(2 -3) : سنوات البراءة: «القوميون» تسابقوا لاستقطاب العقيد... ففاز عبد الناصر

«الشرق الأوسط» تنشر فصولاً من كتاب مجاهد البوسيفي عن القذافي و«ثورة الفاتح»

عبد الناصر والقذافي يصلان معاً إلى الرباط لحضور القمة العربية في ديسمبر 1969 (غيتي)
عبد الناصر والقذافي يصلان معاً إلى الرباط لحضور القمة العربية في ديسمبر 1969 (غيتي)
TT

(2 -3) : سنوات البراءة: «القوميون» تسابقوا لاستقطاب العقيد... ففاز عبد الناصر

عبد الناصر والقذافي يصلان معاً إلى الرباط لحضور القمة العربية في ديسمبر 1969 (غيتي)
عبد الناصر والقذافي يصلان معاً إلى الرباط لحضور القمة العربية في ديسمبر 1969 (غيتي)

تنشر «الشرق الأوسط» اليوم الحلقة الثانية من كتاب {دول الخيمة} سيصدر قريباً للكاتب الليبي مجاهد البوسيفي عن ليبيا في ظل حكم العقيد الراحل معمر القذافي. تتناول هذه الحلقة الفصل المتعلق بـ«سنوات البراءة» التي تلت وصول القذافي إلى السلطة في ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) 1969، ويشرح كيف تسابقت «الأنظمة القومية» في العالم العربي لاستقطاب «العقيد»، وكيف كان السباق في نهاية المطاف من نصيب الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر. يروي الكتاب أيضاً قصة زيارة نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين للقذافي في ليبيا، وكيف لم تنتهِ كما شاء الضيف العراقي، وكذلك نبه الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين العقيد الليبي من فتحي الديب رجل المهمات الأمنية لدى عبد الناصر.
الكتاب من «منشورات ضفاف» في بيروت، وسيصدر خلال معرض القاهرة للكتاب.
عاد محمد حسنين هيكل لزعيمه جمال عبد الناصر بوصفٍ بليغٍ، أخبره فيه أن الذين قاموا بالثورة في ليبيا هم مجموعة شباب «في منتهى البراءة»، وذلك بالطبع في السياسة وإدارة الدول، وهو ليس بالضرورة شيئاً جيداً، بل يمثل غالباً مشكلة كبيرة على الطريق. فقد بدا لعينه الصحافية الخبيرة مباشرة مدى «براءة» القائمين على الحدث، وبساطة تعاملهم مع أبعاده الآتية في الطريق.
كان الضباط الشباب قد أرسلوا، في صباح اليوم الأول من تحركهم، زميلاً منهم إلى مقر شركة الاتصالات المصرية في مدينة بنغازي، التي أُعلِن منها البيان رقم واحد بصوت العقيد معمر القذافي الذي ظل موجوداً فيها تلك الأيام، حاملاً برقية للزعيم المصري تحمل توقيع «الضباط الوحدويين الأحرار»، أملاها على الموظف في المكان نفسه. وكانت البرقية لإخباره بنجاح ثورتهم، والتزامهم بالخط الثوري القومي، طالبين منه المساعدة، مقترحين إرسال من يثق به لمعاونتهم في مرحلة ما بعد نجاح الثورة في إدارة البلد الذي تعهدوا بوضع كامل إمكانياته منذ هذه اللحظة في خدمة المعركة القومية العربية ضد أعدائها.
وفي الأثناء، كانت الأجهزة المصرية قد شرعت في استنفارٍ كبيرٍ فوري لمراقبة ما يحدث في الجارة الصغيرة. وبعد ساعات من التردد إثر وصولها، قرر عبد الناصر الرد على برقية الثوار، واتسم رده بكثير من الحذر والتعقل، لكنه حرص أيضاً على أن يكون رده مكثفاً، وفيه ما يكفي للتعامل مع الوضع الطارئ، حيث وجه فيه بعض النصائح المهمة للقيادة الجديدة التي لم يتعرف على أي اسم منها بعد. وأجاب في رده عن حيرتهم بخصوص التعامل مع الدول الكبرى، وأعطى مقترحاتٍ أخرى عاجلة تخص أمن قائد التحرك ورفاقه المقربين، ثم احتاج ليوم آخر إضافي حتى يقرر بشكل نهائي وضع ثقله وسمعته إلى جانب الثورة الجديدة، مخاطراً إلى درجة لا بأس بها وهو يعلن عن دخوله المسرح الليبي.
عند تلك النقطة، استدعى الزعيم المصري رئيس شؤون المكتب العربي في رئاسة الجمهورية، فتحي الديب، ليكلفه رسمياً بالعملية. وفي الواقع، لم تكن تسمية السيد الديب رئيساً للمكتب العربي إلا تمويهاً غير مهتم بالإتقان، فهو معروف في الأوساط الأمنية والسياسية العربية بصفته رجل عبد الناصر في المهمات الأمنية الخاصة شديدة الحساسية التي تربط مصر اسمها وسمعتها بها، وهي عمليات تتميز بالتعقيد وتداخل المهام اللوجيستية والسياسية والأمنية في أثناء تنفيذها على الأرض. وقد أهلته قدراته ليكون رجل الزعيم وممثله الخاص في ثورة الجزائر سابقاً، حيث استطاع بفضل مهاراته أن يكسب ثقة القادة الثوريين، ويشارك معهم الخطط والمعلومات والدعم. وبعد تحرر الجزائر، استمر الديب في العاصمة الجزائرية متمتعاً بنفوذ كبير، بفضل علاقاته الواسعة وصداقته واحتوائه لأحمد بن بلة الذي أصبح أول رئيس بعد استقلال الجزائر. لكن أيام الديب ستشهد نهايتها، كما تأثير مصر في الجزائر، عندما تمكن بومدين من الاستيلاء على السلطة، وطلب منه الرحيل عن عاصمته، وكان ذلك هو الخطأ الوحيد الذي سها عنه الديب، وكان خطأ الشاطر كما يقولون، إذ كلف ظهور بومدين مصر خروج الجزائر من عباءتها، وامتلاكها لقرارها في شؤونها الخاصة والقومية، ولم يعد مضموناً أنها ستقف في الصف المحدد لها سلفاً.
وفي الثالث من سبتمبر (أيلول)، استقبل ناصر رجله الذي يوشك أن يوجهه إلى ليبيا لدعم الثورة الوليدة، وشرح له لماذا سيدعم ثورة ليبيا، وما يجب عليه أن يفعله لتحقيق ذلك، ومنحه السقف الذي يريد في التصرف، ودعمه بتحريك قطعات من الجيش نحو الحدود، لتكون قريبة منه إذا طلبها، ومنحه حرية تشكيل فريقه من الخبراء العسكريين والمدنيين ممن يرى أنهم صالحون بصفتهم مساعدين له، وأعلمه بأن هيكل سيكون معه في الوفد «لتغطية» الزيارة واللقاء بقادة الثورة، وأنه «سيعود على الطائرة نفسها ومعه تقرير عاجل منك». وخلاصة المهمة، ربما، كما قال عبد الناصر لرجله: «أنا أضع سمعة مصر ومستقبلها كلها في يديك، وليس أمامك غير حلٍ واحدٍ من اثنين: إما النجاح وتأمين هذه الثورة، أو أذبحك بيدي شخصياً».
وهكذا، جاء هيكل وعاد مسرعاً بالتقرير الأول، كما هو مطلوب، إضافة لانطباعاته الصحافية التي كونها عن الحدث، تاركاً وراءه الديب لاستكمال المهمة على المدى الطويل.
كان السباق بين الأنظمة «الثورية» نحو ليبيا قد انطلق فور قيام ثورتها، بفعل الاستقطاب الهائل الدائر حول كعكة القومية العربية، بعد أن أصاب زعيمها كثير من الوهن إثر هزيمة يونيو (حزيران).
وبعد وصول وفد القاهرة بيومين، وصل وفد عراقي مهم، برئاسة القيادي في حزب البعث الحاكم نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية الفريق صالح مهمدي عماش، عبر رحلة لم يعلم بها أحد، وطلبت الطائرة بشكل مباغت من سلطات المطار الإذن بالهبوط. وبعد أن عرض عماش الدعم الكامل من العراق، ووضع خبرات الثورة العراقية كافة في خدمة شقيقتها الليبية، أعطى أيضاً بضع نصائح «بعثية» لمضيفيه الشبان، بخصوص ضرورة التركيز على العمال والفلاحين والطلبة، وقمع أي ثورة مضادة بحزم، ثم غادر بعد أن ترك وراءه رفيقاً بعثياً معروفاً هو صالح العلي الذي بذل جهده للدخول في أجواء ما يدور في ليبيا تلك الأيام، وما في وسعه للبحث عن بعثيين مؤثرين في المجلس أو من محيطه الذي يتحرك فيه.
وتزامنت هذه الزيارة مع زيارة وفد آخر بعثه جعفر النميري، برئاسة ضابط برتبة رائد اسمه مأمون أبو زيد، كان متحمساً متعالياً كما رآه الليبيون، حيث عرض هو أيضاً «خبرات» الثورة السودانية بفخر على المجلس، واسترسل في الحديث، ما دعا عضو المجلس الرائد بشير هوادي إلى تذكيره بأن «ثورة السودان سبقت ثورة ليبيا بثلاثة أشهر فقط»، وهو فارق زمني لا يسمح لها بالحديث عن الخبرات، فتكهرب الجو في الاجتماع، وكادت المهمة أن تفشل منذ البدء، غير أن الوفد السوداني تجاوز الأمر وواصل سعيه متحولاً إلى طرابلس، حيث التقى بمن تبقى من وفد العراق، وهو أمر أقلق المندوب المصري كثيراً، حتى أنه اتهم الوفدين، في إحدى ملاحظاته، باستغلال وجوده في بنغازي لإحداث تأثير في طرابلس، فيما يخص مشاورات اختيار أسماء أول حكومة للثورة التي كانت تجري بالتزامن مع هذه الزيارات، وهو اتهام يدل على أن محاولة الوفدين قد حققت بعض الاختراقات، وإلا ما كان لرجل عبد الناصر القوي أن يشعر بكل هذا القلق.
بعد 4 أيام أخرى، هبط هواري بومدين بنفسه في مطار بنغازي ليطل على ما يحدث، وعندما رأى الديب الذي كان بدوره في المطار للقاء الوفد السوداني الذي رجع من طرابلس، أعلمه أن عبد الناصر قد أخبره بوجوده في لقاء لهما قبل أيام. وعندما اجتمع بومدين مع القذافي الذي جاء من طرابلس متأخراً، مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، طلب منهم صراحة أخذ الحذر في التعامل مع رجل مصر فتحي الديب، وأن يدققوا في كل مشورة تأتي منه، موضحاً لهم أن عبد الناصر بعث الديب بالذات لأنه يرى أنه قادر على إلحاق ليبيا بمصالح مصر. ويبدو أن كلامه قد أثر في بعض ضباط مجلس قيادة الثورة لبعض الوقت.
ونتيجة لذلك، شهدت العلاقة مع فتحي الديب فتوراً لوقت قصير، وكادت أن تتعقد عندما طلبوا منه في وقت لاحق إحضار مستشاره القانوني معه ليناقش مع العقيد الإعلان الدستوري الذي سبق أن صاغه لهم في مركز عمله بالملحقية، فعد الديب، إضافة لما استنتجه من أجواء الجلسة، أن هناك نوعاً من الحذر في التعامل معه. وعندما أبلغ عبد الناصر بالأمر، طلب منه إبلاغ العقيد معمر القذافي شخصياً برغبته في مغادرة البلد فوراً مع فريقه، الذي بدوره طرح الأمر على أعضاء مجلس الثورة. وبعد أيام من المناقشات، جاء الأعضاء إلى الديب معتذرين، ومعهم قائمة جديدة طويلة من الاحتياجات المطلوبة من الجمهورية العربية المتحدة. وهكذا، لم يطل مفعول نصيحة بومدين إلا بضعة أيام، قبل أن تعود الأمور على ما كانت عليه.
وبعد ذلك بيومين، جاءت طائرة عراقية ثانية، متّبِعة أسلوب السرية والمفاجأة نفسه، وإن حمل الوفد هذه المرة تفسيراً لطريقته في القيام بالزيارات بهذا الشكل المباغت. فقد شرحوا لمضيفيهم أنهم يتصرفون بصفتهم «يقطعون الطريق لبلدهم الثاني، وأنه لا داعي لإعلام أحد بالأمر».
كان الوفد برئاسة شاب بعثي نجمه صاعد هو صدام حسين، نائب الرئيس، الذي أحضر معه فريقاً وزارياً كاملاً، إضافة لرئيس أركان الجيش، ووثائق تشمل كل قوانين ثورة البعث في العراق، وما فعلته للحفاظ على وجودها حتى ذلك اليوم. وعند زيارة العقيد القذافي لمقر الوفد الضيف لأول لقاء مع صدام، قدم الأخير عرضاً باذخا له، اشتمل على خبراء مصاحبين للوفد، مستعدين فوراً أن يستلموا مهامهم في الثورة الشقيقة، لتطبيق ما يجب في مثل هذه الحالات، في قطاعات الإعلام والعمال والشباب، وقدم له أيضاً متخصصاً للعمل في أركان الجيش، سيقدم خبرته في تنقية هذه المؤسسة من أي أعداء محتملين. وأبدى صدام استعداده أيضاً لإرسال فرقة مدرعة وسرب طيران، مضيفاً ما تيسر من نصائحه الشخصية مباشرة لزميله الليبي الجديد، بأن يضع كل أعداء الثورة في السجن لثلاث سنوات على سبيل الاحتياط، وأن يستخدم ضدهم العنف حتى «يفقدوا الذاكرة»، مؤكداً أنها وصفة ناجحة مجربة عندهم منذ زمن.
