منذ فترة وبيوت أزياء إيطالية كبيرة تعاني من الجمود، إلى حد أن البعض اتهمها بالهرم، بالنظر إلى أن أغلبية أصحاب هذه البيوت تعدوا الستين من العمر بسنوات إن لم نقل بعقود. من جيورجيو أرماني إلى روبرتو كافالي مرورا بفالنتينو غارافاني قبل تقاعده وغيرهم. كان لا بد من دماء جديدة تُنعش هذه البيوت وتضخ فيها بعض الحيوية. وبالفعل لم يُقصر المؤسسون في هذا المجال. فجيورجيو أرماني يرعى عدة برامج تدعم الشباب، بينما سلم آخرون المشعل لجيل جديد من المصممين.
بعضهم ركز على أبناء جلدتهم، مثل داري «فالنتينو» التي أناطت المهمة ببير باولو بيكيولي و«غوتشي» بأليساندرو ميكيلي، وبالفعل لم يخيب أي منهما الآمال، لا من الناحية الفنية أو من الناحية التجارية بالنظر إلى ما يحققانه من نجاحات. بعضهم الآخر أختار أسماء بريطانية شابة لهذه المهمة، مثل «سالفاتوري فيراغامو» التي عينت بول أندرو، و«روبرتو كافالي» التي عينت بول ساريدج، و«بوتيغا فينينتا» دانييل لي، و«ماكس مارا» إيان غيريفنز. وكانت النتيجة خلال أسبوع ميلانو لخريف وشتاء 2019 الذي انتهى مؤخرا، مثيرة بنكهتها البريطانية الخفيفة، التي أكد فيها كل هؤلاء المصممين أنهم لا يعيشون بـ«ثقافة الجزيرة» وبأنهم منفتحون على العالم وقادرون على التأقلم بسهولة.
لا يختلف اثنان أن التحدي أمامهم كان كبيرا. فالإيطاليون معروف عنهم تعصبهم للحرفية وإلى التقاليد القديمة، وهذا يعني أنه كان على كل واحد منهم المحافظة على إرث عريق وفي الوقت ذاته إضافة جرعة شبابية وديناميكية تفرضها متطلبات السوق.
بول أندرو تحديدا كان عليه أن يحمل على أكتافه إرثا تم تجميعه على مدى قرن من الزمن تقريبا في دار «سالفاتوري فيراغامو» التي تأسست في عام 1923، لم يكن هو النجم الوحيد في العرض. فبحكم أن الدار تأسست على تصميم الأحذية، فإن مصممها الخاص بهذا الجانب غيوم مياند كان له دور في هذه العملية الصعبة. انتبه بول أندرو سريعا أن عنصر مهم في مهمته هي أن «يُوحد الرؤية» حسب قوله حتى تكتسب الصورة تسلسلا وسلاسة، وهذا ما كان. قال أيضا إنه استلهم تشكيلته، من حذاء قديم. حذاء صممه المؤسس في عام 1942 وكان بمثابة ثورة في ذلك الزمن حيث استعمل فيه جلد الشامواه وتقنية الباتشوورك وألوان قوس قزح. أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه كان مثيرا وجريئا في ذلك العهد. الأهم من هذا أنه يقول الكثير عن المرأة التي تم تصميمه لها في القرن الماضي. فمن الواضح أنها واثقة لا تخاف الألوان الزاهية بقدر ما ترفض الصورة النمطية وأن تكون عادية. وهذا ما تحديدا ما التقطه المصمم الشاب، وصاغه في أزياء لعبت فيها الجلود دورا مهما إلى جانب الألوان والتقنيات التقليدية والحديثة على حد سواء، فضلا عن نقشات أخذها من الأرشيف وتجلت كرُقع حديثة على الحرير المضلع. استغل إمكانات الدار وما تتوفر عليه من جلود وتقنيات في تطويعها لتكتسب خفة الحرير؛ حيث ظهرت إطلالات كاملة من الجلد الناعم، شملت معاطف بأحزمة وأخرى بقلنسوات تتسم بأسلوب رياضي، إلى جانب استعماله السخي للصوف الياباني والكشمير. لم ينس أن المرأة الناضجة زبونة مهمة ووفية للدار، لكنه لم ينس أيضا أن عليه أن يجذب زبونات شابات، لهذا كانت هناك الكثير من الفساتين المنسدلة والخفيفة إلى جانب التايورات المفصلة، في محاولة ذكية للجمع بين الأجيال، وكذلك الجمع بين القوة والشاعرية. كان للرجل أيضا مجموعة مهمة في هذه التشكيلة، وراعى فيها المصمم هي الأخرى كل الأذواق. ففيها ما يُلبي متطلبات رجل يمضي أوقاته بين أحضان الطبيعة، من خلال السترات والمعاطف المصممة من جلد الأيل والقماش المخملي المضلّع وقماش الجبردين، ومنها ما يلبي حاجة رجل أعمال، من خلال بدلات مفصلة، بعضها بأسلوب رياضي تغلب عليه الأكتاف الناعمة وجيوب عريضة على الصدر، بأقمشة بريطانية وإيطالية تقليدية.
في دار «روبرتو كافالي»، اجتهد المصمم البريطاني بول ساريدج بدوره أن يُلمع ماضيها ويعيده إلى الواجهة بشكل جديد. غاص في الأرشيف وتلاعب ببعض الرموز التقليدية فيما بدأ وكأنه تحية للمؤسس، لكن لحسن الحظ، لم يغرق في الحنين إلى الماضي. لم يغرف من رموزه بنهم، لأنه، وكما قال، كان واعيا أن مهمته هي التذكير بمجد الماضي وليس العودة إليه. من هذا المنظور كانت نقوش النمر والفهد التي اشتهرت بها الدار حاضرة في الأزياء النسائية والرجالية على حد سواء، لكن بألوان مثل الفوشيا والأزرق وما شابههما من ألوان أخرى ونقشات كلها تصرخ بالرفض أن تبقى لصيقة بامرأة أو رجل فاتهما قطار الموضة.
ربما يكون عرض «بوتيغا فينيتا» هو الأكثر إثارة للانتباه خلال أسبوع ميلانو. انتظره عشاق الموضة على أحر من الجمر لعدة أسباب. أولها أن المصمم البريطاني دانيال لي تخرج من معهد «سانترال سانت مارتن» الشهير، وثانيا عمل مع عدة بيوت أزياء عالمية أكد فيها قدراته. ثالثا، وهذا هو الأهم، كان اليد اليمنى لمصممة «سيلين» فيبي فيلو السابقة، وبالتالي كانت شريحة كبير تأمل أن يأتي ما يقدمه نسخة عن أسلوبه في الدار الفرنسية، حتى يأخذهم إلى زمن فيبي فيلو بعد أن ألغى المصمم هادي سليمان الكثير من شخصيتها وبصماتها في عرضه الأخير. أمر أثار حفيظتهم وغضبهم عليه. فبالنسبة لهم لم يكن أسلوبها موضة أو مجرد أزياء بقدر ما كان هوية تعكس شخصيتهن ونضجهن الثقافي والفكري من خلال تصاميم هندسية وألوان تتسم ببرودة أعصاب لا يتقنها سواها. لكن دانييل لي لم يقع في المطب. لم يكن ما قدمه لـ«بوتيغا فينيتا» مطبوعا بأسلوب «سيلين»، على الأقل ليس بشكل واضح، ربما لأنه كان مُدركا لهذه التوقعات وخائفا من المقارنات. في المقابل، تعمد الابتعاد عما كان متوقعا منه وعانق رموز الدار الإيطالية التي التحق بها منذ عام تقريبا. والنتيجة كانت تشكيلة تشعر بأنها إيطالية الأناقة لكن خفيفة الروح فيها جُرأة وبعض الشقاوة البريطانية. كانت هناك الكثير من الإطلالات بياقات مفتوحة قال إنه استلهمها من لوحات تجسد عصر النهضة الإيطالية، لأن هذا الجزء من الجسد «هو الذي لا تشعر المرأة بالحرج عند إبرازه في أي مرحلة من عمرها»، لكن كانت هناك الكثير من الخامات المترفة وخاصة الجلود، بحكم أن الدار، مثل «سالفاتوري فيراغامو»، قامت على الإكسسوارات بداية.
