في اليوم الأول من المهرجان، وعلى الشرفة الكبيرة لفندق أكسلسيور القريب توزّع الصحافيون حول مخرج وممثل. بعض هؤلاء الصحافيين يحتشد لأي شخص عليه سمات العمل في السينما. من المنتجين إلى المخرجين ومن الممثلين والممثلات إلى طالبات الشهرة ممن لم يبلغنها بعد.
البعض الآخر يستنجد بالملحقين الصحافيين لتسجيل دوره في لقاء ولو بحدود عشر دقائق. أمامه صف ووراءه صف وعليه ألا يتأخر عن الموعد وإلا طار دوره.
المخرج هو الإيطالي باولو سورنتينو والممثل هو فيليبو سكوتي. سورنتينو أمّ المهرجان باكراً ليعرض فيه فيلمه الجديد (ولو أنه من إنتاج العام الماضي) «يد الله». سكوتي هو الممثل الأول في الفيلم وهو دوره الأساسي الأول في السينما أيضاً.
يبدوان كتمهيد لحشد كبير من السينمائيين الذين سيحطّون فوق جزيرة الليدو بدءاً من اليوم الجمعة. كرستن ستيوارت، بن أفلك، مات دامون، ماجي جيلنهال، تيفاني هاديش، زندايا، أوسكا أيزاك، جيمس برولِن، تيموثي شالامت، ربيكا فرغوسن ومعظم هؤلاء يقود بطولة الفيلم المنتظر Dune للكندي دنيس فلنييف.
باب مقفل
في كل سنة ينتاب بعضنا من العرب الحاضرين الشعور بأنه مهما حاولت مهرجاناتنا العربية التألق، ومهما توّجت نشاطاتها بعجلة إعلامية واسعة، ومهما صرفت ما تملكه من ميزانيات فإن الفارق كبير وسيبقى كبيراً بينها وبين مهرجانات الصف الأول العالمية.
الغرب عجن الحياة السينمائية سنة بعد سنة وعقداً بعد عقد وقرناً بعد آخر. لا يمكن تجاهل التلقائية والمعرفة في كيفية صياغة مهرجان جيد وكبير ويطير إليه نجوم العالم بلا تردد… «كورونا»، لا كورونا، لا يهم.
في كل واقعية، الباب مقفل أمام المهرجانات العربية المقامة لاحتواء جزء فاعل من هذه التجارب والمعرفة والجهود المتميّزة. على كثرة ما يُقام في ربوعنا العربية ليس هناك إلا القليل جدّاً من الأفلام التي يفضل أصحابها ومالكو حقوقها عرضها في مهرجان عربي عوض مهرجان من تلك الغربية الكبرى. وهذا ليس على نغم «كل شيء فرنجي برنجي»، بل هو واقع لم يحدث صدفة بل حضّرت له جهود مبكرة وسنوات عمل مضنية واتصالات لا نهاية لها. هل سيتردد منتج ما (لا يهم مستواه بين أترابه) ما إذا دعاه مهرجان عالمي ما للمشاركة؟ نعم. فقط إذا ما كان عليه الاختيار بين فينيسيا و«كان» أو «تورونتو» و«صندانس» أو «برلين».
هذا الشعور بفداحة الواقع من ناحية والإجراءات الصارمة لتأمين 11 يوماً خالياً من الوباء يدفع هذا الناقد للانكفاء قليلاً هذا العام والاكتفاء بمشاهدة الأفلام من صف أخير على أمل ألا يشاهده أحد يعرفه. أمزج ذلك بحقيقة أن حضور المهرجانات الكبرى لم يعد متعة جديدة، بل متجددة كوّنتها سنواته في المقابل والخبرة التي اكتسبها خلالها والشعور بالاكتفاء من أسباب اللهو وحب الظهور إلى الرغبة في الوحدة والعودة إلى أصول العلاقة التي تربط الناقد بالفيلم وحده.
لجوء مبرر
لكن للإقبال على الدورة الـ78 لهذا المهرجان أسبابه الكبيرة.
في العام الماضي واجه المهرجان حقيقة أن التدابير الاحترازية الذي أقدم عليها لم تكن الجواب الفعلي لمخاوف العديدين من تعريض أنفسهم لمخاطر الوباء. المشكلة تبدأ من المطارات ووسائل السفر الأخرى ومن المسافات الطويلة وما قد يتخللها. كان رهان مدير المهرجان ألبرتو باربيرا مدروساً لكنه كان خطيراً. الوضع الناتج كان انحسار عدد الحاضرين من سينمائيين وإعلاميين، لكنه كان كذلك نجاحاً لافتاً لرفض المهرجان الخنوع للوضع الناتج عن انتشار الوباء.
هذا العام يشهد المهرجان نشاطاً أوسع وأكبر حجماً. الحضور تضاعف والحشود عادت للتحلّق أمام مدخل الصالة الرئيسية لعلها تتلقى ابتسامة هذا الممثل أو تلك النجمة. من اليوم الأول يجد المرء نفسه حيال نسخة جديدة من منوال قديم. عودة إلى الأسس رغم التشدد في الإجراءات التي كان من بينها منع زميل بريطاني من الدخول لأنه قدّم نتيجة فحص خاطئ ومنع آخر رغم أنه تلقى اللقاح بعد وصوله قبل أيام بسبب خطأ آخر.
هناك تفاؤل حذر بالنسبة للمهرجان هذه السنة يقابله تفاؤل حذر آخر بالنسبة لحال السينما عموماً. أحد صحافيي «ذا هوليوود ريبورتر» (سكوت روكسبورو) يخبر هذا الناقد عن أن الوضع ينتظر واحدة من نهايتين: «إما أن ينتصر التفاؤل أو يصطدم بالواقع المستجد منذ أكثر من سنتين ويخبو».
في رأيه أن قيام الاستوديوهات الأميركية بالاندفاع لعرض أفلامها على الإنترنت من خلال شركات مؤسسات مثل أمازون ونتفليكس وApple مبرر: «ماذا يمكن لهوليوود أن تفعله حيال أزمة لم تتعرّض لمثلها من قبل».
«من قبل» فترة زمنية طويلة تمتد لسنوات الحرب العالمية الأولى والثانية. تشمل ظهور التلفزيون وتحلّق المشاهدين حوله كما لو كان لعبة منزلية، ثم ظهور الفيديو وما تلاه. يقول: «إزاء كل وضع من هذه الأوضاع، كانت السينما تخرج منتصرة».
ما زال يعتقد أنها ستستمر بالقوّة والعطاء ذاتيهما «لكن بعد حين وليس في هذا العام على الأقل، إلا إذا كسر فينيسيا المخاوف وانتصر التفاؤل هنا».
والتدابير الصارمة وصلت هذا العام لساحل النقاد والصحافيين. نحن ممنوعون من الكتابة عن الفيلم الذي نراه قبل مرور 48 ساعة على عرضه. تقليد كان بدأه مهرجان «كان» قبل سنوات بعدما شكا المنتجون من أن كتّاب المواقع باتوا يكتبون عن الفيلم لمواقعهم مباشرة بعد عرض الفيلم للصحافة وقبل الحفل الرسمي للفيلم. إحدى مساعدات المدير العام ألبرتو باربيرا ذكرت أن بعض هؤلاء كان يكتب مقالاته والفيلم يُعرض. ابتسمت مشككاً، لكنها هزّت برأسها مؤكدة.
نوستالجيا
القدامى بين الحاضرين يتذكّرون الأمس الغابر بمرح محزن بادئاً النوستالجيا بكلمتي «هل تذكر….؟» سارداً حادثة وقعت له هنا. الناقد البريطاني بيتر كاوي لا يفوّت دورة منذ أن كان يعيش في لندن الستينات إلى أن غادرها وحط في سويسرا. تشاركنا في اليخت الذي سيبحر من المطار إلى اليابسة (على بعد 40 دقيقة و120 يورو) وتبادلنا سرد الحكايات. وسيتبادل معنا كذلك المخرج إدغار رايت عندما يعرض فيلمه الجديد «الليلة الأخيرة في سوهو».
هذا الفيلم رحلة إلى لندن الستينات تقوم بها الممثلة آنيا تايلور - جوي ومناسبة لعودة الممثلين اللذين كانا نجمين في تلك الآونة (ولبضع سنوات لاحقة) ريتا توشينغهام وترنس ستامب.
لكن الحاضر هو الغالب بين الأفلام. ليس فقط من حيث المواضيع العصرية التي تحفل بها غالبية الأفلام هذا العام (في مقابل العدد المتوقع من الأعمال التي تعود إلى الماضي لتسرده من جديد)، بل كذلك من خلال حقيقة أن العديد من الأفلام تصوّر اليوم في زمن الكمّامات واللقاحات والمحافظة على «المسافة الآمنة» بين الجميع.