إبراهيم الهاشمي القريشي، المعروف باسم الحاج عبد الله، في شمال غربي سوريا.
ورغم أن مقتل قريشي، يعد دفعة كبيرة لعمليات مكافحة الإرهاب الأميركية في المنطقة والحرب الأوسع ضد عودة ظهور «داعش»، فإنه حدث مؤثر بشكل خاص لأبناء المجتمع الإيزيدي.
ارتقى قريشي ليصبح نائب زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي، قبل أن يخلفه في النهاية. ومع أن الدور الرئيسي الذي لعبه قريشي في تجارة الرقيق الإيزيديين والإبادة الجماعية لا يزال غير معروف، فإن الأدلة التي جمعتها «لجنة العدالة والمساءلة الدولية» توضح مسؤوليته الجنائية المحتملة عن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم، بما في ذلك الاتجار بالبشر.
قُتل قريشي من دون محاكمة على الإطلاق على جرائمه المزعومة، ما يعطي دليلاً آخر على انعدام العدالة للإيزيديين، وفشل المجتمع الدولي في إجراء محاكمة دولية في هذا الشأن.
جرت أول محاكمة بتهمة الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 عندما أدانت محكمة ألمانية في فرانكفورت المواطن العراقي طه الجميلي، بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وكان قد اتهم بالتسبب في وفتاة إيزيدية شابة قام بتقييدها بالسلاسل إلى قضبان النوافذ في الشمس، ما أدى إلى موتها عطشاً.
جاءت المحاكمة يومها لتذكر العالم بالفظائع التي لحقت بالأقلية الإيزيدية، عندما انتشر مسلحو «داعش» في سنجار، موطن الأجداد الإيزيديين في شمال غربي العراق. وقد سعى ما يسمى بـ«داعش» إلى القضاء على المجتمع الإيزيدي بحملة قتل جماعي وتهجير قسري واسترقاق. وفي النهاية قُتل أو اختُطف ما يقدر بنحو 10000 من الإيزيديين بصورة بالغة الوحشية.
بالنسبة للإيزيديين، كان لحكم فرانكفورت ذلك المذاق الحلو المر في آن. فكأول إدانة بالإبادة الجماعية ضد أحد منتسبي «داعش» في أي مكان في العالم، بما يعنيه من اعتراف بالصدمة التي عانى منها المجتمع، فقد أظهر أن العدالة يمكن تحقيقها، وهي بالغة الأهمية للناجين. لكنها في المقابل سلطت الضوء أيضاً على الطبيعة البطيئة للعدالة والمساءلة، ما دفع العديد من الإيزيديين إلى الشعور بتخلي المجتمع الدولي عنهم.
- حصار سنجار
التفت العالم إلى الإيزيديين في أغسطس (آب) 2014 عندما دخل «داعش» القرى والبلدات المحيطة بسنجار. وبينما كان المسيحيون والعرب والأكراد يعيشون في المدن والقرى التي تعرضت للنهب، فإن الإيزيديين وحدهم من جرى إخطارهم بالعقاب دون غيرهم. وبعد اضطهادهم باعتبارهم عبدة شيطان، أطلق «داعش» حملة لتطهير المنطقة ممن يسمون «الكفرة». مع تقدم «داعش»، إلى قوات البشمركة الكردية العراقية عن نقاط التفتيش، حاول الإيزيديون الدفاع عن أنفسهم، وفرّ العديد منهم إلى المناطق الكردية وأصبحوا نازحين. الغالبية لا تزال هناك اليوم، عاجزة عن العودة إلى ديارهم، فيما فر آخرون إلى المنحدرات العليا لجبل سنجار، الذي لطالما كان ملاذاً لمجتمع حفل تاريخه بالاضطهاد والعنف. وبينما كان العالم ينظر في رعب، حاصر «داعش» الإيزيديين الذين حرموا من إمدادات المياه مع ارتفاع درجات الحرارة، ليلقى المئات من المسنات والأطفال حتفهم بسبب الجفاف.
الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما أعلن أن هجوم «داعش» إبادة جماعية وتم إجلاء الآلاف من الإيزيديين في نهاية المطاف من الجبل على يد القوات الكردية بتغطية جوية أميركية، فيما حوصر من تبقى منهم من قبل «داعش». جرى فصل الرجال عن النساء، وتم إعدام بعض الرجال على الفور، وفي حالات أخرى، تم اصطحابهم بعيداً ولم يسمع شيئاً عنهم مرة أخرى. ووُضع بعض الأولاد الأصغر سناً أمام خيار التحول إلى نسخة «داعش» من الإسلام وسط مقاتلي «داعش» في القرى الشيعية سابقاً. وجرى نقل النساء والفتيات لاحقاً إلى غرف المشاهدة وفتح أسواق العبيد لبيعهن كرقيق للاستغلال الجنسي من قبل مقاتلي «داعش» ضمن نظام منضبط للغاية.
- البحث عن المفقودين
وفي حين يُعتقد أن العديد من الإيزيديات لقين حتفهن أثناء القتال خلال فترة وجودهن في الأسر، فإن من المعتقد أيضاً أن العديد منهن ما زلن على قيد الحياة. ويُعتقد أنهن يعيشن مع عائلات مرتبطة بـ«داعش» في العراق أو سوريا، غالبا في مناطق خارج سيطرة الحكومة، ما يجعل الاتصال بهن أو إنقاذهن أمراً صعباً. وفي أغسطس 2021، تم إنقاذ إيزيديتين على قيد الحياة في محافظة دير الزور بعد أن أمضتا وقتاً في التنقل بين المنازل في سوريا.
يُعتقد أن بعض الإيزيديين يقيمون في معسكر الهول، الذي يضم أفراداً من عائلات مقاتلي «داعش» وآخرين تم أسرهم بعد سقوط ما يسمى مناطقهم. ويعتبر الوصول إلى المخيم للبحث عن الإيزيديين المفقودين صعباً، ولكنه ليس بالمستحيل، فقد شهدت حملة أطلقتها منظمات مختلفة في سبتمبر (أيلول) الماضي ضغوطاً من أجل القيام بعملة بحث رسمية لتحديد أماكن وجود النساء والأطفال المفقودين، بما في ذلك هذا المعسكر.
وفي ديسمبر (كانون الأول) جرى توجيه نداء من 17 دولة لتسليط الضوء على ما يقرب من 2800 من النساء والأطفال الإيزيديين المفقودين. وحتى الآن لم يجر إطلاق أي بحث تقوده الحكومة للعثور عليهم، كما لم تكن هناك جهود منهجية من قبل السلطات العراقية لفحص الأطفال المحتجزين في معسكرات مثل «الهول» و«روج». والآن لا يزال الجميع ينتظر عملاً ملموساً بشكل عاجل.
دفع فشل المجتمع الدولي الناس العاديين إلى العمل. وتكريساً لجهود العثور على الفتيات المفقودات، أسس نشطاء متفانون شبكة من المخبرين في سوريا لإنقاذ الإيزيديين المخطوفين. يعتبر عبد الله شريم أحد هؤلاء، بعد احتجاز 56 شخصاً من عائلته. كانت أول من عاد ابنة أخته مروة في نهاية عام 2014، وبمساعدة مهربي السجائر، تمكن شريم من تحديد مكانها في الرقة وإنقاذها. وعندما اكتشفت العائلات الأخرى ذلك، بدأوا في الاتصال بشريم بشكل محموم.
قال شريم: «جاءوا إليّ وطلبوا إنقاذ ذويهم المختطفين. لقد أنقذت الكثيرين وأنشأت مجموعة كبيرة لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس. فحتى اليوم، أنقذت 399 شخصاً، ولديّ كل أسمائهم وتواريخ إنقاذهم والأماكن التي تم إنقاذهم منها لأنني أريد دعم عملي بالأدلة».
ولتحديد مكان الفتيات، قام شريم بتنسيق شبكة معقدة من المتطوعين في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك الممرضات وجامعو القمامة والنساء اللواتي يتنقلن من منزل إلى آخر لبيع الملابس والخبز.
شأن العديد من الإيزيديين، يشعر شريم بخيبة أمل من
المجتمع الدولي لفشله في إنقاذ أولئك الموجودين على جبل سنجار، ولعدم بذل أي جهد جاد لتحديد مكان الفتيات والنساء المفقودات في السنوات السابقة.
استطرد شريم قائلاً: «منذ بداية عام 2014 وحتى نهايته، لم يكن للمجتمع الدولي والحكومات المحلية حضور. لقد أنقذنا العديد من الفتيات والنساء المخطوفات حتى قبل إنشاء مكتب غير رسمي في الرقة لهذا الغرض. لو كان هناك دعم دولي أو محلي، لكنا أنقذنا مجموعات كبيرة كانت قريبة في مناطق مثل تلعفر والموصل. فقد شعرنا بالتخلي عنا، ولا يزال هذا الشعور ينتابنا».
