أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا

أمام خلفية تحديات الداخل والتنافس الصيني الهندي في جنوب آسيا

أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا
TT

أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا

أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا

فاز القائد العسكري الأسبق ووزير الدفاع السابق غوتابايا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية بجمهورية سريلانكا، متغلباً على منافسه ساجيث بريمداسا، مرشح الحزب الوطني المتحد المحافظ، بفارق يزيد على 10 في المائة من مجموع أصوات الناخبين.
راجاباكسا، وهو الشقيق الأصغر للرئيس الأسبق ماهيندا راجاباكسا، كان مرشح حزب «جبهة الشعب السري لانكية»، ولقد اجتذب أصوات الغالبية العرقية الدينية السنهالية في البلاد بجانب تأييد رجال الدين البوذيين الأقوياء. وبعد هذا الفوز أسند الرئيس المنتخب رئاسة الحكومة إلى شقيقه الرئيس الأسبق.
وللعلم، تشكل الأغلبية السنهالية نحو 74.9 في المائة من سكان سريلانكا. في حين تشكل أقلية التاميل - وهم هندوس - أكبر أقليات البلاد من حيث العدد بنحو 11.1 في المائة من تعداد السكان. ويشكل التاميل الهنود طائفة عرقية متميزة بنسبة 4.1 في المائة من سكان سريلانكا. بالإضافة إلى ذلك، تضم الجزيرة نحو 1.97 مليون مواطن من المسلمين، أو ما يمثل نسبة 5 في المائة من تعداد السكان.

حصلت سريلانكا هذا الأسبوع على أول حكومة يديرها شقيقان عندما قرر الرئيس المنتخب - قبل أيام - غوتابايا راجاباكسا تعيين شقيقه الأكبر والرئيس الأسبق للبلاد ماهيندا في منصب رئيس الوزراء البلاد، ما سيعزز قبضة الأسرة على حكم البلاد. كذلك صدرت قرارات رئاسية بتعيين عدد من أفراد الأسرة في مختلف المناصب على رأس المؤسسات الرئيسية في البلاد مثل شركات الطيران الوطنية، والمؤسسات الحكومية. كما جرى تعيين الأقارب الموثوق في ولائهم في المناصب الدبلوماسية الرفيعة في مختلف العواصم الأجنبية.
الاستقطاب السياسي
في الحقيقة، ما كان فوز غوتابايا راجاباكسا الحاسم مفاجئاً، مع أنه شكل صدمة قوية في وجه الليبراليين في العاصمة كولومبو، لكونه يشكل نظام الحكم الأكثر استقطابا من الناحية الإثنية في سريلانكا. ذلك أنه بينما حظي انتخاب الرئيس الجديد بترحاب كبير من جانب الغالبية السنهالية لم تكن الأقليتان التاميلية والمسلمة في حالة مزاجية تسمح لهما بالاحتفال أو الابتهاج. وهنا تقول الكاتبة الصحافية سودها تشانديران موضحة: «ينسجم فوزه الانتخابي مع السرد الشائع إزاء بلدان الجنوب الآسيوي التي تتحول على نحو تدريجي باتجاه الديمقراطية غير الليبرالية».
المعروف على نطاق واسع أن غوتابايا راجاباكسا كان اليد اليمني لشقيقه، منفذا إزاء ما يصفه أنصاره ومؤيدوه بأنها قضايا الحكم الرئيسية التي تعصف بالأوضاع السياسية في البلاد، مثل الإرهاب، والأوضاع الأمنية الداخلية المتفقدة للاستقرار، والمشاكل الاقتصادية المتفاقمة.
ومن جانبها، ترى الصحافية لاكشمي سوبرامانيوم أنه كان «يلعب على أوتار المخاوف التي تؤرق الناس في أعقاب الهجمات الإرهابية المريعة إبان عيد الفصح السابق في أجزاء من العاصمة كولومبو وفي شرق سريلانكا كذلك. ويومذاك قال إن حكومته ستتعامل مع تلك القضايا الأمنية بكل حزم وقوة. وحقاً لقد أطلق عليه أفراد من عائلته وكوادر حزب جبهة الشعب السري لانكية لقب (المدمّر) إثر بدء سريان الحملة الأمنية العدائية. وكانت الحملة تركز بالأساس على الملفات الأمنية، بعدما قامت إحدى الجماعات الإرهابية المدعومة من تنظيم (داعش) الإرهابي بتنفيذ الهجمات الدموية يوم عيد الفصح خلال العام الحالي في سريلانكا».
وتابعت: «لقد يسرت كل هذه الظروف الأوضاع في سريلانكا لإحياء المشاعر السنهالية القومية البوذية القديمة التي طالما لعبت دور الملاذ الآمن الأخير بالنسبة للسواد الأعظم من الطائفة السنهالية في الدولة - الجزيرة على مدار تاريخها، إثر الاستفادة القصوى والذكية من الفشل الاستخباري الذي أسفر عن وقوع هجمات أحد الفصح في البلاد».
أما الصحافي بونسارا أماراسينغي، فرأى في فوز راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية مثيلاً عرقياً دينياً شعبوياً لفوز رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي حقق زعامته السياسية بفضل تصويت الغالبية الهندوسية له. وأردف: «جاءت فترة الولاية الثانية لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في وقت سابق من العام الحالي نتيجة مباشرة لارتفاع النزعة القومية الهندوسية في أفضل أحوالها. وأسفر التصاعد الأخير للنزعات القومية في جميع أنحاء العالم في الآونة الأخيرة عن إثارة المخاوف الحقيقية مجددا بشأن إعادة الفكرة القديمة بالحكومات السيادية المرتكزة على المشاعر القومية الراسخة».

مزيد من الشعبوية السنهالية

ويساور الكثيرون حالياً القلق من أن راجاباكسا والقوميين السنهاليين، سيعملون من دون كلل أو ملل على تنشيط الحملات الداخلية المعادية للأقلية المسلمة مع زيادة عزلة أقليات التاميل في البلاد. فما الذي يعنيه عودة عائلة راجاباكسا للسلطة في البلاد من زاوية التوترات العرقية المحتدمة والطويلة الأمد في سريلانكا؟
تشير الشخصية القومية السنهالية القوية في حملة غوتابايا راجاباكسا الانتخابية، فضلا عن اعتماده الكامل في الفوز على أصوات الطائفة السنهالية تقريباً دون غيرها، مع سياسات شقيقه الأكبر والرئيس الأسبق في إدارة البلاد إبان السنوات العشر التي أمضاها على رأس السلطة بين عامي 2005 و2015، إلى أن التوترات العرقية والدينية المتفاقمة - والتي تزايدت حدتها كثيرا في أعقاب تفجيرات أحد الفصح الدامية - ستستمر وتتصاعد بصورة خطيرة في ظل حكم الرئيس الجديد.
ويخشى كثيرون أن يجلب المشهد السياسي الجديد في سريلانكا طاقات متجددة للحملة طويلة الأمد المتمثلة في تعزيز خطاب الكراهية المناهض للمسلمين في البلاد، وتصاعد أعمال العنف، والمقاطعات الاقتصادية التي تشرف عليها الميليشيات المسلحة التي تزعم الدفاع عن وحماية الديانة البوذية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تلك الميليشيات ازدهرت وترعرعت أول الأمر بين عامي 2013 و2014 إبان فترة ماهيندا راجاباكسا، عندما تلقت الدعم الكامل من الشرطة المحلية والمخابرات العسكرية. ثم مرة أخرى حين تولى غوتابايا راجاباكسا حقيبة وزارة الدفاع. وكانت أعمال العنف الدموية الأخيرة، مع شهود العيان ومقاطع الفيديو الوثائقية التي تشير بوضوح إلى ضلوع أفراد من الحزب الحاكم في الهجوم على المساجد والمنازل والمتاجر والشركات الإسلامية في أعقاب تفجيرات عيد الفصح في مايو (أيار) من عام 2019 الحالي. ومع أن الرئيس المنتخب نفى مراراً وتكراراً توفير أي دعم حكومي أو رسمي للميليشيات البوذية المتطرفة، فإنه صرح قائلاً إن المسلمين يناصبونهم العداء على نطاق واسع ويعتبرونهم خطراً داهماً على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.

الهند والصين وسريلانكا

على صعيد آخر، أدى فوز غوتابايا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية وعودة شقيقه الأكبر الرئيس الأسبق ماهيندا إلى الحلبة ليشغل منصب رئيس الحكومة، إلى دق نواقيس الخطر لدى جانب كبير من محللي السياسات الخارجية في الهند بشأن التداعيات السلبية المحتملة لذلك على العلاقات الثنائية بين الهند وسري لانكا.
إذ تساور كل من الهند واليابان والحكومات الغربية المحتملة المخاوف بشأن احتمالات تعزيز أسرة راجاباكسا الحاكمة علاقاتها الثنائية مع الصين، التي أوضحت خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة تفضيلها للرئيس المنتخب ولحزبه. ولقد تطورت العلاقات الاقتصادية والسياسية ما بين كولومبو وبكين خلال فترة رئاسة شقيقه ماهيندا السابقة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك بناء ثم تأجير الصين الميناء الجديد في مدينة هامبانتوتا السري لانكي.
أيضاً، يشعر منافسو الصين بالقلق بشأن إمكانية استغلال الصين للميناء الجديد في خدمة الأغراض العسكرية الصينية في خاتمة المطاف. وحول هذا الأمر يقول جابين جاكوب، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة شيف نادار الهندية: «ستتمحور الجولة القادمة حول انخفاض وتيرة اللعب السياسي من جانب الصين، مع استمرار اللعب على كل الأحوال. وأتوقع أن يقوم الرئيس السري لانكي الجديد بزيارة الهند عقب زيارته المرتقبة إلى الصين خلال المائة يوم الأولى من ولايته الجديدة. ولكن من المرجح أن الصين، وليست الهند، هي التي ستنال القدر الأكبر من اهتمام الرئيس السري لانكي الجديد». وأردف البروفسور جاكوب: «ربما تعلمت أسرة راجاباكسا الدرس، وأدركت أن هناك عواقب وتداعيات لازمة لرفع البطاقة الصينية في وجه الهند؛ ولذا ليس من المرجح أن يقوم الرئيس السري لانكي الجديد بتغييرات جذرية عاجلة في السياسات الخارجية في الوقت الذي يسعى فيه لاستئناف العلاقات الودية مع الصين».
وفي ظل هذه الخلفية، كان التساؤل المتشكّك الذي يطرح نفسه هو هل ستتخذ سريلانكا المسار الصيني مرة أخرى، وهل ستفعل ذلك على حساب الهند؟
المحلل الأمني آشوك ميثا الذي قال «بدأت مديونية أسرة راجاباكسا لبكين إبان الحرب الماضية عندما رفضت نيودلهي الموافقة على الطلبات المتكرّرة من حكومة كولومبو بالحصول على المعدات العسكرية لمحاربة جبهة نمور التاميل الانفصالية، وكانت الصين وباكستان قد تدخلتا لإنقاذ الموقف لدى حكومة سريلانكا، ويومذاك تهكمت الحكومة الهندية من تقارب سريلانكا مع الصين وباكستان، بينما كانت نيودلهي على استعداد لتوفير الأسلحة غير الفتاكة لحكومة كولومبو من واقع احترامها للدوافع السياسية لدى قيادة ولاية تاميل نادو الهندية ذات الغالبية التاميلية. وكانت التداعيات الاستراتيجية على التحفظ الحكومي الهندي لا تزال قائمة رغم تلاشي تلك القيود. بيد أن القرار الهندي وقتها لم يرق كثيرا لماهيندا راجاباكسا إبان رئاسته، فاتخذ منه ذريعة سياسية لتحويل دفة السياسات الاقتصادية والأمنية في بلاده صوب بكين، متجاهلا عن عمد الحساسيات الهندية المتنامية. وبالفعل، منحت سلطات كولومبو حينذاك العديد من تعاقدات تطوير البنية التحتية إلى الصين، من شاكلة ميناء هامبانتوتا وميناء مدينة كولومبو، ما شكل تحديات جديدة أمام نيودلهي من زاوية تصاعد الشواغل الأمنية في المحيط الهندي».

سياسة نيو دلهي إزاء كولومبو

أخيراً، على مدار العامين الماضيين، واصلت الهند في هدوء مطبق بناء الجسور مع مختلف مكونات موجة الطائفة الشعبية السنهالية في سريلانكا. وتؤكد الاجتماعات المتعددة التي جمعت بين الزعيمين ناريندرا مودي وماهيندا راجاباكسا، وكان آخرها في يونيو (حزيران) من العام الحالي، على عدم اضطرار الهند إلى البدء من المربع الأول. وهنا يقول الدبلوماسي الأسبق آتشال مالهوترا «لا بد أن نأخذ في الاعتبار أيضا التصريحات العلنية التي صرح بها غوتابايا راجاباكسا (الرئيس المنتخب) في أعقاب فوزه بالانتخابات حين أوحى بانطباع مفاده أن سريلانكا ستواصل التزام الخط المحايد في صراع القوى الإقليمية وتحافظ على مسافة واحدة بين الهند والصين. وبعبارة أخرى، إن سريلانكا سوف تتعامل وتتفاعل مع كل من نيو دلهي وبكين. إن الأزمان دائمة التغير، ومن شأن المصالح البراغماتية أن تحدد أنه رغم العلاقات التكافلية، فلا يمكن للهند انتظار أن الجارة الصغيرة تظل تشكل مجالا حصريا لنفوذها في المحيط الهندي. وما ينسحب على سريلانكا ينسحب أيضا على نيبال وعلى جزر المالديف وغيرها من البلدان. ويبقى أن ننتظر لنرى كيف ستتصرف سريلانكا خلال السنوات المقبلة. مع ذلك، يبدو أن هناك فصلا جديدا في العلاقات بين الهند وسري لانكا قد نشأ على خلفية جيدة، والزيارة المرتقبة للرئيس السري لانكي إلى الهند نأمل بأن تعتبر فرصة للتفهم الواضح أن سريلانكا ستواصل احترامها للحساسيات الهندية أثناء تعاملها مع بلدان أخرى في المنطقة».
أخيراً، علق كونستانتينو خافيير، الزميل البارز في «معهد بروكينغز - إنديا» - ومقره في نيودلهي – قائلا: «على الهند تعميق التعاون الأمني مع سريلانكا من دون المزيد من التنافس الجيو استراتيجي في المحيط الهندي. ورغم القدرات العسكرية المستمرة، في جزيرة دييغو غارسيا على سبيل المثال، لا تزال الولايات المتحدة تعتبر قوة كبيرة خارج المنطقة الإقليمية، الأمر الذي ربما يفسر مخاوف نيودلهي من الاتفاق الدفاعي الذي أبرم مؤخراً بين واشنطن وكولومبو.
لكن الفوز بسري لانكا يستلزم من الهند الاستثمار في التعاون الدفاعي والأمني بصورة أكبر مع دول المحيط الهندي والهادي المماثلة، بما في ذلك اليابان وأستراليا وفرنسا والاتحاد الأوروبي. وفي الأثناء ذاتها، يجب على الهند فتح قنوات الاتصال مع الصين للتخفيف من مغريات سريلانكا للتلاعب من وراء الهند ووضع بكين ونيودلهي على مسار التصادم في مواجهة بعضهما».


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.