«المقابر الجماعية» في الرقة تكشف صعوبة التعافي بعد الحرب

«الشرق الأوسط» ترصد انتشال 4450 جثة داخل العاصمة السابقة لـ«داعش» المهزوم

حفارون من فريق {الاستجابة الأولية} ينبشون قبراً جماعياً في مقبرة البانورما غرب الرقة (الشرق الأوسط)
حفارون من فريق {الاستجابة الأولية} ينبشون قبراً جماعياً في مقبرة البانورما غرب الرقة (الشرق الأوسط)
TT

«المقابر الجماعية» في الرقة تكشف صعوبة التعافي بعد الحرب

حفارون من فريق {الاستجابة الأولية} ينبشون قبراً جماعياً في مقبرة البانورما غرب الرقة (الشرق الأوسط)
حفارون من فريق {الاستجابة الأولية} ينبشون قبراً جماعياً في مقبرة البانورما غرب الرقة (الشرق الأوسط)

في أرض زراعية محاطة بأشجار الصنوبر على مشارف مدينة الرقة؛ عثر فريق «الاستجابة الأولية» التابع لـ«مجلس الرقة المدني»، على مقبرة جماعية جديدة في قرية «الفخيخة» تضم رفات ما يصل إلى 3500 جثة، يعتقد أن تكون مجهولة الهوية وتعد الأكبر والأقدم، والتي بقيت شاهدة على تركة تنظيم «داعش» الإرهابي بعد حكم المنطقة قرابة ثلاث سنوات ونصف السنة متتالية بين يناير (كانون الثاني) 2014 وأكتوبر (تشرين الأول) 2017.
في موقع المقبرة غطى أعضاء الفريق - وهم حفارون - أنوفهم وأفواههم بقطعة قماش طبية واقية، بسبب الروائح الكريهة والحشرات المنتشرة في المكان، يلبسون خوذاً برتقالية اللون ولباساً موحداً لونه أزرق داكن، ووسط أشواك جافة عالية وسنابل قمح ذهبية يقوم عمال الفريق بنبش قبر فردي غطي بكتلة إسمنت، وعلى عمق قدمين انتشلوا جثة متحللة لم يتبق منها سوى هيكل عظمي ملفوفة بقطعة قماش رمادية رطبة، قبل وضعها في أكياس بيضاء وزرقاء مخصصة للجثث.

كتب عامل على أحد الأكياس: «أشلاء رجل مجهول» – الفخيخة – 10 - 06 – 2019، وعثر الفريق على بطاقة كانت معلقة بالجثة، كتب في أعلاها لقب المقاتل المكنى بـ«أبو لقمان الماليزي» في إشارة إلى إن المقاتل يتحدر من دولة ماليزيا، دون الكشف عن اسمه الحقيقي، وذُكرت اسم الكتيبة التي كان ملتحقاً بها والكود الشخصي، وهو عبارة عن مجموعة أرقام تجاوزت 11 رقماً. تحتها مباشرة، كتب الرمز المالي وكان مؤلفاً من أرقام وفواصل، كما تم تحديد مكان العمل على شكل أرقام أيضاً، وفي أسفل البطاقة كتبت عبارة: «صالحة لمدة ثلاثة أشهر»، مرقمة بالتاريخ الهجري ويبدو أن المقاتل لم يكمل ثلاثة أشهر في صفوف التنظيم وقتل.
ورغم مرور عام وعشرة أشهر على هزيمة تنظيم «داعش» في الرقة، لا يزال إحصاء الجثث وإخراجها مستمراً مع انتشالها من «مقابر جماعية» أو من تحت الأنقاض والكتل الإسمنتية جراء المعارك العنيفة التي دارت داخل المدينة، التي كانت المعقل الرئيسي للتنظيم المتشدّد في سوريا قبل طردهم في أكتوبر 2017.

3560 مجهول الهوية

في موقع المقبرة انتشرت مئات السواتر الترابية على جانبي قطعة الأرض والتي تقدر مساحتها بنحو 10 هكتارات، تدل على قبور جماعية لأكثر من 700 جثة تم نبشها، ومن المرجح إنها عائدة لعناصر تنظيم «داعش» نفسه.
ومنذ تحرير مدينة الرقة إثر هجوم بري واسع نفذته «قوات سوريا الديمقراطية» العربية - الكردية، وبدعم من تحالف دولي ضمّ 79 دولة غربية وعربية تقودها الولايات المتحدة الأميركية، كُشف عن تسع مقابر جماعية داخل مدينة الرقة الواقعة شمال سوريا، بما فيها مقبرة «البانورما» التي أخرج منها أكثر من 900 جثة منها، وانتهت الفِرق من العمل منها بداية العام الحالي.
أما مقبرة الفخيخة فبدأ العمل فيها بـ9 يناير الماضي، ولدى حديثه لـ«الشرق الأوسط»، يقول ياسر الخميس، قائد فريق «الاستجابة الأولية» من موقع المقبرة: «فوجئنا بالعدد الكبير للجثث المدفونة بهذه المقبرة، انتشلنا أكثر من 750 جثة بالقسم الأول فقط، وتم التعرف على 51 جثة سُلمت إلى ذويهم أصولاً بعد مطابقة المواصفات والتحاليل الطبية».
ويقع القسم الثاني من المقبرة بضاحية الفخيخة خلف معسكر الطلائع، بدأ الفريق العمل فيها بالعاشر من الشهر الحالي، ويرجح ياسر الخميس أن يصل العدد الكلي للمقبرة إلى أكثر من 3500 جثة، وبحسب شهادات أهالي الضاحية ممن يسكنون بالقرب منها؛ تعود ضحاياه للإعدامات الميدانية الجماعية التي كان يقوم بها عناصر التنظيم، وأضاف الخميس: «أغلب الذين دفنوا في هذه المقبرة جثث لعناصر التنظيم نفسه، إضافة إلى صحافيين وعمال إغاثة وكل من أعدم في ساحات الرقة».
ومنذ بداية شهر يناير 2018، يقوم الفريق بالعمل والبحث عن المقابر الجماعية في مدينة الرقة وضواحيها، ويتألف الفريق من عمال حفر ومحام وطبيبين شرعيين ومكتب توثيق وإحصاء ومكتب إعلام، ومن بين تسع مقابر جماعية انتشل الفريق 4550 جثة تم التعرف على 900 جثة سُلمت إلى ذويهم أصولاً، وهناك أربع مقابر جماعية ثانية ستعمل عليها الفرق خلال النصف الثاني من العام الحالي، والمقابر المتبقية هي: مقبرة «السحل» و«معيزيله» و«المنصورة» و«الحمرات»، التي تنتظر الكشف عنها ويرجح أن تكون للأشخاص الذين نفذت بحقهم إعدامات ميدانية.
ويسعى الفريق لتحديد هوية كل جثة رغم إمكاناته المتواضعة، ويتابع ياسر الخميس المتحدر من مدينة الرقة ليقول: «لدينا طبيب شرعي يسحب ثلاث عينات من كل جثة، تحفظ في غرفة مخصصة مزودة بسجل يوثق حالة الجثة وطريقة قتله ومكان دفنها»، مشيراً بأن فريق «الاستجابة الأولية» الذي يقوده قام بإنشاء خريطة دقيقة، وهي عبارة عن رسوم هندسية تشير الأسهم والنقاط والتواريخ إلى أماكن الجثث، وقيد كل جثة وعينتها وسجلها، لمساعدة الأهالي للتعرف عليها وإعادة دفنها.
غير أن فاطمة البالغة من العمر (55 سنة) قضت أياماً من الانتظار عند مقبرة الفخيخة الجماعية في مدينة الرقة أملاً بمعرفة مصير زوجها، والذي كان مقاتلاً في صفوف التنظيم فقد أثره بعد انتهاء المعركة هناك، لكنها لم تستسلم للروايات على مقتله؛ إذ حاولت البحث عن طريق أقارب لها، في باقي المناطق التي بقيت خاضعة لسيطرة التنظيم حتى أعلنت قوات التحالف الدولي في نهاية مارس (آذار) الماضي القضاء عسكريا وجغرافيا على خلافته المزعومة.
وبصوت خافت يكاد يفهم وأسئلة كثيرة وعلامات استفهام ارتسمت على وجهها المليء بالتجاعيد، نقلت فاطمة المنحدرة من مدينة حلب إنها وللمرة الثالثة منذ بداية العام الحالي تزور مدينة الرقة للبحث عن زوجها، وقالت: «عندما يعلنون الكشف عن مقبرة جماعية جديدة أتي إلى هنا على أمل وجود جثته أو أي معلومة عن مصيره، منذ سنوات وقلبي مفطور لمعرفة مصيره»، ليتسنى لها دفنه بصورة لائقة ويكون له قبر وشاهد.
وتعد عملية استخراج وتحليل بقايا الهياكل العظمية من المقابر الجماعية عملية معقدة، تتطلب خبرة عالية في جمع المعلومات وقدرة كافية على إجراء الحفريات، ومهارات في التعرف على الجثث وتحديد سبب الوفاة، وهي من بين أبرز التحديات التي تواجه الفرق الميدانية، ووصف ياسر الخميس ملف المقابر الجماعية بـ«المعقد للغاية»، ويزيد: «يومياً يستقبل مكتبنا أهالي الرقة ومن خارج المحافظة يسألون عن مصير أبنائهم»، فمنهم من مات تحت الأنقاض، ومنهم من لقي حتفهم بالألغام أو المفخخات التي زرعها التنظيم: «لكن النسبة الأكبر قتلهم عناصر التنظيم ودفنوا في مقابر جماعية، ونحاول جاهدين الكشف عن مصير كل مفقود»، على حد تعبيره.

جثث الأجانب

تقع مدينة الرقة على الضفة الشمالية لنهر الفرات وتبلغ مساحتها نحو 27 ألف كلم، كان يسكنها قبل اندلاع الحراك المناهض لنظام الحكم ربيع 2011؛ نحو 300 ألف نسمة غالبيتهم من العرب السنة إلى جانب أكراد ومسيحيين وتركمان، فرّ معظمهم بعد سيطرة التنظيم المتطرف على المدينة.
وعمدَ التنظيم إلى احتجاز وقتل آلاف الأشخاص خلال سيطرته على المنطقة، ويتهم سكان الرقة عناصر «داعش» بتنفيذ عمليات الإعدامات ودفنهم في مقابر جماعية؛ إذ تقدر السلطات المحلية مقتل وفقدان آلاف الأشخاص خلال معركة استعادة المدينة تم دفن كثيرين منهم على عجل، ومنهم من بقيت جثثهم تحت الأنقاض.
والمقبرة الجماعية عبارة عن مكان يحتوي على جثث عدة تكون غالباً لأشخاص غير معروفي الهوية، دفن صاحبها في قبر لا يحمل شاهداً أو أي إشارة تدل على اسمه أو هويته الحقيقية، بحسب الدكتور محمود حاج حسن (60 سنة) المتحدر من الرقة، والذي يعمل طبيباً شرعياً لدى فريق «الاستجابة الأولية».
يشرح آلية عمله التي تبدأ مع إخراج الجثة، وتمييزها هل هي أشلاء أم جثة كاملة، متحللة أم مجموعة عظام، يحدد جنسها ذكراً أم أنثى، وهل هي عائدة لطفل أم لبالغ، كما تظهر ما إذا كان لمقاتل أم مدني، ويقول: «كما يتم تحديد جنسيته، فالآسيوي مثلاً أو الأوروبي أتعرف عليهم من خلال ملامح الجثة»، توقف لحظات عن الكلام وهو يشاهد عدداً من الجثث المستخرجة حديثاً ليضيف بحسرة: «لم أكن أتوقع حجم الدمار الهائل لمدينتي، وهذه الأعداد الكبيرة من الجثث والأشلاء معظمها مجهولة الهوية».
وأشار الطبيب محمود بأن أغلب جثث المقبرة مجهولة الهوية عائدة لمقاتلي التنظيم يتحدرون من جنسيات غربية وأوروبية، وقال: «أشاهد معها جعبة أو حزاماً ناسفاً وحذاءً عسكرياً، ويكون لباسه ميدانياً تدل على أنها كانت لمقاتل».
وتعتبر حالة التأكد من هوية الجثة وصاحبها عملية في غاية الصعوبة نظراً لغياب وجود تقنيات حديثة، وكثرة العدد حيث تجاوزت أعداد الجثث أكثر من 4500 جثة، ويقوم الأهالي بتسلم رفاة الجثث التي يتعرفون عليها سواء من ملابسهم أو علامات فارقة على أجسادهم، كحال السيدة عاكفة البالغة من العمر (40 سنة) والتي قطعت مسافة 385 كيلومتراً إلى مدية الرقة شمالاً قادمة من العاصمة السورية دمشق، للتأكد من جثث زوجها وابنها وزوجته والذين فضلوا البقاء بالرقة للعيش في كنف الخلافة المزعومة التي أعلن عنها تنظيم «داعش» المتطرف بداية 2014، كما نقلت المرأة المتحدرة من منطقة الحجر الأسود جنوب دمشق.
عاكفة هربت من الرقة بداية معركة الرقة صيف 2017، بعد إصرار زوجها وابنه وقرارهما القتال حتى النهاية، وأجبرا زوجة ابنه على البقاء معهما في المنزل، والسيدة التي كانت تلبس عباءة سوداء اللون غطت شعرها بوشاح أبيض بدت عليها علامات التقدم في السن على الرغم أنها ببداية عقدها الرابع، تأكدت من وجود جثث ذويها في مقبرة الفخيخة وقالت: «لقد تعرفت عليهم من خلال الملابس وعلامات في جسد زوجي وابني، أما زوجة ابني فقتلت بالمنزل الذي كانت تقيم فيه بعد تأكيد فرق الانتشال إخراج جثتها من تحت الأنقاض»، وقررت دفنهم في مقبرة الفخيخة، وأضافت بحسرة: «لا أملك المال الكافي لنقلهم إلى دمشق وشراء مقابر هناك وإعادة دفنهم، دفنتهم هنا وأشعر براحة لأنني تأكدت من موتهم».
ويرافق المجموعات الميدانية محامي تكون مهمته في غاية الدقة، يقوم بتسجيل التفاصيل الأساسية حول الجثث التي يتم العثور عليها وذكر أسباب الوفاة المحتملة، والإصابات والجنس ولون الشعر والطول واللباس والعمر التقريبي، حيث كان بالإمكان تحديدها بناءً على تقييم بصري للرفات التي يتم استخراجها دون استخدام أجهزة حديثة ومتطورة.
يتولى المهمة المحامي محمد (45 سنة) المتحدر من مدينة الرقة والذي فقد الكثر من أقربائه خلال المعارك الدائرة في مسقط رأسه، حيث قتل بعضهم بطلقات قناص عناصر التنظيم عندما حاولوا الهرب بعد احتدام المعارك منتصف 2017.
محمد كان يمتلك مكتب محاماة وعمل بشكل تطوعي للدفاع عن المتظاهرين السلميين أمام المحاكم، أما اليوم يعمل مستشاراً قانونياً في فريق الاستجابة ولا يخفي صعوبة مهمته، ليقول: «أتابع ميدانياً إخراج الجثث وتوثيقها وإرسال المعلومات إلى مكتب التوثيق والإحصاء، ثم تكفين الجثة ودفنها في مقبرة قريبة من الموقع على الطريقة الإسلامية».
أثناء وجوده في المقبرة كتب على استمارة خاصة رقم الجثة وتاريخ استخراجها وكل ما هو موجود معها، وأثناء الحديث معه في الموقع الميداني بمقبرة الفخيخة، أخرج الفريق جثة ملفوفة ببطانية رمادية اللون كانت رطبة كونها مدفونة تحت الأرض، ولفت قائلاً: «أسجل بشكل دقيق كل ما يقوله الطبيب الشرعي وكل ما هو موجود مع الجثة».

100 جثة محترقة

يروي عمر (52 سنة) والد الطفلة ملك التي قتلت بشظايا صاروخ أثناء قصف طيران التحالف الدولي على مسقط رأسها بيونيو (حزيران) 2017، كيف بقيت جثتها تحت ركام بيت العائلة الكائن في شارع هشام عبد الملك وسط الرقة، وكان عمرها آنذاك ثمانية أعوام، ولا يزال المنزل منهاراً بعد مرور أكثر من عام ونصف العام على استعادة المنطقة، لكنهم انتشلوا جثتها ودفنها من جديد.
تسكن العائلة في البيت المواجه لكوم الركام، وعندما يقفون في الشرفة يريان المبنى المنهار الذي أصبح قبراً لها، وكلما ينطق باسمها تملأ الدموع عينيه دون أن يتمالك نفسه ويسود الصمت على المكان، وبكلمات مبعثرة ووجه حزين وعينين اغرورقتا بالدموع، قال عمر: «سيرة ملك تذكرنا بنيران الحرب التي لم تنتهِ بعد، فقدنا قطعة من الروح فكيف ننسى؟!، الله يصبرنا على مصابنا». ومنذ تأسيس فريق «الاستجابة الأولية» بداية 2018 انتشلوا أكثر من 1500 جثة من تحت الأنقاض والركام، وكشفوا مقابر جماعية عدة داخل مدينة الرقة وفي ضواحيها، منها مقبرة ملعب الرشيد وانتشلوا أكثر من 500 جثة، أما في محيط الجامع القديم كان مدفون نحو 80 جثة، وفي مقبرة التاج الواقعة بالقرب من حديقة الحيوانات جنوبي الرقة انتشلت رفات 380 جثة، أما حدائق الرقة فضمت ما يقارب 100 جثة، والرقم نفسه انتشل من منازل عربية، ومن مقبرة البانورما انتشلت أكثر من 900 جثة، والقسم الأول من مقبرة الفخيخة أخرجوا 750 رفات معظمها مجهولة الهوية.
لؤي المتحدر من مدينة الرقة شاب ثلاثيني أنهى دراسة الهندسة المدنية أواخر 2010، وعوضاً من العمل بمجال تخصصه في مجال تخطيط البناء ورسم وتصميم المنازل السكنية، قرر العمل مع فريق «الاستجابة الأولية» وباتت لديه خبرة كافية في توثيق وإحصاء الجثث وتسجيل البيانات على الحاسوب المركزي للفريق، كما يقوم بإدخال المعلومات المرسلة من الفرق الميدانية من المقبرة لتشكيل أوسع قاعدة بيانات على الإطلاق.
وعن عمله يقول لؤي: «قمنا بتصميم استمارة خاصة لهذا الغرض، تشمل بيانات حالة الجثة وعمرها وتحديد الجنس والملابس التي كان يرتديها، وتحديد حالة الوفاة، وأخيراً بيانات دفن الجثة ومكانها والجهة التي قامت بالدفن»، منوهاً بأن معظم الجثث مجهولة الهوية «هي لمقاتلي (داعش) أنفسهم أعدموا رمياً بالرصاص أو قتلوا عمداً، وتم دفنهم دون وجود ذويهم أو أسرهم؛ كونها غير معروفة»، وكشف عن أن الفريق انتشل أكثر من 100 جثة كانت متعفنة أو محترقة ولم يتم التعرف على جنسها أو عمرها.
وأنشأ الفريق مقبرتين لدفن الجثث التي يتم إخراجها من المقابر الجماعية، إحداها مقبرة «تل البيعة» الواقعة شمال شرقي الرقة، التي باتت تعرف باسم مقبرة «تل الشهداء» ودفن فيها معظم الذين انتشلت جثثهم منذ عمل الفريق، أما المقبرة الأخرى، وبعد اكتشاف مقبرة الفخيخة ونظراً لزيادة العدد فقد أنشاها الفريق بالقرب من «تلة الفخيخة».
بعد أن ينتهي الطفل أحمد البالغ من العمر 12 عاماً، صفوفه المدرسية، يتوجّه إلى مقبرة تل البيعة في مدينة الرقة ليبدأ بحفر قبر ورشها بالماء؛ أملاً في أن يحصل من أقرباء الموتى على مقابل مادي يعيل به عائلته. ويبدأ نهار الفتى النحيل باكراً في المدرسة لتقديم الامتحانات ثم يأتي للعمل بالمقبرة ولا ينتهي إلا عند حلول المغرب.
يتجول لساعات حافي القدمين رغم حرارة الطقس بين قبور معظمها من دون شواهد، ويسير فوق الأحجار وقطع الإسمنت وهو يحمل مجرافاً كبيراً ودلواً من الماء، لينظف الأضرحة ويسقي أيضاً العشب والزهور، ويقول: «عندما تأتي عائلة ما لدفن فقيدهم يبحثون عن مكان مناسب لإعادة دفنه، أكون قد حفرت القبر ويدفنونها في مكانها الجديد ويعطونني لقاء ذلك مبلغاً من المال».
أحمد اضطرّ إلى العمل في المقبرة بعدما خسر والده وظيفته ودخله الشهري بسبب الحرب الدائرة في بلده منذ سنوات، في ظل غياب فرص عمل بديلة للحصول على وظيفة مناسبة وغياب مؤسسات الدولة منذ ربيع 2013. وأضاف مبتسماً: «المهم أنني أعمل وأحصل على مال، مستقبلاً سأعمل في مجال آخر غير حفار قبور».

حملة للكشف عن المختطفين

كان تنظيم «داعش» قد أعلن في يناير 2014 السيطرة على مساحات واسعة في سوريا والعراق المجاور عادلت مساحتها بريطانيا في ذروة قوته منتصف 2015، وعمدَ عناصره إلى بثّ الشعور بالرعب من خلال نشر صور وأفلام مروعة لعمليات القتل التي نفذها عناصره، مثل مشاهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً بشهر فبراير (شباط) 2015، وتعليق رؤوس جثث مئات الجنود السوريين - أشباه عراة – في دوار النعيم وسط الرقة والذين أُسِروا في مطار الطبقة العسكري بيوليو (تموز) 2014، إلى جانب تصفية وقتل عشرات المواطنين الأجانب من صحافيين وعاملين في منظمات إغاثة.
وتحت عنوان «اكشفوا مصير ضحايا (داعش) المفقودين»، أطلقت الكثير من الأسر حملة بدعم من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، للكشف عن مصير أبنائهم الذين فُقدوا وكانوا محتجزين لدى تنظيم «داعش» عندما كان يسيطر على أجزاء واسعة من سوريا، وهذه العائلات لا تزال تحاول الاستعلام عن مصير ذويهم.
يدير الحملة الناشط خليل الحاج صالح المتحدر من مدينة الرقة، فقد شقيقه فراس الحاج صالح منذ 6 سنوات، اختطفه عناصر التنظيم ولا يعلمون مصيره حتى تاريخه، وعن آلية الحملة وأهدافها يقول: «آلية العمل تعتمد الضغط على الإعلام والمسار القانوني بمساعدة محامين سوريين وأجانب، إضافة إلى المشورة التي تقدمها منظمات حقوقية دولية للحصول على معلومات من قوات التحالف الدولي للمساعدة بالكشف عن مصير المختطفين».
وأعربت برايانكا موتابارثي، مديرة قسم الطوارئ في منظمة «هيومن رايتس ووتش»، عن آسفها لبقاء العائلات الذين قتلوا أو اختطفوا على يد تنظيم «داعش» دون تحديد مصير أحبائها، وطالبت أن تصل إلى العدالة في تلك الجرائم، منوهة إلى الحفاظ على الأدلة من هذه المقابر الجماعية التي تعتبر جزءاً أساسياً من القضية، وأضافت: «تقوم المجموعات المحلية بكل ما يمكنها فعله، لكنها تحتاج إلى دعم لتنفيذ أعمالها الصعبة والخطرة بطريقة تدعم حق العائلات في الحصول على معلومات دقيقة عن القتلى».
بدوره، يرى المحامي أنور البني، مدير «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية»، أن المقابر الجماعية التي عثر عليها في مدينة الرقة وتضم آلاف الجثث، «يجب على دول التحالف تقديم السبل اللازمة لكشف هويات أصحاب الجثث مثل تزويدهم بالأطباء الشرعيين والخبراء والاختصاصيين في هذا المجال»، وقال: «إن إحصائية المحتجزين لدى التنظيم بلغت 7600، بينهم نحو ألفي شخص موثقين بالاسم».
من ناحيتها، طالبت برايانكا موتابارثي «المنظمات الدولية التي لديها خبرة بالطب الشرعي بتوفير الدعم الفني، وإرسال خبراء لدعم عمليات تحديد الهوية واستخراج الجثث، وينبغي على السلطات المحلية تسهيل العملية قدر الإمكان».
ومُني تنظيم «داعش» بخسائر ميدانية كبرى خلال العامين الأخيرين، على وقع هجمات شنّتها أطراف عدة، أبرزها «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، وتكبد أكبر هزائمه العسكرية صيف عام 2017 عندما فقد السيطرة على مدينة الموصل بالعراق ومدينة الرقة في سوريا، أبرز معاقله سابقاً.
ولم ينتهِ خطر تنظيم «داعش» المتطرف، حيث شنّ اعتداءات عدة في مدينة الرقة بعد طرده منها، وهي التي لا تزال آثار المعارك العنيفة من دمار وفوضى تطغى عليها رغم عودة عشرات آلاف السكان إليها، ولا يعني البتة حسم المعركة في بلدة الباغوز في مارس الماضي انتهاء خطر التنظيم، في ظل قدرته على تحريك خلايا نائمة في المناطق الخارجة عن سيطرته واستمرار وجوده في البادية السورية المترامية الأطراف، فعناصر «داعش» يبسطون السيطرة على جيب صحراوي إلى الغرب من نهر الفرات، تحيط به القوات النظامية الموالية للأسد، وميليشيات إيرانية والحشد الشعبي من الجهة العراقية.



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».