سلبيات وإيجابيات في تاريخ الدولة العثمانيةhttps://aawsat.com/home/article/1913306/%D8%B3%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A5%D9%8A%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9
النقاش حول تاريخ الدولة العثمانية، التي برزت منذ العام 1300م، وانتهت مع نهاية الحرب العالمية الأولى 1918، هو نقاش مستمر ومفتوح. لقد كانت هذه الدولة إمبراطورية عالمية، خلّفت شعوباً أصبحت تتوزع على 30 دولة، كانت جميعها تخضع للحكم العثماني. وكان هناك تباين بين المؤرخين حول تقييم تجربة هذه الإمبراطورية. فهناك من يعتبر المؤسسات والقوانين والإطارات السياسية والإدارية والعسكرية السائدة فيها، سبباً في صون اللغات المحلية والديانات. وبالتالي لم تحصل عثمنة أو أسلمة قسريتان، والدليل على ذلك استمرار اللغات اليونانية والبلغارية والعربية والأرمنية والعربية وغيرها، وكذلك استمرار الديانتين المسيحية واليهودية. ولكن هناك من يركز في التاريخ العثماني على أعمال قهر للسكان وأعمال عنف بحق مسلمين غير سنة في هذه الدولة، وكذلك بحق مسيحيين من طوائف مختلفة (أرمن، سريان، مجاعة الموارنة في جبل لبنان)، كما أن الصرب عندما هُزموا أمام الفتح العثماني بيع عدد كبير منهم عبيداً.
على صعيد آخر، يركز باحثون آخرون أن حماية «أهل الذمة»، من غير المسلمين، كانت القاعدة في الدولة العثمانية، مع الملاحظة أن هؤلاء الرعايا كانوا يعتبرون ذوي مكانة أقل شأناً من مكانة الرعايا المسلمين، والاضطلاع بمسؤوليات معينة كانت محظورة عليهم.
إن تقييم الدولة العثمانية من الخارج لا يكفي، بل يجب العمل على تقييمها من الداخل، انطلاقاً من الأرشيف الضخم الذي تركته هذه الإمبراطورية. ويعتبر المؤرخ الكبير فرنان بروديل أن الاطلاع على الأرشيف العثماني يغير شيئاً فشيئاً النظرة التقليدية والقديمة لهذه الدولة.
وعلى إثر الرسالة التي وجّهها الرئيس اللبناني العماد ميشال عون بمناسبة بدء الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان «دولة لبنان الكبير» في ظل الانتداب الفرنسي (في أول أيلول 1920)، وأشار فيها «إلى إرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون على اللبنانيين خصوصاً خلال الحرب العالمية الأولى...». تتالت الردود، وبخاصة من مفتي الجمهورية اللبنانية السابق د. محمد رشيد قباني الذي قال: «اعلم يا فخامة الرئيس أن النيل من دولة الخلافة العثمانية التي كانت تمثل الإسلام والمسلمين في العالم في أيامها... هو بالمقارنة كالنيل من دولة الكنيسة في روما...». واعتبر أستاذ جامعي (الدكتور حسان حلاق) أن الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها... وأنه من الظلم أن نحكم على الدولة العثمانية من خلال آخر 4 سنوات لها، أي 1914 – 1918 لأن حكام هذه الفترة هم من القوى العلمانية والماسونية والدونمة واليهود، وغالبية قوى «الاتحاد والترقي» ليسوا من أصل إسلامي ولا عثماني ولا تركي.
إن البحث الموضوعي في تاريخ هذه الدولة يؤدي إلى ملاحظة كثير من السلبيات، وكثير من الإيجابيات. ولا يمكن في مقال سريع اختزال هذه الأمور. ولكن بالنسبة إلى الذاكرة التاريخية عند أغلب الطوائف اللبنانية فثمة محطات راسخة في «لا وعي» جماعات هذه الطوائف...
1 - بالنسبة لطائفة الموحدين الدروز، فقد تعرضت على امتداد القرن السادس عشر النواحي ذات الأكثرية الدرزية لحملات تأديبية قاسية من قبل السلطة المركزية. ودفاتر المهمة العثمانية فيها كثير من التقارير عن قتال السلطة المركزية مع الدروز على امتداد القرن الـ16. فالحكم السلطاني أصدر أمراً في 21 جمادى الآخرة 976 ه - (11 ديسمبر - كانون الأول 1568) بجمع قادة الدروز في مكان واحد وإلقاء القبض عليهم وتأديبهم. ولقد أبرزت هذه الأوامر أن هناك ما يشبه حرب استنزاف بين النواحي الدرزية والسلطة العثمانية. وأن هناك رفضاً من قبل هذه النواحي لدفع الضرائب العادية المفروضة كما أن هناك عصياناً على أوامر الاستنفار العسكري.
2 - بالنسبة للطائفة الشيعية، ثمة مصادر كثيرة أوردت الخسائر البشرية التي أصابت هذه الطائفة مع مطلع الفتح العثماني سنة 1516.
ويورد محمد جابر آل صفا أنه في عام 1780 «اكتسحت جنود الجزار البلاد وأحرقت القرى ودمرت المنازل. وشحن ما في مكاتب جبل عامل من التآليف والمخطوطات النادرة حيث أحرقت في عكا... وأسرف رجاله في ذلك الشعب قتلاً وذبحاً وقبض على فريق من الوجهاء. فأماتهم خنقاً في سجون عكا وشرد من بقي إلى البلاد المجاورة».
وفي حدود العام 1694 حصل عصيان وتمرد شيعي في بعض المناطق اللبنانية. فما كان من القوات العثمانية إلا أن تدخل إلى القرى الشيعية الخالية عادة من سكانها الفارين، ولا تتركها إلا رماداً، بعد نهب ما تصل يدها إليه تنفيذاً للأوامر السلطانية.
3 - أما بشأن المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، فصحيح أن الدولة العثمانية احترمت تقاليد الحكومات الإسلامية السابقة مع غير المسلمين لجهة اعتبارهم من «أهل الذمة». وفي كثير من المؤلفات وصف لما كان يقوم به كثير من ولاة الدولة بهدف إذلال فئة من الرعية. فتارة يتم فرض الضرائب الفاحشة، وتارة يضطهدونهم ويعذبونهم. وكم من مرة طاردت السلطة العثمانية رجال الدين المسيحيين، فأرغمتهم على الاختفاء في المغاور أو السفر إلى أوروبا أو الهجرة إلى قبرص ولبنان.
إن أخطر ما حصل مع سكان متصرفية جبل لبنان القرار المركزي من قيادة الاتحاد والترقي بفرض المجاعة على جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى خوفاً من التنسيق مع قوات الحلفاء، وهذا ما ذكره المتصرف أوهانس قيومجيان في مذكراته التي نشرت مؤخراً في باريس. وأغلب الدراسات ترجح وفاة ثلث الشعب اللبناني بسبب تلك المجاعة.
4 - مع تصاعد حركة التتريك، بدل العثمنة، تصاعدت الانتماءات القومية في الدولة العثمانية. وكانت مشانق جمال باشا للنخب المسيحية والمسلمة على السواء، هي المؤشر للانفصال والبحث عن المواطنة في إطار العروبة أو اللبنانية.
على صعيد آخر، يجدر بنا أن نلاحظ، انطلاقاً من دراستنا للإحصاءات العثمانية، أن الوجود الديمغرافي المسيحي عام 1516 كان يتوقف عند خط بكفيا – بيت شباب في جبل لبنان، وعند الفرزل في البقاع. ولكن خلال قرنين تمدد هذا الوجود المسيحي ووصل إلى رميش وعين إبل والقليعة جنوباً، ووصل إلى راشيا وحاصبيا جنوب البقاع.
من جهة أخرى، وفّرت الإدارة العثمانية للبنانيين حرية إنشاء المدارس والمطابع وحرية الصحافة نسبياً، حتى إن أحمد فارس الشدياق كان – من خلال صحيفته «الجوائب» – الناطق باسم السلطنة في إسطنبول.
كما أن مشاركة المثقف الماروني خليل غانم في وضع دستور الدولة العثمانية عام 1876 لها دلالاتها لجهة احترام تنوع الملل في السلطنة. وكذلك الأمر بالنسبة لتسلم سليمان البستاني مسؤولية الوزارة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقد استقال بسبب معارضته لها. وله كتاب مهم حول إصلاح الدولة «عِبرة وذكرى».
صحيح أن الدين الإسلامي كان العقيدة الرسمية في النظام السياسي والاجتماعي وكانت الشريعة هي الموجه للقوانين المدنية والجزائية والدستورية. وكان السلطان يجسد السيادة العليا للشريعة. ولكن في القرن التاسع عشر حاولت الدولة العثمانية أن تدخل إصلاحات سميت «بالتنظيمات».
ومع ثورة كمال أتاتورك تم فصل الإسلام عن الدولة. وأصبحت تركيا دولة علمانية قانوناً ودستوراً. وقد أدان مصطفى كمال أتاتورك المجازر التي قام بها النظام العثماني بحق الأرمن وغيرهم. وهكذا فإن الإدانة والاتهام يجب ألا تشمل الشعب التركي، في كل الحقب. بقدر ما يجب التركيز على الإدانة في أحداث معينة وفترات معينة وأشخاص معنيين.
وانطلاقاً من كل ذلك ندعو الجميع أن يستعينوا، في صياغة مواقفهم، بمستشارين أكفاء، كما ندعو المشيدين بفضائل الدولة العثمانية أن يحترموا الحقائق والوقائع التاريخية ويتذكروا أن الشعب التركي تخلى وأدان أخطاء الدولة العثمانية.
- أستاذ تاريخ الدولة العثمانية سابقاً في الجامعة اللبنانية
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».
كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.
صبغة شامية
خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».
محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».
بين «العشق» و«القلق»
رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.
حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.
ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.
تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.
جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».
ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.
لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.
دعوات مقاطعة
تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».
حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.
وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.
وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».
في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».
عزيزي المواطن المصري الطيب الساذج البرئ .. تذكر دائماً ان كل مطعم سوري تتعامل معه وتدفع له فلوسك كان في يوم ما مطعم مصري .. السوريين ماجابوش المطاعم بتاعتهم معاهم من سوريا .. هذه المطاعم كان أصحابها مصريين وكان العاملين بها مصريين .. مئات الآلاف من العائلات المصرية كانت تعتمد...
الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».
ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».
كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».
ترحيب مشروط
كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».
ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.
أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».
وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.
على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».
استثمارات متنوعة
يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».
ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».
ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.
وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».
وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.
و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».
«حملات موجهة»
انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».
رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».
وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».
وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».
ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».
لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».
«استثمارات متنامية»
ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».
وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.
ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.
لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».
حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».
فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».
بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».
وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.