الوجود الصيني في أفريقيا يقلق المستعمرين القدامى

وصفوه بنمط الاستعمار الجديد للقارة السمراء

فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو
فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو
TT

الوجود الصيني في أفريقيا يقلق المستعمرين القدامى

فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو
فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو

لا تزال الكعكة الأفريقية تمثل مطمعاً للكثير من الدول العظمى التي استعمر معظمها القارة لعقود كثيرة، ويأخذ هذه المطمع شكل الحرب الخفية المستترة، وبخاصة بعد أن تكالبت على الطاولة السمراء قوى أخرى جديدة.
في إطار هذا التكالب اهتمت دوائر النشر الفرنسية برصد التحرك الدولي صوب القارة الأفريقية، وبخاصة جمهورية الصين الشعبية عبر صفحات كتاب «الصين وأفريقيا... هل يتعلق الأمر بحلم صيني أم كابوس أفريقي؟» للصحافي الفرنسي جوليان ونر، الصادر حديثاً عن دار النشر الفرنسية إيرول، مؤكداً عبر صفحاته البالغة 128 صفحة من القطع المتوسط على مساعي الصين الحثيثة منذ 20 عاماً نحو السيطرة على القارة الأفريقية وغزوها اقتصادياً، تارة باستغلال ما تتمتع به القارة السمراء من موارد طبيعية تفتقر إليها الصين، وتارة أخرى بأن تجعل منها سوقاً رائجة لبيع منتجاتها وبضائعها بثمن بخس، إضافة إلى الإشكالية الكبرى التي تكمن في تطويق القارة الأفريقية بالقروض الصينية الممولة من كبريات الشركات التابعة للدولة الصينية؛ الأمر الذي يقدم لنا نموذجاً استعمارياً في ثوب جديد يبدو أن بكين عازمة على تنفيذه حتى النهاية من خلال محاور كثيرة، منها: السيطرة على الموارد الطبيعية الأفريقية، وإقامة فروع لشركاتها في أفريقيا، والحفاظ على معدلات الفساد في القارة بما يخدم المصالح الصينية، كذلك السيطرة على وسائل الإعلام الأفريقية بما يحافظ من شأنه على الصورة الذهنية الإيجابية للصين في القارة.
يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة، ليس لأن مؤلفة جوليان ونر متخصص في الشأن الصيني ومتعمق في الملف الأفريقي بأدق تفاصيله وله مؤلفات وأبحاث كثيرة في هذا الملف، لكن أيضاً لأنه يكشف لنا النقاب عن الاستراتيجية الصينية وطموحات بكين الجيوسياسية «الحلم الصيني» الذي نادي به جين بينغ، سكرتير عام الحزب الشيوعي عام 2012، قائلاً: «إن طموحنا يكمن في أن نجعل من الصين القوة الأولى عالمياً، وأن أفريقيا هي الوسيلة الأساسية لبلوغ وتحقيق هذا الحلم».
في سياق متصل، يؤكد لنا المؤلف أن كل رئيس للصين يبدأ ولايته باتخاذ شعارات له يعمل على تحقيقها عبر المساندة الشعبية والحزبية، ومن أبرزها دعوتا «الإصلاح والانفتاح» اللتان ميزتا الانتقال نحو الرأسمالية المتوحشة، والتصالح المستحيل مع ورثة الرئيس دينج ماو و«المجتمع المتناسق» وسبل تلبية احتياجات التنمية بالحفاظ على أسس المجتمع الصيني وبخاصة الحزب الشيوعي.
من جانبه، وخلال تنصيبه لمنصب سكرتير عام للحزب الشيوعي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، لم يشذ جين بينغ هو الآخر عن القاعدة المعمول بها بإطلاق ما سماه «الحلم الصيني»، معرّفاً إياه بأنه يعد بمثابة استكمال لرغبة الشعب الصيني في الحياة السعيدة وتحقيق نهضة الصين كأمة عظمى، وهو الشعار الذي تبناه كذلك جميع أعضاء الحزب ووسائل الإعلام الصينية وأيضاً بعض الفنانين، كما أن هذا التوجه لا يتعارض مع آليات اتخاذ القرار في قلب السلطة الصينية، بل على العكس فقد سعت جميع طوائف المجتمع الصيني نحو تحقيق هذا الحلم باعتباره «حلم الصين»، حسب تعبير بعض الخبراء، لبلوغ غايتها لتتبوأ ما تصبو إليه من مكانة كقوة دولية أولى.
يستهل جوليان ونر كتابه هذا بالتأكيد على أن الإشكالية لم تعد تكمن في معرفة ما إذا كانت الصين ستصبح قوة عظمى عالمياً أم لا، لكن تكمن في معرفة متى سيتحقق ذلك. وهنا يرى المؤلف أن جين بينغ، الرئيس الصيني الحالي يرغب في بلوغ هذه المكانة بحلول عام 2022؛ لذلك فقد ركز جهوده على القارة الأفريقية التي لم تعد منذ ذلك الحين قارة مهملة ومهمشة، وبالتالي لم تعد بمنأى عن العولمة، وبخاصة أنها تمثل منذ بداية القرن الحالي نسبة 5 في المائة من معدل النمو الاقتصادي السنوي العالمي، كما يرى بعض الخبراء أنها تمثل مستقبل الاقتصاد العالمي؛ لأنها تجمع جوهر وأساس رهاناته المستقبلية: الرهانات الديموغرافية والاقتصادية والمواد الأولية وحماية البيئة ومكافحة الأوبئة. لذلك؛ نحن بصدد عهد التفاؤل الأفريقي الواعد وليس التشاؤم الأفريقي.