لكن العقيد لم يُبدِ تفاعلاً كبيراً مع هذا العرض السخي، وقابل ضيفه بنوع من الجفاء والإهمال. غير أن «السيد النائب» لم ييأس من محاولة احتواء هذه الثورة، وانتقل إلى طرابلس، حيث بقي ثلاثة أيام يبحث عن حلفاء أو بعثيين محليين مؤثرين، ولكن من دون نجاح، ليغادر ووفده تاركاً فريقاً صغيراً من 4 أشخاص، بينهم رئيس شركة النفط ورئيس الإذاعة والتلفزيون، لمواصلة البحث. وستبقى ذكرى فشل ذلك الاجتماع، والطريقة التي رأى صدام أنه عومل بها، والمكان الذي استُضيف فيه ولم يكن على المستوى الذي انتظره، ستبقى هذه التفاصيل الشخصية المُرّة حاضرة دوماً في العلاقة بين الرجلين.
غير أن هذا السباق القومي العربي حول ليبيا، كما اتضح للجميع، كان قد حُسم منذ بدايته، عندما ظهر للعيان أنه من نصيب القيادة الكلاسيكية للقومية، المتمثلة في عبد الناصر ومصر. وفي حين كان القوميون العرب يستكشفون ليبيا بحثاً عن مكان، كان عبد الناصر قد بدأ فعلاً في إرسال طواقم كاملة، بعضها بصفة قيادية للمساهمة في إعادة رسم وإنشاء ما يلزم لحماية الثورة الليبية من مؤسسات في مختلف القطاعات الليبية.
وفي الداخل، لم يواجه مجلس قيادة الثورة أي معارضة تُذكر. كانت الأجواء مهيأة لحدوث انقلاب منذ فترة، وكانت هناك مجموعات تعمل على ذلك، وقد تمكنت إحداها من تنفيذ الفكرة برفع الشعار المناسب والسيطرة بسرعة على الأمور. وما إن رُفعت صور عبد الناصر، وظهرت شعاراته إلى العلن، حتى كان الجميع قد أُخِذَ بالتغيير الجديد. فقد كان الشعب يحب عبد الناصر، وليس لديه الوقت للدخول في التفاصيل.
ضباط الانقلاب، أيضاً، أحسنوا التصرف بذكاء فطري، وأعلنوا تعيين العقيد الركن صاحب السمعة الحسنة عبد اللطيف بوشويرب الذي كان شخصياً لا علم له بشيء رئيساً لأركان الجيش، ما ساعد في إضفاء صورة وطنية رزينة على الحدث، إذ ساعدت سمعة بوشويرب في بث نوع من الاطمئنان في الجيش، بينما انطلقت في الأثناء حملة أمنية واسعة سريعة، أُلقي فيها القبض على أهم المطلوبين، بمن فيهم عبد العزيز الشلحي وولي العهد حسن السنوسي. وبعد إعلان الانحياز للناصرية، هاج الناس وخرجوا إلى الشوارع، على الرغم من حظر التجول، للتعبير عن الفرحة وإعلان التأييد.
وفي الإجمال، تمت السيطرة بسهولة ويسر، حتى أن مشكلة الثوار الجدد الحقيقية لم تعد وجود أعداء سيقاومون الثورة، بل في امتلاء الشارع بالمؤيدين.
وما ساعد على ذلك أيضاً أن الملك «المسافر» التزم الصمت التام، قبل أن يُبدي استعداده دفعة واحدة للتنحي (...) وانتهت الأمور في يد القوة الجديدة، وعمّ أخيراً المكان بعض الهدوء.
سيطر النظام الجديد بسهولة كبيرة على الدولة، وعادت الناس إلى أعمالها بوتيرة أسرع مع الوقت، وساد في الجو نفَس جديد متفائل مفتوح على الأفق. ومع الأيام، اقتصر الشأن السياسي وإدارة الدولة على مجموعة صغيرة من ضباط مجلس قيادة الثورة، ومن يدور حولهم في الحلقة الضيقة من مدنيين.
وانتهى هذا الفصل الأساسي في بناء دولة الثورة بإحراز مصر، وعبد الناصر بالذات، السبق فيه دون باقي البلدان، حيث ستأخذ ليبيا، لفترة معتبرة من السنوات، شكل مثال مصغر من مصر، في كل شيء تقريباً، بما في ذلك العلم والنشيد الوطني.
ظل هاجس عبد الناصر الأول هو عدم خروج بومدين جديد في ليبيا يطيح بأي ترتيبات اتخذت بين البلدين. وتحت ضغط هذا الهاجس، اهتم كثيراً بأمن العقيد الشخصي، وأبدى اقتراحات مهمة في هذا الشأن، كما اهتم أيضاً بأعضاء مجلس قيادة الثورة، ودرس ملفاتهم عن طريق رجله الخاص، ولم يكن يتردد عندما يتطلب الأمر في معاينة الأمر بنفسه ليطمئن، كما حدث مع الرائد عمر المحيشي الذي رتب له زيارة إلى القاهرة، حيث التقاه الزعيم مطولاً ليدرسه عن قرب.
وعندما شعر عبد الناصر، بعد أسابيع قليلة، أن الوقت قد حان لحماية «استثماراته» في ليبيا، بعث مجدداً محمد حسنين هيكل حاملاً تصوراً محدداً لشكل العلاقة التي ينبغي أن تكون بين البلدين. وعلى الرغم من أن الخطة المصرية كانت أقرب إلى الوصاية الأمنية والسياسية منها إلى أي شيء آخر، فإن عبد الناصر كان، بحسابات ذلك الوقت، يشعر بالقلق بعد أن رمى بكل ثقله إلى جانب الثورة الليبية، ولم يكن في ظرفٍ يسمح له بالمقامرة بسمعته. لقد كانت هذه الثورة بمثابة «الهبة» السماوية لإنعاش الأجواء القومية الكئيبة التي يعيشها القوميون بعد الهزيمة، وقد استثمر فيها كثيراً من إمكانيات بلده المنهك، ورمى أوراقه علناً على الطاولة للرهان على هؤلاء الشبان الأبرياء الذين ينقلون عدوى الحماس إلى جسدٍ أنهكه اليأس.
في تلك الأجواء، وصل هيكل إلى ليبيا من جديد حاملاً معه رسالة من الزعيم، تحمل بدورها خطة كاملة للارتباط. وتسلم الديب بدوره الرسالة، وقدمها بشكل مباشر إلى العقيد القذافي، كما تنص التعليمات.
بدأت تلك الرسالة الموجهة شخصياً إلى العقيد بديباجة تفسر أسباب ومنافع الاقتراح المطروح الذي يهدف إلى تقديم المساعدة من أجل حماية الثورة الشابة وتأمينها. ومن أجل ذلك، يجب أن يكون هناك «تخطيط مسبق يقدر الاحتمالات كافة» للتعامل مع الأخطار الآتية من الخارج والداخل. وإن هذا التخطيط، كما تقول الرسالة، يحتاج إلى عملية تنسيق على أعلى مستوى. فقد اقترح الزعيم المصري تكوين لجنة مشتركة للبحث والدرس وتقديم المقترحات، وأبدى رغبته في سماع رأي العقيد بهذا المقترح، وأبلغه أنه في حالة قبوله، فإن الرئيس يفضل البدء فوراً في العمل بهذا الاتجاه.
وطبعاً، وافق العقيد فوراً على ما جاء في الاقتراح. وما كاد هيكل يصل إلى القاهرة لإبلاغ رئيسه بتلك الموافقة، حتى كان العقيد في طريقه إلى بنغازي لمقابلة الديب، ليطلب منه تقريراً يتضمن «تقدير موقف» للثورة، واحتمالات الثورة المضادة لها، وما الإجراءات اللازمة لمواجهة أي أعداء. وبعد أقل من أسبوع، كان التقرير بين يدي العقيد للبدء بالتنفيذ.
كان قدوم هيكل بخطة رئيسه في الثاني عشر من أكتوبر (تشرين الأول)، أي بعد وصول فتحي الديب، رجل الرئيس الخاص، بثمانية أسابيع تقريباً، وهي الفترة التي قام فيها الديب بجهد كبير أسفر عن نتائج كبيرة استوجبت منه نقل العملية إلى مستوى جديد يليق بما تم. لقد كان الضباط الشباب متحمسين جداً لعبد الناصر، ولم يكن عندهم أي خطط مستقبلية لما بعد نجاح الانقلاب، ما فتح الطريق أكثر أمام الديب، حتى صار «الدينامو» الذي ينظم أغلب ما يدور.
ولتبيان بعض من قوة ودينامية ذلك الرجل، سنتتبع هنا بعض ما أنجزه في تلك الفترة التي استمرت 40 يوماً فقط، وذلك كما سجلها بنفسه في كتابه شديد القيمة التاريخية «عبد الناصر والثورة الليبية» الذي احتوى يوميات عمله في ليبيا بطريقة يحوطها الفخر والانتماء، ولم يكن من النوع الذي يضيع الوقت. هنا بعض ما جاء في ذاك الكتاب مقتبساً بالنص:
> «… وبادرت بالاتصال ظهر اليوم الرابع بالمقدم آدم (الحوّاز)، مُبدياً رغبتي في سرعة الاتصال بالأخ معمر القذافي، لأطلب منه البدء في تخفيف فترة > «… وكانت الاستجابة فورية، حيث امتدت فترة رفع حظر التجول إلى 5 ساعات بدل ساعتين».
> «… كما تم تكليف (أمين بسيوني) للتوجه لمحطة الإذاعة ليعاون الملازم (عبد الفتاح يونس) المعين من قبل مجلس الثورة لتولي شؤون الإعلام».
> «في صباح الخامس من سبتمبر، أخبرني المقدم الحوّاز بأن مجلس قيادة الثورة عقد جلستين لدراسة الخطوات التنفيذية لتشكيل جهاز إدارة الدولة».
> «… فقمت بتوزيع بعض أعضاء الوفد المرافق، وبعض العاملين في فرع السفارة، لتأدية صلاة الجمعة بمختلف مساجد بنغازي لمراقبة الموقف».
> «اجتمع بمكتبي كل من المقدم آدم الحوّاز والنقيب بشير هوّادي والسيد أمين الشبلي والدكتور جمال العطيفي، ودارت مناقشة حول صيغة وشكل الإعلان الدستوري للثورة».
> «… وتم إعداد مشروع الإعلان الدستوري لأسلمه في اليوم نفسه لعرضه على مجلس الثورة».
> «… ركزت منذ البداية على أهمية ضمان وحدة الجيش وترابطه، كقاعدة انطلاق وتأمين للثورة، مع إبداء النصح للاستفادة من العناصر كافة التي ليس لها اتجاهات حزبية أو مواقف عدائية».
> «وصل المقدم آدم الحوّاز من طرابلس صباح يوم الثامن من سبتمبر، وحضر فوراً للقائي».
> «تم في منتصف الليل نقل كبار الضباط المعتقلين في فندق جراند هوتيل إلى سجن الكويفية، بناء على نصيحتي».
> «… وتم الاجتماع، وحضره العقيد، والنقيب عبد السلام جلّود ممثل طرابلس، والنقيب (بشير هوّادي)، ليستفسروا عن بعض مواد الإعلان الدستوري».
> «… حضر للقائي، ظهر يوم الثاني عشر (سبتمبر) بمبنى السفارة، الأخ الصديق (صالح مسعود بويصير) وزير الخارجية… وقد أخبرني بأنه جاء بصفته الشخصية ليطلعني على حقيقة الوضع، كما يراه، من داخل وخارج اجتماعات مجلس الوزراء».
> «حضر المقدم آدم لمقابلتي بالسفارة، في التاسعة مساء يوم الرابع عشر، وسلمني مستندات خاصة بخطة تطوير الجيش التي أعدها الخبراء البريطانيون».
> «… وإن العقيد معمر ركز في طلبه مني على إعادة التنظيم الشامل للقوات البرية والبحرية والجوية».
> «… انتقل العقيد معمر ليستعرض معي كيفية وأسلوب بناء التنظيم الشعبي، على ضوء المذكرة التي كان قد طلبها وأرسلتها له».
> «… وشرحت أهمية التركيز على السيطرة من خلال الكوادر السياسية الملتزمة بخط الثورة».
> «… وبناء على تكليف العقيد، عقدت معه عدة جلسات تلقين لإيضاح الصورة بالنسبة لمسؤولياته كافة، وكيفية ممارسته للعمل الجديد، وكيفية إدارته لدفة الأمور».
> «… ولمس أعضاء المجلس بأنفسهم الفائدة التي يحققونها في فترة تجمعهم في بنغازي، ووجودي إلى جوارهم لأمدهم بكل ما يحتاجونه من خبرة ومعلومات».
> «… اتصلت من فوري بالأخ عبد المنعم الهوني، وأبلغته بهذه المعلومات التي أكدها هو الآخر، وتم الاتفاق بيننا على الاجتماع معاً لوضع خطة القضاء على هذا المخطط التآمري سريعاً».
> «تنفيذاً لتعليمات الأمن التي زوّدنا بها الأخوة المسؤولون عن أمن مداخل ومخارج ليبيا، أبلغني الضابط المسؤول عن مطار بنغازي...».
> «... الأمر الذي أدى إلى طلبي من الإخوة رئيس وأعضاء المجلس إعطاء تعليماتهم المشددة بزيادة الرقابة على ما يتم...».
> «حضر العميد السوداني محمد عبد الحليم إلى بنغازي وقابلني، ليبلغني أنه تم استدعاؤه بمعرفة العقيد عاجلاً…».
> «… وتوصلنا في نهاية الجلستين اللتين استغرقتا ما يزيد على عشر ساعات إلى الاتفاق النهائي على الخطة المقترحة في مجال الدفاع الجوي والساحل الأرضي».
> «… وفي الجلسة الخاصة التي تتم بانتظام لتجمعني برئيس وأعضاء مجلس الثورة...».
وهكذا، تمضي اليوميات، لنرى فتحي الديب في كل مكان، يقود فريقاً كبيراً من الخبرات التي استدعاها على دفعات، لتكون بمثابة وزارات إسناد للوزارات المعلنة، بحيث كان لكل وزير ليبي تقريباً مستشار مصري يشرف على العمل. وامتلك الديب صلاحيات عبد الناصر في مصر، وبالضرورة عبرها كثير من صلاحيات مجلس قيادة الثورة الذي تحول عنده إلى أداة تنفيذ في كثير من الأحيان. ونراه أيضاً وقد لعب دوراً في كل حدث رئيسي، من الحفاظ على أمن المجلس وقائده، إلى كتابة الإعلان الدستوري، إلى إعادة بناء الجيش والأمن الخاص والمخابرات. كما أنه يستقبل وزراء الحكومة بصفتهم أصدقاء شخصيين، ولكن ليس للحديث عن أمور العائلة والصداقة، بل للاطلاع منهم على ما يجري داخل مجلس الوزراء.
لقد كان فتحي الديب رجل الظل الذي نسج كل الخيوط.