- حواجز العودة
من بين 12000 إيزيدي فُقدوا، تم تحديد 5000 قتيل وإنقاذ بضعة آلاف، ما يعني أن ما يصل إلى 4000 لا يزالون في عداد المفقودين. ولا تزال العديد من المقابر الجماعية في سنجار في انتظار نبشها، حيث تخشى آلاف العائلات الأسوأ فيما يتعلق بأحبائها المحتمل وجودهم تحت ترابها. هناك نحو 200 ألف إيزيدي آخر يقبعون في معسكرات المشردين في كردستان العراق، غير قادرين على العودة إلى ديارهم بسبب نقص الضمانات الأمنية. لم يعد هناك مكان للعيش فيه، حيث إن سنجار والقرى المحيطة بها باتت خراباً إلى حد كبير. لم يتغير شيء يذكر منذ طرد «داعش» في عام 2014، حيث تجوب القوات العراقية والكردية المنطقة، وكذلك الميليشيات الشيعية، بينما تشن تركيا بانتظام غارات جوية ضد المسلحين الأكراد المشتبه في أنهم يختبئون في سنجار، في وضع يتعارض مع اتفاق وقعته حكومتا كردستان والعراق عام 2020 لاستعادة الاستقرار في المنطقة.
تعتبر هذه الصفقة واحداً من عدة تعهدات من قبل الحكومة العراقية لم تؤت ثمارها بعد. ففي العام الماضي، أقر العراق قانون الناجين الإيزيديين، الذي اعترف بالجرائم ضدهم على أنها إبادة جماعية، ووعد بأرض واعدة وتعويضات وفرص عمل متزايدة للناجين. ورغم أن تمرير القانون كان بالغ الأهمية، فقد جاء التقدم بطيئاً بالنسبة للناجين الذين لا يزالون في الغالب يعيشون من دون منازل أو وظائف أو أي مظهر من مظاهر الاستقرار.
- ماذا بعد؟
يتوقع إيزيديون أن يشجع المجتمع الدولي بغداد وحكومة كردستان على وضع جدول زمني واضح واتباعه لتنفيذ اتفاق سنجار يتمحور حول احتياجات المجتمع الإيزيدي. فإذا كان الرئيس الأميركي بايدن جاداً بشأن سياسة خارجية تركز على حقوق الإنسان، فيجب أن تكون مساعدة المجتمع الإيزيدي أولوية. بعد ذلك يجب على المانحين الدوليين الرئيسيين والحلفاء العراقيين الاستثمار في إعادة الإعمار الشامل في سنجار، لتمكين العودة الآمنة للإيزيديين النازحين لأن مخيمات النازحين ليست حلاً دائماً.
في هذا الصدد، قال عابد شمدين، المدير التنفيذي لـ«مبادرة ناديا» (جمعية غير ربحية مكرسة لإعادة بناء المجتمعات الممزقة والدفاع عن الناجين من العنف الجنسي): «لا يمكن تحقيق التقدم واستدامته إلا من خلال استقرار الأمن والحكم المحلي الذي يسمح لمجتمعات سنجار، مثل الإيزيديين، بأن يكونوا أصحاب مصلحة متساوين في استعادة وطنهم وإدارته الديمقراطية».
وأضاف شمدين: «أدى التهجير الإيزيدي المطول إلى ارتفاع معدلات الانتحار وزواج الأطفال وحالات العنف ضد المرأة، وهذه المعدلات يمكن تخفيفها من خلال توفير مسار للعودة إلى منازل آمنة ودائمة مع إمكانية الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية والعمل في سنجار».
تعمل «مبادرة ناديا» على تطوير مشروع لإنقاذ الآلاف من النساء والأطفال الإيزيديين المفقودين، عبر إنشاء قاعدة بيانات شاملة للمفقودين ووضع الأساس لإنقاذهم وجمع شملهم مع عائلاتهم. وتعتبر المبادرة الأولى من نوعها في المنطقة، ويجب أن تكون مدعومة بتمويل دولي ودعم لوجيستي. وختم شمدين قائلاً: «رغم أننا، بوصفنا منظمة غير حكومية دولية، غير قادرين على المشاركة في الإنقاذ الفعلي لأولئك المفقودين، فإن أملنا هو دفع العراق وكردستان والمجتمع الدولي لبذل المزيد من الجهود. في النهاية، نريد أن يعرف هؤلاء النساء والأطفال أنهم لم يُنسوا».


