«اقتصادات للأكثرية» يثير جدلاً في مجلس العموم البريطاني

مطالبات باعتذار تيريزا ماي عن قراءة مغلوطة للنص

جون ماكدونيل
جون ماكدونيل
TT

«اقتصادات للأكثرية» يثير جدلاً في مجلس العموم البريطاني

جون ماكدونيل
جون ماكدونيل

ليست بريطانيا دولة فاضلة، ولا هي بأي مقياس يوتوبيا مثقفين، لكن حادثة وقعت خلال جلسة للبرلمان البريطاني أخيراً أعادت بعضاً من أمل موهوم في أن تتحول صراعات الهوية والمواقف السياسيّة المصلحيّة قصيرة النّظر - التي أفرغت العمليّة الديمقراطيّة الغربيّة من مضمونها أو كادت - إلى صيغة تبادل أفكار وجدل بين مثقفين تحكمها منطقيّة وعقلانيّة وبحث متزن عن الطريق المثلى للغد.
الحادثة تمحورت حول كتاب اقتصادي صدر حديثاً في السوق البريطانية بعنوان «اقتصادات للأكثريّة» حرره وقدّم له جون ماكدونيل وزير الماليّة في حكومة الظلّ العمالية، إذ إن تيريزا ماي رئيسة الوزراء الحاليّة لوّحت بنسختها الشخصيّة منه، بينما كانت تشن هجوماً قاسياً على السياسات الاقتصاديّة التي يطرحها حزب العمّال، مستشهدة بنصٍ من إحدى مقالات الكتاب، قالت إنه يتهم الأرقام التي تضمنها مانيفستو الحزب الذي خاض على أساسه الانتخابات العامة الماضية بأنها ليست بدقيقة ولا يمكن الارتكان إليها، وشرعت في قراءة عدة أسطر لتؤكد ذلك. ولم تمضِ دقائق قليلة حتى كان سايمون وورين - لويس كاتب المقالة التي قرأت منها ماي، وهو بروفسور اقتصاد بارز يدرّس في جامعة أكسفورد العريقة، يعلّق حانقاً من خلال موقعه على «تويتر» متهماً رئيسة الوزراء بـ«الكذب»، وبـ«إساءة قراءة النص عمداً لتحقيق غايات سياسيّة». وما لبث أن نشر مقالة على موقعه الشخصي الذي يتابعه كثير من المهتمين بعلوم الاقتصاد عنونها بـ«اليوم الذي كذبت فيه تيريزا ماي في البرلمان حول ما كتبت»، تضمنت هجوماً لاذعاً عليها واصفاً إياها بانعدام المسؤوليّة، إن كانت اعتمدت على أحد مساعديها في انتقاء النص، أو بانعدام القدرة على فهم تعبيرات بسيطة في اللغة الإنجليزيّة مثل قولنا «على سبيل الافتراض». واعتبر عدم اعتذارها منه رغم مطالبته حزب المحافظين الحاكم بذلك شخصياً - وفق كتاب رسمي أرسله إلى مقر الحزب - مثالاً على تأمرك السياسة البريطانيّة خلال العهد الحالي.
تسببت هذه الحادثة في جدالات داخل البرلمان وعلى أعمدة الصحف كما مطالبات بالاعتذار، وامتنع مقر رئاسة الوزراء رسميّاً عن التعليق، بينما اكتفت متحدثة مساعدة في البرلمان بالقول إن تلك الهفوة «لم تكن حتماً بسوء نيّة»، وقللت من أهميتها. لكن ناشر الكتاب كان كثير الابتهاج بعد تلك الحادثة، إذ إن الطلب على نسخ «اقتصادات للأكثريّة» تصاعد على نحو فلكي خلال الأيام القليلة الماضية بعد أن كانت المبيعات مقتصرة بالعادة على حلقة ضيقة من المعنيين بالسياسة ورجالات يسار حزب العمال.
وللحقيقة، فإن «اقتصادات للأكثرية» يقدّم مرافعة كينزية الطابع تتوسط الفضاء بين النقيضين؛ الرأسمالية والاشتراكيّة، عبر مجموعة مقالات شارك بها اقتصاديون مرموقون من الأكاديميات البريطانيّة مؤيدون لجيريمي كوربين الزعيم الحالي لأكبر أحزاب المعارضة، حزب العمال، وتطرح وجهات نظر بشأن بدائل ممكنة للاقتصاد النيوليبرالي المعولم الذي أخذ بزمام البلاد منذ عهد السيدة الحديدية الرّاحلة مارغريت تاتشر، وتسبب في تلك الحالة البائسة التي انتهى إليها الاقتصاد البريطاني بعد عقود من سياسات اليمين الحاكم ضاعفت من انعدام المساواة بين المواطنين، وأوصلت نسَب العوز والفقر إلى مستويات غير مسبوقة في واحدة من أغنى أمم العالم، وهي سياسات لم يعد انتقادها مقتصراً على اليسار فحسب، بل أصبحت مثار حنق المجتمع ككل.
كانت هذه السياسات قد تكثفت إثر الأزمة الماليّة العالميّة الأخيرة عام 2008، إذ لجأت الحكومات البريطانيّة المتعاقبة إلى فرض برامج تقشف وتقليص في الدفوعات الاجتماعيّة، رافقها جمود نمو مداخيل أغلب أفراد المجتمع، وجعلت من موضوع شراء منزل أو مجرّد الاحتفاظ بوظيفة مستقرّة أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة. ولذا فإن معظم الصحف البريطانيّة الكبرى، رغم ميولها اليمينية التي لا تخفى، رحبت بكتاب «اقتصادات للأكثريّة» لدى صدوره قبل عدّة أسابيع بوصفه يقدم ملامح حلول جريئة للتعامل مع الأوضاع الاقتصاديّة الخانقة والتخفيف من آثار الرأسماليّة المتأخرة دون الوقوع في رطانة الماركسيين المعهودة عن التحوّل «الجذريّ» إلى نظام اشتراكي ولو ببرنامج الحد الأدنى. ولعل كفاءة الكُتّاب ومهنيّتهم وسمعتهم الأكاديميّة الرفيعة في كبريات الجامعات البريطانيّة ومراكز الأبحاث الرصينة منحته رصيداً آخر منع عنه الاتهامات التي تطلقها صحف لندن على عواهنها عند نقدها كتب اليسار بوصفها أعمالاً مؤدلجة لا تؤخذ بالجديّة التي تستحق سوى في دوائر ثقافيّة محدودة.
«اقتصادات للأكثريّة» يدفع القارئ للتفاؤل بمزيد من عدالة مجتمعيّة عبر أفكار متفاوتة لتعديل أنظمة ملكيّة الشركات بمنح حصص ولو ضئيلة للعاملين فيها، والتخفيف من الآثار السلبيّة المترتبة على سياسات النفس القصير في إدارة الاستثمارات والمؤسسات الماليّة عموماً، واستعادة ملكيّة مؤسسات الخدمات العامة كالنقل والقطارات والبريد إلى القطاع العام مجدداً، كما تنفيذ أوسع برامج لاستثمارات خضراء بغرض تحسين كفاءة شبكات البنية التحتيّة المتردية في البلاد، ومدّ نطاق اللامركزيّة إلى حدود قصوى.
وعلى الرغم من أن إحدى مقالات الكتاب عددت منافع اقتصاديّة في حال تمّت عمليّة الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي وفق ما تسعى إليه الحكومة البريطانيّة، فإن أخرى اقترحت تضامناً أوروبياً شاملاً ونوعاً من فيدراليّة عريضة تُمنح سلطات واسعة عبر الحدود لمواجهة تهرّب الشركات المعولمة الكبرى من دفع الضرائب في الأسواق المحليّة واستفادتها غير العادلة من الجنان الضريبيّة لتعظيم الأرباح على حساب المستهلكين.
على أهميته البالغة في صياغة فكر اقتصادي بديل لبريطانيا، فـ«اقتصادات للأكثريّة» يظلّ مع ذلك دون مستوى مانيفستو لبرنامج اقتصادي متكامل، إذ لا حلول محددة فيه لإدارة مشكلات الإسكان المستعصية، أو ارتفاع معدلات الشيخوخة بين المواطنين، أو حتى كيفيّة إدارة مؤسسات التعليم والصحة والأمن العام، ناهيك بالتعامل مع القوّات المسلحة أو صناعة معدات القتال، وهو أمر لم ينكره محرر الكتاب الذي اعتبره مجرد نموذج مختصر للأنساق المعرفيّة التي يستلهم منها حزب العمال سياساته الاقتصادية والاجتماعية. كما أن انتقادات كثيرة وجهت إلى مقاطع محددة منه بوصفها لا تمتلك إسناداً علميّاً كافياً، وبأنه كله لا يتمتع بالتماسك والانسجام معاً في طروحاته أو حتى لغته. وقد اعتبرته إحدى المجلات السياسية الأسبوعيّة «سبكتاتور» كأنه يستهدف التمايز مع تيار يمين حزب العمّال أكثر من كونه نقيضاً تاماً لسياسات حزب المحافظين.
مع ذلك، فإن تيريزا ماي بهفوتها العلنيّة أثناء استعراضها غير الموفّق لقراءاتها، منحت دونما قصد قطاعاً عريضاً من المواطنين الفرصة لتذوّق سلّة طازجة متخمة بأفكار اليسار الجديد في بريطانيا التي تكتسب مؤيدين آخرين كل يوم بين جمهور الغاضبين والمتضررين من النموذج الاقتصادي الذي يدعمه المحافظون، وهي بذلك تسببت في كسر الرّهبة من مغبة التعاطي مع الفكر الاشتراكي عموماً، وهي رهبة بنتها عقود الحرب الباردة في أذهان المواطنين العاديين، بوصف ذلك الفكر رجزاً من عمل الكرملين، مهما احتوى طروحات قد تهم القطاع الأوسع منهم، وهي بالهفوة ذاتها منحت طاقم كوربين ورفاقه نافذة أعرض لمخاطبة المثقفين والأكاديميين على الجانب الآخر من خط الانقسام بين اليمين واليسار.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم