الأفلام السينمائية ما بين التصويت الجماهيري والرأي النقدي

منحى تقويمي برز مع صعود سطوة السوشيال ميديا

بوستر فيلم «الجرذي»
بوستر فيلم «الجرذي»
TT

الأفلام السينمائية ما بين التصويت الجماهيري والرأي النقدي

بوستر فيلم «الجرذي»
بوستر فيلم «الجرذي»

في السابع والعشرين من فبراير (شباط) بدأت شبكة نتفليكس عرض (ستة شبابيك على الصحراء) بعد أن استحوذت على حقوق بثها، وهي عبارة عن ستة أفلام سعودية قصيرة من إنتاج استوديوهات (تلفاز11). وقد جاء العرض فرصة ليتعرف الجمهور في السعودية على عينة من تلك الأفلام التي كانت حكراً على العروض المهرجانية، حيث صار بمقدور الجمهور التعليق على مستوى الصناعة السينمائية السعودية وكفاءة المؤلفين والمخرجين والممثلين. وفي هذا الصدد يمكن التمثيل بفيلم (الجرذي) The Rat لكاتبه ومخرجه فيصل العامر. وهو فيلم غرائبي قصير، مدته عشر دقائق، من بطولة زياد العمري، الذي لم يرق له الاستقبال الجماهيري السلبي للفيلم فدخل مع المشاهدين في مشادات كلامية عبر مواقع الـ«سوشيال ميديا».
غرائبية الفيلم، وكثافة العلامات في حيز بصري ضيق، وعدم وجود خط سينمائي واضح هو الذي أوجد سوء الفهم ما بين المشاهدين والفيلم، حيث جاءت التعليقات مخيبة لآمال بطله زياد العمري، الأمر الذي اضطره لمخاطبة الجمهور عبر مقطع فيديو قصير، يصعب الجزم بكونه جاداً أو ساخراً، قال فيه دفاعاً عن الفيلم: «هذه النوعية من الأفلام ليست لك وليست لي مع احترامي لك. هذه الأفلام مقدمة لنقاد الأفلام وعالم الفن والآرتستك. يعني الفيلم مليان آرت، مليان رمزيات. رمزيات بشكل فضيع لا يستوعبها العقل البشري». وقد قوبل تصريحه بمضاعفة السخرية من الفيلم، الأمر الذي اضطره لتوسل الجمهور للدخول إلى موقع تقييم الأفلام الشهير IMDb عبر مقطع آخر ورفع تقييم الفيلم الذي لم يحصل إلا على 1.6 حيث قال: «ما أريده منكم هو الذهاب إلى موقع تقييم الأفلام وتقييم الفيلم بدرجة عشرة، أو على الأقل سبعة ثمانية، وقفتكم يا جماعة الخير».
وبقدر ما يعكس التصريح الأول بؤس وعي بطل الفيلم، الذي أدى دوراً معقداً في فيلم نفسي بالدرجة الأولى، من دون دراية ولا دراسة للشخصية التي يؤديها في فيلم مغاير من الوجهة الفنية، يحيل تصريحه الثاني إلى المعيار الذي صارت الأفلام تحتكم إليه، وهي النقطة الجديرة بالمجادلة. حيث صارت كفاءة الفيلم وجودته تعتمدان على التصويت عوضاً عن صوت الناقد الذي أُعلن موته أدبياً وفنياً، بمقتضى مهبات ما بعد الحداثة التي أعطت صوتاً لكل فرد في إطار ما يعرف بالمساواة الثقافية، وانطفاء صوت المثقف مقابل ما بات يوصف بالخبير، الذي أعطى لنفسه حق إلغاء دور الناقد كوسيط، ليعلن نفسه مستشاراً فنياً يمكن الاعتماد عليه في تقويم الأعمال الأدبية والفنية، حتى وإن لم يمتلك أي رصيد من الخبرة أو التجربة، فهو نتاج عصر الجماهير.
وهنا يمكن التدليل بفيلم الجوكر Joker الذي تبناه الجمهور في كل أنحاء العالم، بمجرد عرضه نهاية العام الماضي. حيث بلغ تقييمه في موقع تقييم الأفلام الشهير IMDb خلال الأشهر الأولى 9.9 بمقياس عشرة، وذلك عبر رافعة تصويت جماهيرية جارفة، ليستقر مؤخراً عند 8.6 كما تجاوزت إيراداته المليار دولار، على إيقاع حملات إعلانية وإعلامية شارك فيها إلى جانب الجمهور بعض المشتغلين بالفلسفة، وأطباء مختصون في علم النفس، لدرجة أنه حظي بالترشيح لإحدى عشرة جائزة أوسكار، لكن لم يحصد سوى جائزتين، في الوقت الذي لم يهبه معظم النقاد أكثر من نجمتين، فقد وصفه بيتر براد شو في صحيفة «الغارديان» بأنه أكثر الأفلام المخيبة للآمال عام 2019. كما اعتبرته آن هوراندي في «واشنطن بوست» بأنه مجرد فيلم، ولا يمكن التعامل معه كفيلم عظيم. كذلك قال عنه أ. و. سكوت في «نيويورك تايمز» بأنه فيلم ضحل وبلا ثقل، ولا يستحق أن يؤخذ على محمل الجد.
هذا التباين الواضح ما بين تصويت الجمهور وآراء النقاد لم يظهر بظهور فيلم الجوكر، فهو منحى تقويمي برز مع صعود سطوة الميديا، حيث يقول جيمس موناكو في كتابه «كيف نقرأ فيلما - الأفلام والوسائط وما بعدها، الفن والتكنولوجيا واللغة والتاريخ والنظرية»، محللاً تلك الأسباب «منذ ظهور الإنترنت، فإن النقد السينمائي في حد ذاته قد تطور في السياق الجماهيري، وأكثر المواقع النقدية نجاحاً تقدم تقييماً إحصائياً، يعتمد على آراء المتفرجين. أو مسحاً لما تبقى من المراجعات النقدية في الصحف، التي لم تتخل بعد عن دورها في هذا المجال. وإذا كنت تؤمن بحكمة الجماهير، فسوف يكون أسلوب التقييم بالعلامات ذا جاذبية. لكن النقد ليس من عادته أن يكون كذلك، فما يجب أن يكون هو تقديم حوار بين الناقد والسينمائي».
بعض المواقع العالمية المخصصة لتقييم الأفلام، خصوصاً تلك التي تفتح صفحاتها لتعليقات المشاهدين وآراء المدونين ولا تكتفي بتعليق نجمات التقييم، تقدم خدمة تفاعلية على درجة من الأهمية في مقاربة الأفلام، حيث تتفوق أحياناً مطالعات بعض المشاهدين على آراء نقاد الصحف والمواقع الإلكترونية. وهي مواقع تتفاوت من حيث الجدية والصرامة، كما يبدو ذلك على درجة من الوضوح في الفارق ما بين الديمقراطية الفارطة في موقع IMDb والتحفظ الفني لموقع الطماطم الفاسدة Rotten Tomatoes الذي يصعب فيه تغليب التصويت على الآراء النقدية. وإن كانت بعض هذه المواقع محتلة بجماعات ضغط جماهيرية، فعلى سبيل المثال ما زال فيلم (خلاص شوشانك) The Shawshank Redemtion يحظى بنسبة تصويت تبلغ 9.3 وهو فيلم رائع بكل المقاييس، وكلما انخفضت نسبته تدخلت قوة جماهيرية تصويتية لترفع من قيمته.
معضلة التصويت كأداة تقييم للأفلام أنها تساوي ما بين رأي روبرت إيبرت، الناقد السينمائي الوحيد الحاصل على جائزة بوليتزر، وتعليق عابر لأحد متصفحي الإنترنت المفتقرين إلى الخبرة والدراية بفن السينما. وهذه معيارية مضللة استفادت منها مؤسسات إنتاجية قادرة على توظيف الميديا، لدرجة دفع الأفلام إلى منصات الجوائز ومضاعفة الإيرادات بشكل خيالي. وذلك في ظل غياب الأصوات النقدية القادرة على فحص الأفلام وعرض قراءات مقنعة. أما التعليقات النقدية العابرة في تلك المواقع فهي إما محمولة على نبرة إعلامية أو رؤية اجتماعية، أي التعامل مع الأفلام كامتداد لحركات سياسية وثقافية واجتماعية، بمعزل عن مرادات الفيلم وتقنياته الفنية.
مع بداية عرض أي فيلم تتجدد المعركة ما بين ميليشيا المصوّتين المحتشدين في مظاهرات تأييد تحركها خيوط تسويقية، وبين وجهات نظر نقدية يظل أثرها محدوداً بين المهتمين. إذ لم تعد سلطة الحكم على جودة الأفلام وجمالياتها بيد المختصين في صناعة السينما، بل صارت بيد المشاهدين الذين صاروا يقترحون قوائم الأفلام الجديرة بالمشاهدة في جميع أنحاء العالم. وهذا هو أحد المخاطر التي تهدد الخطاب السينمائي في السعودية، حيث يزدحم المشهد بكائنات رقمية لم تتعرف على السينما إلا من خلال مقترحات هوليوودية، وللأسف بعض هؤلاء يشاركون في تشييد المشهد السينمائي في السعودية، في ظل غياب أهم ركائز الفعل السينمائي المتمثل في وجود شخصيات نقدية سينمائية مؤثرة وعارفة بأسرار الصناعة السينمائية، وبذلك يبقى التصويت هو المعيارية القاتلة لأي جهد سينمائي.
- ناقد سعودي


مقالات ذات صلة

فيلم «الست» يقدم عرضه الأول في الرياض بحضور أبرز أبطال العمل

يوميات الشرق حضور كبار النجوم افتتاح العرض الأول لفيلم «الست» في الرياض (موسم الرياض)

فيلم «الست» يقدم عرضه الأول في الرياض بحضور أبرز أبطال العمل

شهدت العاصمة السعودية العرض الأول لفيلم «الست»، الذي يتناول السيرة الذاتية لكوكب الشرق أم كلثوم، في حدث فني رعته الهيئة العامة للترفيه (GEA)، و«موسم الرياض».

فاطمة القحطاني (الرياض)
يوميات الشرق الممثل البريطاني خلال حضوره في مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)

نيكولاس هولت: أطمح في تقديم عمل سينمائي حول سباقات السيارات

شهدت الجلسة التي استضاف فيها مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» في جدة الممثل البريطاني نيكولاس هولت حديثاً مفتوحاً كشف عن جانب من مرحلة جديدة يمر بها في مسيرته.

أحمد عدلي (جدة)
يوميات الشرق ‎⁨المخرج دارين أرونوفسكي خلال الجلسة (تصوير: إيمان الخطاف)

دارين أرونوفسكي في «البحر الأحمر»: جبل قارة موقع سينمائي

أبدى المخرج الأميركي دارين أرونوفسكي انبهاره بمدينة الهفوف (شرق السعودية)، وذلك خلال زيارته الأخيرة لها، خصوصاً أمام التكوينات الصخرية البديعة لجبل قارة.

إيمان الخطاف (جدة)
يوميات الشرق الأسرة مجتمعةً لمُشاهدة إحدى المباريات ضمن أحداث الفيلم (إدارة المهرجان)

أبو بكر شوقي يعود بفيلم يتتبَّع مصر من الهزيمة إلى التحوّلات الكبرى

يُعرض الفيلم في مسابقة «البحر الأحمر» للأفلام الطويلة...

انتصار دردير (جدة)
سينما شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)

شهد أمين لـ«الشرق الأوسط»: «هجرة» يكسر نموذج المرأة الواحدة

بين حضور دولي، بدأ مع فيلم «سيدة البحر» عام 2019، وصولاً إلى اختيار فيلمها الجديد «هجرة» لتمثيل السعودية في سباق الأوسكار 2026، تبدو المخرجة السعودية شهد أمين

إيمان الخطاف (جدة)

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
TT

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) في صيف 2019. تضم هذه السلسلة في الواقع مجموعات عدة من المدافن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو 25 كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» في عام 1965، حيث عمد باحثان يعملان لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هذه الناحية من الخليج خلال تلك الفترة، فباشرت دراسة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الأواني الفخارية تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن.

تحمل «تلال مدافن دلمون» اسم إقليم برز شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما تشهد المصادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة من القطع مصدرها حقل «مدافن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوانٍ تتميز بحلل زخرفية تبدو غير مألوفة في محيطها، منها آنية على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي اليوم من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة. يبلغ طول هذه الزهرية المخروطية 12 سنتيمتراً، وعرضها 9 سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي.

تُزين القسم الأعلى من هذه الزهرية شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي في وسطها خطاً متعرّجاً. خُطت هذه الشبكة باللون الأسود، وتقابلها شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتلّ القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طرازاً مكرّساً، يُعرف في قاموس الفنون باسم «بيبال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأسود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقاً لنسق فني اعتُمد بشكل واسع في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا، وبات من خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مدى قرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا.

تبدو زهرية دار كليب على الأرجح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المتواصلة التي جمعت بين هذا الوادي وإقليم دلمون. لا نجد ما يماثل هذه الآنية في هذا الميراث، غير أننا نقع على قطعة تشابهها بشكل كبير، مصدرها المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفاً بها ضمن كتاب لها صدر عام 1984، تناول مجموعة من اللقى الأثرية تمّ اكتشافها في هذه المناطق الشرقية.

خرجت من مدافن دار كليب كذلك مجموعة من القطع الفخارية تعود إلى الحقبة التي أطلق فيها المستكشفون الإغريقيون على جزيرة البحرين اسم تايلوس، وهي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى فترة دخول الإسلام. تُشكّل هذه القطع مجموعة من مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعاً تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة من الفخار المزجّج، عُثر عليها خلال حملة محليّة تمّت بين عام 1993 وعام 1994، وهي من محفوظات المتحف الوطني بالمنامة.

صُنعت هذه الآنية بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد على الأرجح، وفقاً لتقنية نشأت قديماً في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهي على شكل جرة لها عنق طويل، طولها 32.5 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً. تشابه هذه الجرة في تكوينها العام جرة معاصرة لها خرجت من الموقع نفسه، وتتميّز بعروة على شكل مجسّم حيواني، تحل مكان العروة التقليدية المجرّدة من أي شكل تصويري. يصعب تحديد نوعية هذه البهيمة، والأرجح أنها تمثل كبشاً ذا قرنين مستديرين، وتشكّل امتداداً لتقليد قديم، تبدو شواهده محدودة في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر هذا الكبش في قالب جامد تغيب عنه أي حركة ظاهرة، وتبدو قوائمه الأربع ثابتة في وضعية واحدة ثابتة، يغلب عليها طابع التحوير والتجريد. يتبع تكوين رأس هذه البهيمة هذا النسق، ويتميّز بقرنين عريضين صيغا على شكل هلالين متوازيين.


آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
TT

آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

مصعد المستشفى لا يكفّ عن الرنين، بينما المرضى وزوارهم يخرجون ويدخلون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صورة شعاعية، قبل أن تظهر لنا الكاميرا سعد الله ونوس على سرير المرض شاحباً، متعباً، هزيلاً، وقد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه.

هكذا يبدأ «الوثائقي» المعنون: «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج عمر أميرالاي، مع صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من وفاته يوم 15 مايو (أيار) 1997، وعرض يوم 28/11، في سينما متروبوليس ببيروت.الكلمة الأخيرةالفيلم بمثابة وصية، أو لنقل الكلمة الأخيرة التي تركها لنا هذا الكاتب الكبير بنصوصه كما بانخراطه الكامل في القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع».

الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المرض، بل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخرى. عندها التاريخ قد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. نكبة 1948 «أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات»، يقول ونوس في مطلع الفيلم الذي عرض في سينما «متروبوليس» في بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ساندرا إيشيه تتحاور فيه مع عمر أميرالاي ضمن فعالية «حواران على أهبة الموت» لـ«سينماتك بيروت».

مات «رائد المسرح السياسي»، سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع سرطان في البلعوم كان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطباء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سنوات. ومن حسن حظنا أنها كانت من أغزر فترات حياته إبداعاً، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشارك في هذا «الوثائقي» البديع الذي تحدث خلاله عن العلاقة العضوية التي ربطته بالقضية الفلسطينية، وأحداث المنطقة كيف عاشها بروحه وضميره ووجدانه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه.

عمر أميرالاي

أميرالاي الساخر حد البكاء بقدر ما يبدو سعد الله ونوس حزيناً ومكفهراً، نرى صديقه عمر أميرالاي حين تحاوره المخرجة الفرنسية، في الفيلم الثاني، ساخراً هزلياً بمرارة، حتى تختلط الدموع بالقهقهات. ويجيب على الأسئلة باعتباره يعيش في عام 2030 خاصة وأن كل التوقعات في الخمسين سنة الماضية، حصلت، ولم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غداً نعرفه اليوم. فهو كسوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون واللبنانيون يتقاسمون الشيء نفسه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس».

«أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1997) يكتسب أهميته من حيث أنه اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة. تبدأ من نكبة 48 حيث فتح ونوس عينيه على قصة شابين من قريته «حسين البحر» تطوعاً في جيش الإنقاذ، ليحررا فلسطين من الذين جاءوا ليحتلوها. كان ترقّب مغمّس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا».

يسير الفيلم على وقع نقاط المصل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كنا بلاداً فقيرة» لكن مع كل الهموم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة».هزيمة 1967 لحظة حاسمة بعد أن استقر في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة 1948 كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، وأنها لم تكن أبداً بسبب ضعف القدرة القتالية عند الجندي العربي. «زرعوا في أذهاننا أن مسألة هزيمة إسرائيل هي مسألة ممكنة، في أي لحظة».لذلك جاءت هزيمة 67 مدويّة. «لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة». وعدت الأنظمة العربية بأنها ستحمي الوطن وأنها المؤهلة للقتال، ولم تفعل شيئاً إلا مراكمة الهزائم.

البكاء مع بلوغ النهاية مشاهد استسلام الجنود كانت مؤلمة. «الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، أنهم مهانون حتى العظم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الشاي، عبد الناصر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بالطائرات، جنود عرب يستسلمون. تتالى المشاهد التي تدعو كلها لمزيد من الانكسار.يكاشفنا ونوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشعر أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى.

أهمية حرب 73 أنها كشفت بعد هزيمة ساحقة، أن إسرائيل ليست حصناً منيعاً لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تجرح وتخسر معارك. «لذلك صفقنا كثيراً. عندما قامت حرب 1973. مجرد شعورنا بأن جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات».

لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد 67، وربما أنها كانت في ذهن بعض من شاركوا فيها مقدمة لما أتى بعدها.لم يبقَ سوى الانتحارحين زار أنور السادات إسرائيل أصاب ونوس الذهول. جلس وكتب «أنا الجنازة والمشيعون معاً». كان ذلك آخر نص، ومن بعده التزم سعد الله ونوس الصمت. كان متوتراً ولا يستطيع السيطرة على نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة النوم، وحاولت أن أخرج من حالتي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توتراً وضيقاً وكانت الظلمة شاملة أمامي. في تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية».

في فترة الصمت الطويلة المغمسة بالاكتئاب، أمضى معظم وقته في القراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، إلى أن أنعشت مشاعره انتفاضة 1989 وحفزته على كسر الصمت. في تلك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريباً أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

عندما راودته فكرة المصالحةنهاية المسرحية، أثارت الجدل، لأنها تضمنت حواراً بينه وبين طبيب نفسي إسرائيلي، يردد طوال المسرحية مقتطفات من سفر إرمية مستنزلاً اللعنات على السياسة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً.

يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح باباً على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُرُم. «مجرد أن أقدم في المسرحية شخصية يهودية إيجابية تحتج على ما يحدث، وعلى ممارسات (الشين بيت) إزاء الفلسطينيين وعمليات التعذيب التي يقومون بها، مجرد أن أقدم شخصية من هذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفاً مع الإسرائيليين».

المشكلة في البلاد العربية أيضاً، بهذه البنى المتخلفة التي لم تحدّث و«تجعل من شعوبها كماً بشرياً مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه».

العلاقة بين القصف والسرطانيعتقد سعد الله ونوس أن ثمة علاقة مباشرة بين حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء الحرب، وخلال القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثم جاءت مفاوضات مدريد بعد هزيمة العراق التي يصفها بـ«الاستسلام» لأنها «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل».

إسرائيل غدت حقيقة تاريخية، غير أنه بقراءة متأنية يستنتج أنها لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت».يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟»يجيب: «على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث».

أميرالاي رحل هو الآخر عام 2011. ولم يشكّ ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته».


علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.