الوجود الصيني في أفريقيا يقلق المستعمرين القدامى

وصفوه بنمط الاستعمار الجديد للقارة السمراء

فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو
فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو
TT

الوجود الصيني في أفريقيا يقلق المستعمرين القدامى

فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو
فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو

لا تزال الكعكة الأفريقية تمثل مطمعاً للكثير من الدول العظمى التي استعمر معظمها القارة لعقود كثيرة، ويأخذ هذه المطمع شكل الحرب الخفية المستترة، وبخاصة بعد أن تكالبت على الطاولة السمراء قوى أخرى جديدة.
في إطار هذا التكالب اهتمت دوائر النشر الفرنسية برصد التحرك الدولي صوب القارة الأفريقية، وبخاصة جمهورية الصين الشعبية عبر صفحات كتاب «الصين وأفريقيا... هل يتعلق الأمر بحلم صيني أم كابوس أفريقي؟» للصحافي الفرنسي جوليان ونر، الصادر حديثاً عن دار النشر الفرنسية إيرول، مؤكداً عبر صفحاته البالغة 128 صفحة من القطع المتوسط على مساعي الصين الحثيثة منذ 20 عاماً نحو السيطرة على القارة الأفريقية وغزوها اقتصادياً، تارة باستغلال ما تتمتع به القارة السمراء من موارد طبيعية تفتقر إليها الصين، وتارة أخرى بأن تجعل منها سوقاً رائجة لبيع منتجاتها وبضائعها بثمن بخس، إضافة إلى الإشكالية الكبرى التي تكمن في تطويق القارة الأفريقية بالقروض الصينية الممولة من كبريات الشركات التابعة للدولة الصينية؛ الأمر الذي يقدم لنا نموذجاً استعمارياً في ثوب جديد يبدو أن بكين عازمة على تنفيذه حتى النهاية من خلال محاور كثيرة، منها: السيطرة على الموارد الطبيعية الأفريقية، وإقامة فروع لشركاتها في أفريقيا، والحفاظ على معدلات الفساد في القارة بما يخدم المصالح الصينية، كذلك السيطرة على وسائل الإعلام الأفريقية بما يحافظ من شأنه على الصورة الذهنية الإيجابية للصين في القارة.
يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة، ليس لأن مؤلفة جوليان ونر متخصص في الشأن الصيني ومتعمق في الملف الأفريقي بأدق تفاصيله وله مؤلفات وأبحاث كثيرة في هذا الملف، لكن أيضاً لأنه يكشف لنا النقاب عن الاستراتيجية الصينية وطموحات بكين الجيوسياسية «الحلم الصيني» الذي نادي به جين بينغ، سكرتير عام الحزب الشيوعي عام 2012، قائلاً: «إن طموحنا يكمن في أن نجعل من الصين القوة الأولى عالمياً، وأن أفريقيا هي الوسيلة الأساسية لبلوغ وتحقيق هذا الحلم».
في سياق متصل، يؤكد لنا المؤلف أن كل رئيس للصين يبدأ ولايته باتخاذ شعارات له يعمل على تحقيقها عبر المساندة الشعبية والحزبية، ومن أبرزها دعوتا «الإصلاح والانفتاح» اللتان ميزتا الانتقال نحو الرأسمالية المتوحشة، والتصالح المستحيل مع ورثة الرئيس دينج ماو و«المجتمع المتناسق» وسبل تلبية احتياجات التنمية بالحفاظ على أسس المجتمع الصيني وبخاصة الحزب الشيوعي.
من جانبه، وخلال تنصيبه لمنصب سكرتير عام للحزب الشيوعي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، لم يشذ جين بينغ هو الآخر عن القاعدة المعمول بها بإطلاق ما سماه «الحلم الصيني»، معرّفاً إياه بأنه يعد بمثابة استكمال لرغبة الشعب الصيني في الحياة السعيدة وتحقيق نهضة الصين كأمة عظمى، وهو الشعار الذي تبناه كذلك جميع أعضاء الحزب ووسائل الإعلام الصينية وأيضاً بعض الفنانين، كما أن هذا التوجه لا يتعارض مع آليات اتخاذ القرار في قلب السلطة الصينية، بل على العكس فقد سعت جميع طوائف المجتمع الصيني نحو تحقيق هذا الحلم باعتباره «حلم الصين»، حسب تعبير بعض الخبراء، لبلوغ غايتها لتتبوأ ما تصبو إليه من مكانة كقوة دولية أولى.
يستهل جوليان ونر كتابه هذا بالتأكيد على أن الإشكالية لم تعد تكمن في معرفة ما إذا كانت الصين ستصبح قوة عظمى عالمياً أم لا، لكن تكمن في معرفة متى سيتحقق ذلك. وهنا يرى المؤلف أن جين بينغ، الرئيس الصيني الحالي يرغب في بلوغ هذه المكانة بحلول عام 2022؛ لذلك فقد ركز جهوده على القارة الأفريقية التي لم تعد منذ ذلك الحين قارة مهملة ومهمشة، وبالتالي لم تعد بمنأى عن العولمة، وبخاصة أنها تمثل منذ بداية القرن الحالي نسبة 5 في المائة من معدل النمو الاقتصادي السنوي العالمي، كما يرى بعض الخبراء أنها تمثل مستقبل الاقتصاد العالمي؛ لأنها تجمع جوهر وأساس رهاناته المستقبلية: الرهانات الديموغرافية والاقتصادية والمواد الأولية وحماية البيئة ومكافحة الأوبئة. لذلك؛ نحن بصدد عهد التفاؤل الأفريقي الواعد وليس التشاؤم الأفريقي.

انتهاء عهد التهميش

يؤكد المؤلف أن نهاية التنافس بين الكتلتين الشرقية والغربية قد صاحبه تراجع ملحوظ في قيمة ما تتمتع به القارة الأفريقية من أدوات فاعلة، ففي تسعينات القرن الماضي اختفى الاتحاد السوفياتي واستشعرت الولايات المتحدة الأميركية أنها غير مجبرة على التمسك بالقارة الأفريقية، وبالتالي تخلت عن وجودها في القارة الأفريقية، هذا إلى جانب اتهام الأوروبيين بالتخاذل والبعد عن القارة الأفريقية وإهمالها جراء انشغالهم بأهدافهم الخاصة التي تكمن في توحيد قارتهم العجوز.
ويرى المؤلف أن اليوم قد تبدل الوضع وتغير، فلم تعد أفريقيا هي القارة المهملة والمهمشة، ولكنها بدأت تمثل موضع جذب لجميع القوى الدولية لما لها من مصالح استراتيجية فيها، لكن يأتي النفوذ الكبير والجهد العظيم لصالح الصين التي تعتبر «أن أفريقيا ليست هدفاً في حد ذاتها، لكنها تمثل أداة مهمة وفاعلة في سبيل بلوغ حلمها وقوتها ورخائها».
ويذكر المؤلف أنه على خلفية حالة العجز الذي تعاني منه الصين بشأن تحقيق اكتفائها الذاتي من المواد الأولية، نجدها تسعى نحو تجاوز هذا العجز عن طريق القارة الأفريقية العامرة والزاخرة بالمواد الأولية؛ إذ تؤكد بعض التقديرات على أن «القارة الأفريقية تتمتع وحدها فيما بين ثلث ونصف الاحتياطي العالمي من الموارد الطبيعية»، الأمر الذي دفع الصين نحو الهرولة صوب القارة السمراء، وترتب على هذا التوجه إحداث قفزة كبيرة في التبادلات التجارية بين الصين والدول الأفريقية، من 12 مليار دولار عام 2000 إلى 200 مليار دولار عام 2012، ومن ثم، نجحت الصين في تعزيز سياستها في القارة الأفريقية أكثر من القوى الغربية وإعطاء دروس فيما يسمى بـ«الاستعمار الجديد والتدخل والاندماج». ويلفت المؤلف هنا إلى أن الأفارقة غير محظوظين أو مستهدفين بالانصياع والخضوع دائماً لتبعية الغير، فما لبثوا أن تخلصوا من تبعية الاحتلال الغربي لهم، حتى نجدهم يقعون في شباك وبراثن تبعية الصين التي أضحت تمثل رقماً مهماً في الاقتصاد الأفريقي ينعكس إيجاباً على وضع مفاوضها في مواجهة الجانب الأفريقي. ولعل النموذج الصارخ في هذا الشأن يتجسد في فوز إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو، وهو رقم ضخم للغاية بالنسبة لاقتصاد مدغشقر، يضعنا أمام واقع يعزز من وضع المفاوض الصيني الذي نجح في انتزاع مدة حق الانتفاع إلى 30 عاماً مبادلة لإقامة منطقة صناعية ساحلية ومركز هيدروليكي؛ لأن قيمة العقد تُصيب المفاوض الأفريقي بالدوار، ولا سيما أن صافي الناتج القومي لمدغشقر يقدر بـ10 مليارات يورو، وعلى ذلك فنحن أمام حالة من الهيمنة والسيطرة الصينية للقارة الأفريقية يمكن توصيفها بأنها تمثل «أحد أنماط الاستعمار الجديد للقارة الأفريقية».
يؤكد الكتاب على أن الأخطر من ذلك يكمن في أن الصين لا تحترم البيئة الأفريقية في تعاملها مع موارد القارة الأفريقية ومقدراتها، فشهوة بكين أمام المواد الأولية الأفريقية له تكلفة بيئية ضخمة لا يمكن أن تتحملها القارة الأفريقية على المدى الطويل، وبخاصة أن الصين تسعى في المقام الأول نحو تحقيق مصالحها بغض النظر عن الخطاب الرسمي الذي يتبناه الجانب الأفريقي.
ويخلص المؤلف بأنه على خلفية الفراغ الذي شهدته القارة الأفريقية جراء الإهمال والتجاهل الأميركي لها من جانب، وانشغال الأوروبيين بتقوية وتعزيز وضع قارتهم العجوز من جانب آخر، لم تجد الصين صعوبة في غزو القارة الأفريقية اقتصادياً، ومن ثم سياسياً لأن الأفارقة وجدوا في بكين ضالتهم؛ إذ خصصت الصين مبلغاً كبيراً للاستثمار في ربوع القارة الأفريقية يقدر بـ4000 مليار دولار وهو مبلغ ضخم للغاية وبخاصة لو علمنا أن إجمالي حجم الاحتياطي بالبنوك المركزية في منطقة اليورو يقدر بـ800 مليار دولار، وأن البنك الفيدرالي الأميركي لا يملك سوى 150 مليار دولار فقط، أي أننا أمام قوة اقتصادية صينية عاتية تسعى بجدية نحو تحقيق حلمها لأن تصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، وهو حلم قاب قوسين أو أدنى من الواقع، وأن القارة الأفريقية تمثل «كلمة السر» الحقيقية في سبيل تنفيذ هذا الحلم.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».