(1 -3) : القذافي و«دِين الغرب»... حاجة الثورة لعدو يمنحها شرعية البقاء
(3 -3) : القذافي هدد برشاشه رفاقه في مجلس قيادة الثورة



نيجيريا تقترب من توقيع اتفاقيات عسكرية مع السعودية لتعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب

وزير الدولة النيجيري ونائب وزير الدفاع السعودي في الرياض (واس)
وزير الدولة النيجيري ونائب وزير الدفاع السعودي في الرياض (واس)
TT

نيجيريا تقترب من توقيع اتفاقيات عسكرية مع السعودية لتعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب

وزير الدولة النيجيري ونائب وزير الدفاع السعودي في الرياض (واس)
وزير الدولة النيجيري ونائب وزير الدفاع السعودي في الرياض (واس)

كشف وزير الدولة لشؤون الدفاع النيجيري، الدكتور بلو محمد متولي، لـ«الشرق الأوسط»، عن اقتراب بلاده من توقيع اتفاقيات عسكرية مع السعودية، بشأن برامج التدريب المشتركة، ومبادرات بناء القدرات، لتعزيز قدرات القوات المسلحة، فضلاً عن التعاون الأمني ​​الثنائي، بمجال التدريب على مكافحة الإرهاب، بجانب تبادل المعلومات الاستخبارية.

وقال الوزير إن بلاده تعمل بقوة لترسيخ الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، «حيث ركزت زيارته إلى السعودية بشكل أساسي، في بحث سبل التعاون العسكري، والتعاون بين نيجيريا والجيش السعودي، مع وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان».

الدكتور بلو محمد متولي وزير الدولة لشؤون الدفاع النيجيري (فيسبوك)

وأضاف قائلاً: «نيجيريا تؤمن، عن قناعة، بقدرة السعودية في تعزيز الاستقرار الإقليمي والتزامها بالأمن العالمي. وبالتالي فإن الغرض الرئيسي من زيارتي هو استكشاف فرص جديدة وتبادل الأفكار، وسبل التعاون وتعزيز قدرتنا الجماعية على معالجة التهديدات الأمنية المشتركة».

وعن النتائج المتوقعة للمباحثات على الصعيد العسكري، قال متولي: «ركزت مناقشاتنا بشكل مباشر على تعزيز التعاون الأمني ​​الثنائي، لا سيما في مجال التدريب على مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخبارية»، وتابع: «على المستوى السياسي، نهدف إلى ترسيخ الشراكة الاستراتيجية لنيجيريا مع السعودية. وعلى الجبهة العسكرية، نتوقع إبرام اتفاقيات بشأن برامج التدريب المشتركة ومبادرات بناء القدرات التي من شأنها أن تزيد من تعزيز قدرات قواتنا المسلحة».

وتابع متولي: «أتيحت لي الفرصة لزيارة مقر التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب في الرياض أيضاً، حيث التقيت بالأمين العام للتحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب، اللواء محمد بن سعيد المغيدي، لبحث سبل تعزيز أواصر التعاون بين البلدين، بالتعاون مع الدول الأعضاء الأخرى، خصوصاً في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب».

مكافحة الإرهاب

في سبيل قمع الإرهاب وتأمين البلاد، قال متولي: «حققنا الكثير في هذا المجال، ونجاحنا يكمن في اعتماد مقاربات متعددة الأبعاد، حيث أطلقنا أخيراً عمليات منسقة جديدة، مثل عملية (FANSAN YAMMA) التي أدت إلى تقليص أنشطة اللصوصية بشكل كبير في شمال غربي نيجيريا».

ولفت الوزير إلى أنه تم بالفعل القضاء على الجماعات الإرهابية مثل «بوكو حرام» و«ISWAP» من خلال عملية عسكرية سميت «HADIN KAI» في الجزء الشمالي الشرقي من نيجيريا، مشيراً إلى حجم التعاون مع عدد من الشركاء الدوليين، مثل السعودية، لتعزيز جمع المعلومات الاستخبارية والتدريب.

وحول تقييمه لمخرجات مؤتمر الإرهاب الذي استضافته نيجيريا أخيراً، وتأثيره على أمن المنطقة بشكل عام، قال متولي: «كان المؤتمر مبادرة مهمة وحيوية، حيث سلّط الضوء على أهمية الجهود الجماعية في التصدي للإرهاب».

وزير الدولة النيجيري ونائب وزير الدفاع السعودي في الرياض (واس)

وتابع الوزير: «المؤتمر وفر منصة للدول لتبادل الاستراتيجيات والمعلومات الاستخبارية وأفضل الممارسات، مع التأكيد على الحاجة إلى جبهة موحدة ضد شبكات الإرهاب، حيث كان للمؤتمر أيضاً تأثير إيجابي من خلال تعزيز التعاون الأعمق بين الدول الأفريقية وشركائنا الدوليين».

ويعتقد متولي أن إحدى ثمرات المؤتمر تعزيز الدور القيادي لبلاده في تعزيز الأمن الإقليمي، مشيراً إلى أن المؤتمر شدد على أهمية الشراكات الاستراتيجية الحيوية، مثل الشراكات المبرمة مع التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب (IMCTC).

الدور العربي ـ الأفريقي والأزمات

شدد متولي على أهمية تعظيم الدور العربي الأفريقي المطلوب لوقف الحرب الإسرائيلية على فلسطين ولبنان، متطلعاً إلى دور أكبر للعرب الأفارقة، في معالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على العرب الأفارقة أن يعملوا بشكل جماعي للدعوة إلى وقف إطلاق النار، وتقديم الدعم والمساعدات الإنسانية للمواطنين المتضررين.

وأكد متولي على أهمية استغلال الدول العربية الأفريقية أدواتها في أن تستخدم نفوذها داخل المنظمات الدولية، مثل «الأمم المتحدة» و«الاتحاد الأفريقي»؛ للدفع بالجهود المتصلة من أجل التوصل إلى حل عادل.

وحول رؤية الحكومة النيجيرية لحل الأزمة السودانية الحالية، قال متولي: «تدعو نيجيريا دائماً إلى التوصل إلى حل سلمي، من خلال الحوار والمفاوضات الشاملة التي تشمل جميع أصحاب المصلحة في السودان»، مقراً بأن الدروس المستفادة من المبادرات السابقة، تظهر أن التفويضات الواضحة، والدعم اللوجيستي، والتعاون مع أصحاب المصلحة المحليين أمر بالغ الأهمية.

وأضاف متولي: «حكومتنا مستعدة للعمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين، لضمان نجاح أي مبادرات سلام بشأن الأزمة السودانية، وبوصفها رئيسة للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والاتحاد الأفريقي، تدعم نيجيريا نشر الوسطاء لتسهيل اتفاقات وقف إطلاق النار والسماح بوصول المساعدات الإنسانية».

وفيما يتعلق بفشل المبادرات المماثلة السابقة، وفرص نجاح نشر قوات أفريقية في السودان؛ للقيام بحماية المدنيين، قال متولي: «نجاح نشر القوات الأفريقية مثل القوة الأفريقية الجاهزة (ASF) التابعة للاتحاد الأفريقي في السودان، يعتمد على ضمان أن تكون هذه الجهود منسقة بشكل جيد، وممولة بشكل كافٍ، ومدعومة من قِبَل المجتمع الدولي».

ولفت متولي إلى تفاؤل نيجيريا بشأن هذه المبادرة بسبب الإجماع المتزايد بين الدول الأفريقية على الحاجة إلى حلول بقيادة أفريقية للمشاكل الأفريقية، مبيناً أنه بدعم من الاتحاد الأفريقي والشركاء العالميين، فإن هذه المبادرة لديها القدرة على توفير الحماية التي تشتد الحاجة إليها للمدنيين السودانيين، وتمهيد الطريق للاستقرار على المدى الطويل.