مقالات ذات صلة

الحساسيات العشائرية السورية تهدد النفوذ الإيراني في البوكمال

المشرق العربي صورة نشرها «المرصد السوري لحقوق الإنسان» لعناصر من الميليشيات الإيرانية

الحساسيات العشائرية السورية تهدد النفوذ الإيراني في البوكمال

تفجر التوتر في البوكمال في وقت تعمل فيه إيران على إعادة تموضع ميليشياتها في سوريا على خلفية الاستهداف الإسرائيلي لمواقعها داخل الأراضي السورية.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي نائب منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية ديفيد كاردين يتفقد مشروع معالجة مياه الصرف الصحي في قرية بحورة بمحافظة إدلب السورية يوم 14 مايو الماضي (أ.ب)

منسق الأمم المتحدة يطلق «استراتيجية التعافي المبكر» في سوريا

قال المنسق الأممي بدمشق إن «خطة التعافي» تغطي كل المحافظات السورية، وتشمل قطاعات الصحة والتعليم ومياه الشرب والصرف الصحي، و«من دون الكهرباء لا يمكن إنجاز شيء».

«الشرق الأوسط» (دمشق )
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

تشاد تنفي استهداف مدنيين خلال عملية ضد «بوكو حرام»

نفت الحكومة التشادية «بشدة» استهداف مدنيين خلال عمليتها ضد جماعة «بوكو حرام» في حوض بحيرة تشاد

«الشرق الأوسط» (نجامينا)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
تحليل إخباري مقاتلو «داعش» في شمال أفغانستان (وسائل الإعلام الأفغانية)

تحليل إخباري لماذا ينتج تنظيم «داعش - خراسان» محتوى إعلامياً باللغة الطاجيكية؟

لماذا تصدر خلية «داعش» الإعلامية نشرة جديدة باللغة الطاجيكية للمواطنين في طاجيكستان والعرقيات الطاجيكية في أفغانستان؟ هل لها تأثير ناجح على الرأي العام؟

عمر فاروق (إسلام آباد)

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.