انتهاء عهد التهميش

يؤكد المؤلف أن نهاية التنافس بين الكتلتين الشرقية والغربية قد صاحبه تراجع ملحوظ في قيمة ما تتمتع به القارة الأفريقية من أدوات فاعلة، ففي تسعينات القرن الماضي اختفى الاتحاد السوفياتي واستشعرت الولايات المتحدة الأميركية أنها غير مجبرة على التمسك بالقارة الأفريقية، وبالتالي تخلت عن وجودها في القارة الأفريقية، هذا إلى جانب اتهام الأوروبيين بالتخاذل والبعد عن القارة الأفريقية وإهمالها جراء انشغالهم بأهدافهم الخاصة التي تكمن في توحيد قارتهم العجوز.
ويرى المؤلف أن اليوم قد تبدل الوضع وتغير، فلم تعد أفريقيا هي القارة المهملة والمهمشة، ولكنها بدأت تمثل موضع جذب لجميع القوى الدولية لما لها من مصالح استراتيجية فيها، لكن يأتي النفوذ الكبير والجهد العظيم لصالح الصين التي تعتبر «أن أفريقيا ليست هدفاً في حد ذاتها، لكنها تمثل أداة مهمة وفاعلة في سبيل بلوغ حلمها وقوتها ورخائها».
ويذكر المؤلف أنه على خلفية حالة العجز الذي تعاني منه الصين بشأن تحقيق اكتفائها الذاتي من المواد الأولية، نجدها تسعى نحو تجاوز هذا العجز عن طريق القارة الأفريقية العامرة والزاخرة بالمواد الأولية؛ إذ تؤكد بعض التقديرات على أن «القارة الأفريقية تتمتع وحدها فيما بين ثلث ونصف الاحتياطي العالمي من الموارد الطبيعية»، الأمر الذي دفع الصين نحو الهرولة صوب القارة السمراء، وترتب على هذا التوجه إحداث قفزة كبيرة في التبادلات التجارية بين الصين والدول الأفريقية، من 12 مليار دولار عام 2000 إلى 200 مليار دولار عام 2012، ومن ثم، نجحت الصين في تعزيز سياستها في القارة الأفريقية أكثر من القوى الغربية وإعطاء دروس فيما يسمى بـ«الاستعمار الجديد والتدخل والاندماج». ويلفت المؤلف هنا إلى أن الأفارقة غير محظوظين أو مستهدفين بالانصياع والخضوع دائماً لتبعية الغير، فما لبثوا أن تخلصوا من تبعية الاحتلال الغربي لهم، حتى نجدهم يقعون في شباك وبراثن تبعية الصين التي أضحت تمثل رقماً مهماً في الاقتصاد الأفريقي ينعكس إيجاباً على وضع مفاوضها في مواجهة الجانب الأفريقي. ولعل النموذج الصارخ في هذا الشأن يتجسد في فوز إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو، وهو رقم ضخم للغاية بالنسبة لاقتصاد مدغشقر، يضعنا أمام واقع يعزز من وضع المفاوض الصيني الذي نجح في انتزاع مدة حق الانتفاع إلى 30 عاماً مبادلة لإقامة منطقة صناعية ساحلية ومركز هيدروليكي؛ لأن قيمة العقد تُصيب المفاوض الأفريقي بالدوار، ولا سيما أن صافي الناتج القومي لمدغشقر يقدر بـ10 مليارات يورو، وعلى ذلك فنحن أمام حالة من الهيمنة والسيطرة الصينية للقارة الأفريقية يمكن توصيفها بأنها تمثل «أحد أنماط الاستعمار الجديد للقارة الأفريقية».
يؤكد الكتاب على أن الأخطر من ذلك يكمن في أن الصين لا تحترم البيئة الأفريقية في تعاملها مع موارد القارة الأفريقية ومقدراتها، فشهوة بكين أمام المواد الأولية الأفريقية له تكلفة بيئية ضخمة لا يمكن أن تتحملها القارة الأفريقية على المدى الطويل، وبخاصة أن الصين تسعى في المقام الأول نحو تحقيق مصالحها بغض النظر عن الخطاب الرسمي الذي يتبناه الجانب الأفريقي.
ويخلص المؤلف بأنه على خلفية الفراغ الذي شهدته القارة الأفريقية جراء الإهمال والتجاهل الأميركي لها من جانب، وانشغال الأوروبيين بتقوية وتعزيز وضع قارتهم العجوز من جانب آخر، لم تجد الصين صعوبة في غزو القارة الأفريقية اقتصادياً، ومن ثم سياسياً لأن الأفارقة وجدوا في بكين ضالتهم؛ إذ خصصت الصين مبلغاً كبيراً للاستثمار في ربوع القارة الأفريقية يقدر بـ4000 مليار دولار وهو مبلغ ضخم للغاية وبخاصة لو علمنا أن إجمالي حجم الاحتياطي بالبنوك المركزية في منطقة اليورو يقدر بـ800 مليار دولار، وأن البنك الفيدرالي الأميركي لا يملك سوى 150 مليار دولار فقط، أي أننا أمام قوة اقتصادية صينية عاتية تسعى بجدية نحو تحقيق حلمها لأن تصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، وهو حلم قاب قوسين أو أدنى من الواقع، وأن القارة الأفريقية تمثل «كلمة السر» الحقيقية في سبيل تنفيذ هذا الحلم.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم