ليندا توماس غرينفيلد ثاني امرأة سوداء تتولى «سفارة» أميركا في الأمم المتحدة

مواقفها من العنصرية تثير زوبعة في ظل احتدام النقاش مع الجمهوريين

ليندا توماس غرينفيلد ثاني امرأة سوداء تتولى «سفارة» أميركا في الأمم المتحدة
TT

ليندا توماس غرينفيلد ثاني امرأة سوداء تتولى «سفارة» أميركا في الأمم المتحدة

ليندا توماس غرينفيلد ثاني امرأة سوداء تتولى «سفارة» أميركا في الأمم المتحدة

ما لم تعد الحياة إلى طبيعتها ما قبل جائحة «كوفيد - 19»، سيكون من الصعب جداً العودة إلى متابعة «المبارزات» الكلامية التي كانت تنقلها الكاميرات، بين مندوبي الدول الكبرى وحتى الصغرى منها في قاعات مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة في نيويورك وجمعيتها العامة. فاللجوء إلى تقنية الفيديو التزاماً بقواعد التباعد الاجتماعي، قد يؤخر هذا العام إبراز «مهارات» ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة الجديدة إلى الأمم المتحدة، وهي ثاني امرأة من أصول أفريقية تتولى هذا المنصب بعد سوزان رايس، ولقد عيّنها الرئيس الأميركي جو بايدن فيه، كجزء من تعهده بزيادة تمثيل الأقليات العرقية والنساء تحديداً في إدارته الجديدة.
بيد أن ذلك لم يمنع وضع غرينفيلد سريعاً في حلبة الاختبار، الذي بدأ في جلسة الاستماع لتأكيد ترشيحها في مجلس الشيوخ. إذ تعرّضت للانتقاد بسبب الصين، حين أعربت عن أسفها لإلقائها خطاباً في معهد كونفوشيوس الذي تدعمه بكين في عام 2019، عندما كانت تعمل في شركة استشارية خاصة. وأفيد بأن السيناتور الجمهوري اليميني المتشدد تيد كروز، كان يتعمّد تأجيل تصويت اللجنة على ترشيحها بسبب ذلك الخطاب. وكذلك أبدت غرينفيلد اتفاقها إلى حد كبير مع لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بشأن السياسات الدولية، وخصوصاً تجاه «النظرة الاستراتيجية للتهديد الذي تشكله الصين»، حين تحدثت عن مخاوفها بشأن «القوة الخبيثة» للصين و«فخاخ وتكتيكات الديون» الصينية في أفريقيا وخارجها.

كان واضحاً أن الأجندة التي ستعمل ليندا توماس - غرينفيلد، السفيرة الأميركية الجديدة في الأمم المتحدة، على تنفيذها في محافل المنظمة الدولية، ستنطلق من الأولويات التي حددتها إدارة الرئيس جو بايدن، بما يعكس الانزياح الكبير عن الغرق في وحول ما يصفه بايدن بـ«الحروب العبثية» التي لم يعد لها طائل، من أفغانستان إلى ملف إيران وحروب الشرق الأوسط وأزماته!
وحدها إسرائيل حظيت بمكانة خاصة في خطاب غرينفيلد، حين تعهدت خلال جلسة تثبيتها، بالوقوف «ضد الاستهداف الظالم لإسرائيل» التي تتعرّض لدعوات المقاطعة وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، معتبرة أن هذه الحركة «تقترب من معاداة السامية». بيد أنها في خطاب لها يوم الاثنين الماضي أمام المؤتمر السنوي لحركة «جي ستريت» اليسارية اليهودية المعادية للصهيونية، أعلنت أن إدارة بايدن ستدعم إسرائيل في عملها لمواجهة التهديدات التي يشكلها السلوك العدواني لإيران، وتشاركها الهدف المتمثل برفض السماح لإيران أبداً بالحصول على السلاح النووي، لكنها تنوي تحقيق ذلك من خلال الدبلوماسية. ومما قالته في هذا الصدد «موقف الولايات المتحدة من الاتفاق النووي واضح، ونحن مستعدون للعودة إليه إذا عادت إيران إلى الامتثال الكامل لالتزاماتها النووية. وكما يتضح من مشاركتنا في المباحثات الجارية في فيينا، فإننا نعمل مع شركاء دوليين لتحديد ما إذا كان هذا الأمر ممكناً أم لا».

- سابع «سفيرة» على التوالي
غرينفيلد هي ثاني أميركية من أصول أفريقية وسابع امرأة على التوالي تتولّى تمثيل بلادها في أرفع منصب دبلوماسي بعد منصب وزير الخارجية. وللعلم، فإن السفير في الأمم المتحدة هو المنصب الوحيد من بين السفراء الأميركيين في المناصب الدبلوماسية الذي يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ. وبالتالي، يحلّ الكونغرس مكان سيادة الدول التي يحق لها قبول أو رفض تعيين السفراء الأجانب على أراضيها. ثم إن سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة هو حُكماً عضو في مجلس الأمن القومي؛ ما يعكس أهمية هذا المنصب في السياسة الخارجية الأميركية.
يوم 25 فبراير (شباط) الماضي جرى تثبيت تعيين غرينفيلد في منصبها من قبل مجلس الشيوخ، بغالبية 78 مقابل اعتراض 20 صوتاً، لتتولى منصبها على الأثر بعد تقديمها أوراق اعتمادها إلى الأمم المتحدة. وفي أول مارس (آذار) الماضي تولت الولايات المتحدة الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي لمدة شهر كامل، لتتسلّم السفيرة الجديدة بعد أقل من أسبوع على تعيينها... رئاسة مجلس الأمن.

- قضية التمييز العنصري
غير أن المخاض السياسي والاجتماعي الذي تشهده الولايات المتحدة راهناً على خلفية قضية التمييز العنصري، فضلاً عن مسألة «المناكفة السياسية التقليدية» بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فرضا نفسيهما باكراً على غرينفيلد.
ومع صدور الحكم بحق الشرطي الأبيض ديريك شوفين بتهمة قتل الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد - الذي يتوقع أن يأخذ مساراً تاريخياً يضع قضية إصلاح الشرطة على نار حامية - تعرضت غرينفيلد لانتقادات قاسية من وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، بسبب تعليقاتها عن العبودية. إذ قال بومبيو، إن تصريحاتها «مستهجَنة»، ويجب أن تحرمها من تمثيل المصالح الأميركية في جميع أنحاء العالم. وما يذكر هنا أن غرينفيلد كانت قد أعلنت خلال خطاب لها أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أن «العبودية نسجت تفوّق البيض في وثائق تأسيسنا». وأردفت «لقد رأيت بنفسي كيف أن خطيئة العبودية الأصلية نسجت التفوّق الأبيض في وثائق تأسيسنا ومبادئنا. لكنني أيضاً شاركت هذه القصص لتقديم نظرة ثاقبة، وتعلمت منها حقيقة بسيطة على مر السنين: العنصرية ليست مشكلة الشخص الذي يختبرها».
وفي خطاب افتراضي آخر ألقته الأسبوع الماضي أمام مؤتمر «شبكة العمل الوطنية» للقس آل شاربتون، تحدثت غرينفيلد عن «الاتحاد غير الكامل» لأميركا، مضيفة أن تعليقاتها تعكس المكان الذي بدأت فيه البلاد، لكنها أضافت «لكننا نحتاج أيضاً إلى النظر إلى أين وصلنا». وتابعت «حقيقة أنني أتيت من مدرسة ثانوية كانت تفصل بين السود والبيض، وها أنا الآن الممثل الدائم للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، تقول كل شيء عما يدور حوله بلدنا».
بومبيو اعتبر تصريحات في مقابلة إذاعية يوم الأحد الماضي تصريحاتها بالمعيبة قائلاً «سمعت سفيرتنا لدى الأمم المتحدة هذا الأسبوع تتحدث عن تأسيسنا باعتباره فاسداً ومعيباً بشكل أساسي، وليس نبيلاً وصالحاً. لا يمكنني أن أشعر بالاختلاف معها أكثر من ذلك. أميركا مكان نبيل». وأضاف «أعتقد أنه من غير اللائق أن يكون لديك سفير للأمم المتحدة يعبّر عن النسبية الأخلاقية ولا يفهم الطبيعة الاستثنائية للبلد الذي نعيش فيه جميعاً». واستطرد «إن إقدام سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة على تشويه سمعة المبادئ التأسيسية للولايات المتحدة الأميركية بالطريقة التي اتبعتها هذا الأسبوع لهو أمر مستهجن حقاً».
ولكن في مقابلة مع غرينفيلد على محطة «سي بي إس نيوز» سألتها المضيفة مارغريت برينان، عن رأيها في مقالة افتتاحية لصحيفة «الوول ستريت جورنال» كتبت فيها «سفيرة لوم أميركا أولاً»، وأنها تبدو وكأنها «كانت تروي دعاية صينية»، في استعادة للاتهامات التي وجهت لها خلال جلسة تثبيتها في مجلس الشيوخ. كذلك سألتها عما إذا كانت تقارن التعصّب في أميركا بالفظائع التي تُرتكب ضد الأقليات في جميع أنحاء العالم. وردّت غرينفيلد قائلة «كنت أعترف بما هو حقيقة في الولايات المتحدة. العنصرية موجودة في هذا البلد، وأعتقد أن ما قلته هو رسالة قوية، ولا يوجد أي دولة أخرى تفعل ذلك». ثم أضافت بأن حديثها كان «اعترافاً بنواقصنا» مع التأكيد على أننا «نمضي قدماً»... وتابعت «أنا لا أعتقد أنك سترى إويغوراً صينياً على المسرح الوطني، يعترف بقضايا الصين ومشاكلها مع حقوق الإنسان. أنا لا أقارن وضعينا. إنني أقر بأننا قطعنا شوطاً طويلاً، وأنا فخورة جداً بما تمكنا من تحقيقه».

- بطاقة شخصية
ليندا توماس غرينفيلد من مواليد عام 1952 في مدينة بيكر بولاية لويزيانا، حيث حصلت على بكالوريوس الآداب من جامعة لويزيانا الحكومية (لويزيانا ستايت) في العاصمة باتون روج عام 1974، ثم حازت ماجستير في الإدارة العامة من جامعة ويسكونسن - ماديسون عام 1975. وبعد ذلك درّست العلوم السياسية في جامعة باكنيل (الخاصة في ولاية بنسلفانيا) قبل انضمامها إلى السلك الدبلوماسي عام 1982.
شغلت منصب نائب مساعد وزير الخارجية في مكتب السكان واللاجئين والهجرة (2004 - 2006)، والنائب الرئيسي لمساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية (2006 - 2008)، ثم عُيّنت سفيرة لبلادها في ليبيريا (2008 - 2012)، وتولت منصب المدير العام للسلك الدبلوماسي في إدارة الموارد البشرية في الخارجية الأميركية (2012 - 2013).
بالإضافة إلى ذلك، شغلت توماس غرينفيلد مناصب دبلوماسية في بلدان أجنبية في سويسرا، وباكستان، وكينيا، وغامبيا، ونيجيريا، وجامايكا. وقبل تعيينها في منصبها الحالي سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، شغلت منصب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما من 2013 إلى 2017. غير أن إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب أنهت عملها عام 2017 كجزء من عمليات «تطهير كبار مسؤولي وزارة الخارجية والمهنيين على مدار ما يقرب من أربع سنوات»، بحسب صحيفة «لوس أنجليس تايمز». وفي ذلك العام عملت في القطاع الخاص نائباً أول لرئيس مجموعة أولبرايت ستونبريدج في العاصمة واشنطن. ثم إنها زميل غير مقيم بجامعة جورج تاون في واشنطن، وكانت زميلاً مقيماً متميزاً في الدراسات الأفريقية من خريف 2017 إلى ربيع 2019. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، عُيّنت عضواً متطوعاً في فريق الرئيس المنتخب جو بايدن، للإعداد للمرحلة الانتقالية في وزارة الخارجية الأميركية. واعتباراً من ذلك التاريخ كانت غرينفيلد في إجازة من منصبها نائباً أول للرئيس في مجموعة أولبرايت ستونبريدج. وفي 24 نوفمبر الماضي، أعلن بايدن عن نيته ترشيحها لتكون سفيرة الولايات المتحدة الجديدة في الأمم المتحدة خلفاً لكيلي كرافت، لتنضم فعلياً إلى إدارته في 25 فبراير وإلى عضوية مجلس الأمن القومي.


مقالات ذات صلة

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

حصاد الأسبوع الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين…

الشيخ محمد (نواكشوط)
حصاد الأسبوع ميرتس

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع شولتز (رويترز)

ألمانيا: حسابات الداخل والخارج تدفع نحو تسريع التفاهم على الائتلاف الحاكم الجديد

تنتظر ألمانيا أسابيع، أو حتى أشهراً، من المفاوضات بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (المحافظ) بزعامة فريدريش ميرتس الذي فاز بالانتخابات الأخيرة،

«الشرق الأوسط» ( برلين)
حصاد الأسبوع زامير

إيال زامير... رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد عسكري من خارج معارك السياسة

لم يعرف الجيش الإسرائيلي في تاريخه وضعاً أصعب من الوضع الذي يعيشه اليوم، لدى استعداده لاستقبال رئيس أركانه الجديد، إيال زامير. صعب، ليس لأنه يعاني من نقص في الذخيرة والعتاد، ولا لأنه ثبت فشله في تحقيق أي من أهداف الحرب على غزة، بل إن المشكلة الراهنة والاستثنائية هي أنه يفقد مزيداً من ثقة الناس، ويتعرّض في الوقت ذاته إلى حملة تحريض شعواء من الحكومة ورئيسها ووزرائها وجيش «النشطاء» في الشبكات الاجتماعية التابع لحزب «الليكود» الحاكم. هذه المشكلة تُدخل الجنرالات في أجواء توتر دائم وتهزّ ثقتهم بأنفسهم؛ ولذا فبعضهم يحاول إرضاء الحكومة بالنفاق، والبعض الآخر يحاول إرضاءها بتشديد القبضة ضد الفلسطينيين، وثمة فئة ثالثة أفرادها يرفضون فيستقيلون، وآخرون يرفضون ويبقون «دفاعاً عن أهم ركن من أركان الدولة العبرية» معتبرين أن الجيش يعيش موجة عابرة سيستطيع تجاوزها. ومع كل هذا، الجميع يشعرون أنهم في قلب معركة أقسى عليهم من الحرب على ست جبهات، ولا أحد سيخرج منها بلا جروح.

نظير مجلي (القدس)
حصاد الأسبوع تعزيز سلاحي الدبابات والمدرعات في مقدم المطالبات الإسرائيلية لتطوير قدرات الجيش (آ ف ب)

رسالة مفتوحة إلى زامير من أكاديمي استيطاني يميني

إحدى الإشارات التي تدل على ما هو مطلوب من رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد إيال زامير، وردت على شكل رسالة مفتوحة وجّهها إليه الدكتور عومر أريخا؛ وهو ناشط يميني.


اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