أما في العرض الذي قدمه البريطاني إيان غيرفيثز لدار «ماكس مارا» فكانت الصورة مختلفة. ربما تكون تجارية أكثر لكنها كانت تثير الابتسام والسعادة في النفوس. منبع هذه السعادة أنها ذكرتنا نوعا ما بعروض الراحل جياني فرساتشي في الثمانينات، حين كانت العارضات السوبر يمشين على المنصة ثلاث أو رُباع، بابتسامات واسعة وخطى واثقة ولسان حالهن يقول بأن لا شيء مستحيل في الحياة وأنهن مستعدات لمواجهة كل تحدياتها بالأناقة. كان يؤمن مثل غيره بأن الإبهار فعلا يُحرر المرأة ويمنحها القوة. فيما عدا هذا، كانت الصورة التي التقطها إيان غريفيثز، عصرية بكل عناصرها وتفاصيلها الأخرى. فقد أثبت المصمم منذ انضمامه للدار أنه يعرف من هي زبونتها، وبأي قطعة سيُرضيها، لهذا كان المعطف هو البطل بلا منازع. قد يأخذ أشكالا مختلفة وألوانا متنوعة لكنه يبقى أنيقا ولافتا يُغني المرأة عن أي قطعة أخرى في الموسمين المقبلين. ما زاد من قوة الصورة ودراميتها أنه استعمل لونا واحدا في إطلالة كاملة، قد تشمل بنطلونا أو تنورة مع كنزة وحذاء عالي الرقبة. كان الهدف خلق تأثير درامي بلون واحد وبدرجات متقاربة عوض تكسيرها أو التخفيف منها، لا سيما أنها كما أثبت صورة «تحيي» ولا تميت. ورغم أن اللون البيج الجملي المرتبط بالدار غالبا، إلا أنه أدخل درجات أخرى منه إلى جانب ألوان قوس قزح المتوهجة مثل الأزرق والفوشيا وغيرها، وهو ما شكل مفاجأة في غاية الجمال.
> عرض «فندي»... رسالة حب لكارل لاغرفيلد
> كان متوقعاً وطبيعياً أن يتحول عرض «فندي» إلى احتفال حزين؛ فقد كان آخر تشكيلة أشرف كارل لاغرفيلد على تصميمها قبل رحيله في الأسبوع الماضي. فرغم أن اسم المصمم اشتهر أكثر مع «شانيل»، فإن قصته مع دار «فندي» تعدّ من «أطول قصص الحب»؛ حسب قول سيلفيا فندي. قصة عمرها 54 عاماً، بدأت عندما كان شاباً، ولم تخبُ شعلتها إلا بموته. وأكدت سيلفيا، سليلة العائلة المؤسسة وهي أيضاً صديقته وزميلته في العمل، أنه أشرف على كل تفاصيلها، بدءاً من رسم الاسكيتشات إلى اختيار الخامات والألوان. وأضافت أن آخر ما تتذكره قبل موته بأيام قليلة مكالمتهما معاً التي كان شغله الشاغل فيها أن «تكون التشكيلة غنية وجميلة». لهذا كان العرض لكل من تابعه بمثابة الفصل الأخير من قصة رومانسية. لم يكن مأتماً حزيناً، وبالتالي لم يكن ضرورياً أن يتذكر الضيوف محاسنه أو أن يذكروها، لأنه كان حاضراً معهم طوال الـ15 دقيقة، وهي مدة عرض شاركت فيه مجموعة من عارضاته المفضلات مثل كايا غيربر وجيجي حديد... وغيرهما. بعد نهاية العرض ذكرت سيلفيا فندي أنه كان رسالة حب، مضيفة أن «علاقته مع (فندي) أطول من قصة حب، لأنها ستستمر للأبد».
وكان المصمم قد التحق بالدار الإيطالية في عام 1965، وعمل مع كل أفراد العائلة التي كانت مؤلفة من 5 أخوات، قبل أن تنتقل ملكيتها إلى مجموعة «إل في آم آش». طوال هذا الوقت كانت له بطاقة بيضاء يتصرف بموجبها بحرية وبعقد بلا نهاية، وهو ما يمكن القول إنه فريد من نوعه في عالم الموضة. لهذا فإن فقدانه بالنسبة لسيلفيا التي عملت معه لـ24 عاماً بمثابة فقدان فرد من أفراد العائلة.
من ناحية ما تم عرضه من تصاميم، فإن كل شيء فيها يشير إلى أن المصمم كان يعرف أنها ستكون آخر تشكيلة له، بعد أن اشتد عليه المرض، لهذا صب فيها كل ما يملكه من قوة. أول مجموعة تميزت بياقات مربوطة على العنق، تلتها مجموعة بأكتاف محددة، ثم أخرى مزينة بالفرو عند الحواشي، وطبعاً كان هناك كثير من الجلود المقطعة بالليزر. وطبعاً لم يرد أن يُنهي هذا الفصل من حياته من دون أن يترك أثره مطبوعاً عليها، من خلال لوغو كان قد صممه في عام 1981 ظهر في كثير من الأزرار والنقشات. لكن الموضة لم تكن بحاجة إلى هذا اللوغو لكي تتذكره.
ميلانو ترسم مستقبلها بخطوط من ماضيها
أربعة مصممين بريطانيين يُنعشون بيوتاً عريقة ويضخون فيها دماء شابة
ميلانو ترسم مستقبلها بخطوط من ماضيها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة