«الثقافة المغربية» تعالج المسرح وأفق التجريب

«الثقافة المغربية» تعالج المسرح وأفق التجريب
TT

«الثقافة المغربية» تعالج المسرح وأفق التجريب

«الثقافة المغربية» تعالج المسرح وأفق التجريب

صدر أخيراً عن وزارة الثقافة والشباب والرياضة المغربية العدد 40 لمجلة «الثقافة المغربية»، في نسخة إلكترونية، تماشياً مع ظروف الجائحة الكونية. الملف الرئيسي للمجلة في عددها الجديد كان عبارة عن مبحث في «المسرح المغربي... أفق التجريب وحدود الفرجة»، وقد أُرفق العدد بكتاب إضافي تحت عنوان «ليون الأفريقي... حياة الوزان الفاسي وآثاره» من إعداد الدكتور أنور المرتجي، وهو يتناول تجربة حسن الوزان أو ليون الأفريقي لمؤلفه محمد المهدي الحجوي.
العدد 40 من المجلة جاء كما جرت العادة متنوعاً بمساهمة عدد كبير من الباحثين والكتاب والمسرحيين والشعراء المغاربة، وقد تنوعت الأبواب بين «المقاربات الفنية» و«كتابات في الفكر والنقد» تناولت مواضيع الأنثربولوجيا والسرد الروائي، إضافة لباب إبداعي تضمن نصوصاً في الشعر والقصة، وآخر عن «نصوص الغائب» في قراءات متأنيّة لأعمال مبدعين رحلوا. كما حضرت الترجمة في باب خاص حمل عنوان «لسان الآخر» تعبيراً عن دورها الحيوي في إثراء العقل الثقافي المغربي، وقد تضمنت كتابات نقدية مترجمة عن الشاعرة الروسية نيكا توربينا والشاعر الإسباني فدريكو غارسيا لوركا، بالإضافة لباب «النبوغ المغربي» الذي اعتاد استحضار نصوص من خالدات العقل الفكري المغربي، وقد كان نص «المختار السوسي» في نقد الأدب المغربي ضيفَ الباب لهذا العدد. واستمراراً لعادة رسخّتها الأعداد الأخيرة كنوع من الاستحضار الرمزي للأسماء الثقافية المغربية من الكُتّاب الراحلين، فقد احتفت المجلة بالشاعر المغربي الراحل أحمد الجوماري عبر وضع صورته على ظهر الغلاف.
وفي افتتاحيتها، شدّدت هيئة تحرير المجلة على ضرورة التجدد المستمر في التصوّر من حيث تقديم المجلة وإخراجها تماشياً مع تجدُّد الثقافة نفسها، وبالنظر إلى أن التكرار والاستعادة والتسليم بما هو قائم يجعل الرؤية الثقافية رهينة للأفكار التي تتلبّد كالغمامة أمام الأعين، وتحجب عنها الأفق القريب منها. كما أوضحت أن الخيط الجامع بين مختلف الملفات التي تناولتها المجلة في أعدادها المتواترة هو «راهن الوضع الثقافي» في زمن التحولات بغية التساؤل عمّا إذا كانت الثقافة المغربية تعيش فعلاً في زمن الحداثة، أم أنها تتكئ على «الآخر»، وهو سعي تحاول من خلاله المجلة أن تكون «مجلة زمن الرّاهن» حين تدفع القارئ إلى التفكير فيما لم يتم التفكير فيه بعد من انشغالات فكرية وثقافية وفنية.
الهيئة التحريرية عزت ارتباط ملف هذا العدد بفن المسرح تحديداً إلى سعي المجلة لتحفيز الأسئلة والأفكار والنظر بشكل أكثر انتباهاً إلى مكامن الفرجة والجمال في المسرح باعتباره واقعاً لا يعلو على الواقع، بل ينزل إلى طبقاته ويتوغّل في سراديبه العميقة والمعتمة متطلعاً إلى الحلم والوعي والاكتشاف والذهاب بالمتفرج نحو دائرة المجهول واللانهائي. ومن بين العناوين التي تمحورت حولها أسئلة المجلة عن المسرح المغربي نجد الحديث عن الدراسات المسرحية والمونودراما بين سؤال الهوية الإبداعية والسعي إلى تأسيس وعي جمالي جديد وأسئلة مبتكرة عن «آفاق المهنَنَة» و«البعد التنويري في المسرح المغربي» وصولاً إلى «سؤال ما بعد الدراما».



البحث عن بطل

البحث عن بطل
TT

البحث عن بطل

البحث عن بطل

في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فالح مهدي شرح مفصّل عن الشعوب التي ترزح تحت نير الظلم والإذلال، وكيف تعلّق أمرُ خلاصها برقبة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عودته إلى الحياة عن طريق البعث أو النشور، كي يحقّق العدل الغائب عن وجه الأرض، ويعوّض ناسها ما فاتهم من عيشة هانئة مستقرّة. اكتسى هذا المخلّص عبر مراحل التاريخ بجلابيب أسماء عديدة، منها «كريشنا» المنتظر في الديانة الهندوسيّة، و«بوذيستاوا» أي «بوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المنتظر وإسماعيل المنتظر والسفياني المنتظر واليمانيّ المنتظر والقحطانيّ المنتظر.

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين؛ لأن كلّ ما يأتي به الشّيطان لا يُهزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لكي يستعجلوا هذه القوى، وإلّا فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم.

هو ليس انتظار اللاشيء، حتماً، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المؤمن في ظلّه في حالة وجْد لا يفتُر، يكون الزمن فيه مجمّداً عند المستقبل الأزليّ واللانهائيّ. هل جرّبتم العيش دون حاضر أو ماضٍ؟ عندما تغيب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة من المرء، يحلّ اليأس التامّ والمُطلق، وهو أحد شروط تحقيق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولى في سبيل عودة «بوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى بقيّة المخلّصين. ثم يغيب الماضي كذلك، وتختفي معه أحداثه، ويبقى الوقع الأهمّ هو ظهور المُنقذ في القادم من الأيّام والشهور والسنين، وربما حلّ الموعد والمرء نائم في قبره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين.

عندما يتوقّف الدماغ تنشط آلة الخيال، ردّ فعل طبيعيّ لحالة الفقد والحرمان والإذلال، لكنّه خاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ للنّفس والبدن يؤدّي بنا إلى الجنون وخراب الدّيار. الانتظار يولّد انتظاراً آخر، ولا يوجد شيء اسمه فوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نظنّ، يُعادل الرُّضوخ. والحياة هي في عدم الرُّضوخ». من فكرة المُنقذ المنتظر جاء حُلم الشعوب المقهورة والضعيفة بالبطل المُرتجى، تبحث عنه كي تؤلّهه، ولن تُرفع إليه الأبصار إن كان حيّاً، وإذا كان ميّتاً تُعينهم ذكراه على تحمُّل الضَّيم الذي يكابدونه. في كلّ بلد ضعيف لا بدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والبُؤساء، يرسمون له الأساطير التي لا تحكي الواقع بطبيعة الحال، لكنّها تعكس حالة الضعف والخَوَر اللّذيْن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلى درجة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلى صورته منقوشة على صفحة القمر، وهذا ما جرى حقّاً وفعلاً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على أيدي انقلابيّي «8 شباط»، ثم قام هؤلاء برمي جثمانه في النهر، كي يتخلّصوا من حُبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الفعلان إلى السماء، بعد أن لم يعثر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدُّموع.

لا يُشترط في البطل أن يكون غائباً، أو لديه صفات هذه المرتبة الخارقة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الذين يعيشون بيننا، أو شخصاً غريباً وقَدَرِيّاً يُرفع إلى هذه المكانة عنوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يتهدّد حياته، فهي صارت أوّلاً وأخيراً بأيدي مريديه. هناك نوع من اشتباك مصائر يعيشه الطرفان: الجماهير تنظر إلى البطل على أنّه حامي ديارها وأرواحها من الخراب والفناء، والمنقذ يتطلّع بدوره إلى هؤلاء، في سبيل بقاء الصفات المبجّلة التي أسبغوها على شخصه.

فكرة البحث عن قائد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لدى الإنسان، وجديدة أيضاً. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثمّة بطل دَوْماً. عندما يغيب العدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جديد، من مزاياه أنّه ليس مخلّداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ له عمرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يتمّ دفنه بعد فنائه ليولد بطلٌ جديد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تاركاً مقعده إلى مُنقذ أكثر جِدّة يواكب الرحلة مع الأحفاد؛ لأنّه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين.

البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومأزوم في الواقع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بين الاثنين كبير إلى درجة أن الناس يعيشون في ظلّ منقذهم في حال من الرِّقّ الجماعيّ، بكلّ ما في قوّة أنظمة الاسترقاق القديمة من سلطة القانون، وما كانت تحمل من أغلال اجتماعيّة وأخلاقيّة. وإن كان الأمر يحصل بصورة غير ظاهرة للعِيان، لكنّ شكل الحياة الأخير مطابق لذلك الناتج من حالة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون.

بالإضافة إلى العبوديّة، لا يمثّل البطل في هذا الزمان رمزاً قوميّاً يشدّ من أزر الجميع؛ لأننا نعيش في بلدان متعدّدة الأعراق والمعتقدات والأرومات، ولهذا السبب رحنا نبتكر أكثر من بطلٍ واحد: اثنين أو ثلاثة أو أكثر، يتحوّلون بمرور الوقت إلى أداة للفُرقة، تصيرُ بسبب التشاحن الدائم جزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الباردة) في البلاد، تدوم طويلاً لأن أسبابها باقية وتتقوّى مع السنين، ويوماً ما سوف تسخن حتماً وتتفجّر إلى هستيريا جماعيّة تستيقظ فيها نوازع الشرّ والتوحّش القديمة النائمة، ويتقاتل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قوى أجنبيّة (استعماريّة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد.

عندما تكون حياة الإنسان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تكون الحريّة مبذولة، وتسود العدالة الجميع، عندها فقط يختلف وعي الأمة وسوف تجد مُنقذَها من داخلها لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنذاك إلى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمهندس... مثلما يجري الآن في الأمم المتحضّرة. من هنا جاءت فكرة النجم في المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للأمر علاقة بالمال ورأس المال، وغير ذلك من كلام يُضيّق على النفس ويصدّع القلب والرأس.