تونس: العد العكسي لنهاية ائتلاف حاكم

سباق مع الزمن بين أنصار القطيعة ودعاة التوافق

تونس: العد العكسي لنهاية ائتلاف حاكم
TT

تونس: العد العكسي لنهاية ائتلاف حاكم

تونس: العد العكسي لنهاية ائتلاف حاكم

أحدثت تصريحات الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي عن القطيعة مع حزب «حركة النهضة»، أكبر التنظيمات الإسلامية في تونس، زوبعةً غير مسبوقة داخل الطبقة السياسية وصناع القرار السياسي والمراقبين الأجانب لتجربة الانتقال الديمقراطي في البلاد. ولقد تراوحت ردود الفعل على تلك التصريحات بين استبشار بعض المعارضين بتصدّع الائتلاف الحاكم بين «النهضة» وحزب «نداء تونس» - حزب الرئيس -، واعتراضات قوية عليها في محاولة لتجنب القطيعة النهائية بين الحزبين اللذين اعتبر الرئيس التونسي وزعماء «النهضة» أن التوافق بينهما منذ خمس سنوات كان وراء نجاح ما سُمّي بالاستثناء الديمقراطي التونسي. فهل ينتصر دعاة العودة إلى القطيعة والصدام بين العلمانيين والإسلاميين، أم أولئك المتمسّكون بخيار التوافق وتبادل التنازلات السياسية؟ وكيف سيتطوّر المشهد السياسي بعد تعمّق الهوّة بين جناحي الحزب الحاكم من جهة، ومؤسستي رئاسة الجمهورية بزعامة الباجي قائد السبسي ورئاسة الحكومة بزعامة يوسف الشاهد من جهة ثانية؟

في ظل انحياز قيادة حزب «حركة النهضة» الإسلامي التونسي وعشرات من أعضاء البرلمان من تيارات مختلفة إلى رئيس الحكومة يوسف الشاهد، مقابل اصطفاف قيادة النقابات والحزب الحاكم ضده، ارتسمت علامات استفهام كبيرة حول ما إذا كان الشاهد وحلفاؤه سيربحون معركتهم المفتوحة مع قصر قرطاج الرئاسي ونجل الرئيس حافظ الباجي قائد السبسي وحلفائه، أم يحصل العكس.
إنه، حقاً، السباق مع الزمن بين أطراف سياسية واجتماعية كثيرة تسير في خطّين متوازيين: خط التوافق، وخط القطيعة والصدام، مع أن عين كل السياسيين مصوّبة منذ الآن نحو انتخابات العام المقبل الرئاسية والتشريعية التي أكد الرئيس التونسي تنظيمها في موعدها.
تصريحات الرئيس الباجي قائد السبسي تحدّثت لأول مرة منذ انتخابات 2014 عن القطيعة مع قيادة «النهضة»، على الرغم من تنويهه بعلاقاته الشخصية بزعيم الحركة راشد الغنوشي. في المقابل وجه علي العريِّض، رئيس الحكومة الأسبق ونائب رئيس «النهضة»، رسائل تطمين جديدة للرئيس قائد السبسي. ولقد حاولت تصريحات العريِّض ورفاقه محاصرة الأزمة، ونفت أن تكون رئاسة الحركة أرادت توجيه رسائل سياسية إلى الرئيس توحي بالقطيعة معه ومع قيادة الحزب السياسي الذي أسسه قبل 6 سنوات، وتمكن بفضله من الفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2014.

انحياز للشاهد ضد نجل الرئيس

غير أن المعطيات الموضوعية تؤكد أن الخلافات بين قيادات الحزبين الكبيرين المشاركين في الائتلاف الحاكم خلافات حقيقية، وتعمقت منذ مطلع العام الحالي بسبب معارضة قيادة «النهضة» دعوات الرئيس ونجله إلى إسقاط حكومة يوسف الشاهد، وانحيازها إليه في خلافاته مع زعيم الحزب الذي أوصله وغالبية الوزراء وأعضاء البرلمان إلى الحكم قبل 4 سنوات.
في المقابل، تمسكت «النهضة» بموقفها بحجة الدفاع عن الاستقرار الحكومي والسياسي وطنياً، وهذا، رغم المطالبات العلنية بإقالة الشاهد الصادرة عن الرئيس التونسي ونجله حافظ المدير التنفيذي للحزب الحاكم وعن زعيمي نقابات العمال نور الدين الطبوبي واتحاد رجال الأعمال سمير ماجول... وكذلك عن قيادات أحزاب المعارضة مثل عصام الشابي أمين عام «الحزب الجمهوري» وغازي الشواشي زعيم حزب «التيار الديمقراطي» ومحسن مرزوق الوزير السابق وزعيم حزب «مشروع تونس».

معركة الكل ضد الكل

واستفحل الأمر منذ مايو (أيار) الماضي، عندما قرر الرئيس التونسي والزعيم المؤسس لـ«نداء تونس» تعليق العمل بما سُمّي بـ«وثيقة قرطاج» بنقاطها الـ64 التي صاغها مسؤولون في رئاسة الدولة وخبراء سياسيون ونقابيون طوال 4 أشهر، وضمنوها استراتيجية جديدة وتصورات شاملة لمعالجة مشكلات تونس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية.
والواقع، أن الأفرقاء السياسيين وصلوا إلى هذا المأزق بسبب اعتراض «النهضة» على النقطة 64 من «وثيقة قرطاج 2» الخاصة بتغيير رئيس الحكومة، ودعت إلى تكليف الحكومة نفسها بتنفيذ الاستراتيجية الجديدة واللجوء عند الاقتضاء إلى تغيير بعض الوزراء دون المساس برئيسها الشاهد. ومن ثم، تعمقت الهوة بين الطرفين لما أدلى الشاهد بحوار تلفزيوني حمّل فيه نجل الرئيس والمسؤول الأول في حزب «نداء تونس» حافظ قائد السبسي مسؤولية جلّ الأزمات التي تعاني منها البلاد ومؤسسات «نداء تونس»، وبينها خسارته نحو مليون صوت في الانتخابات البلدية العامة التي نظمت يوم 6 مايو الفائت مقارنة بانتخابات. يذكر أن «النداء» حصل في تلك الانتخابات على المرتبة الثانية بعد «النهضة» بعدما سبق له التفوق عليها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة بنحو نصف مليون صوت.
وهكذا، أوجدت «معركة الكل ضد الكل»، منذ مطلع الصيف المنقضي، اصطفافاً سياسياً بين قطبين سياسيين: الأول بزعامة رئيس الجمهورية ونجله وقطاع من كوادر «نداء تونس» والزعماء النقابيين، والثاني بزعامة رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي فتح في الوقت عينه عدداً من الملفات السياسية التي منحته شعبية نسبية، من بينها بعض ملفات سوء التصرف والفساد، واستفاد من دعم «النهضة» صاحبة الكتلة الأولى في البرلمان له. وفي ظل هذا الدعم والخلافات الكبيرة داخل حزب «النداء» والمعارضة الليبرالية واليسارية، عجزت رئاسة الجمهورية عن إقالة حكومة الشاهد عبر البرلمان.

ورقة الإسلام والحداثة

في هذه الأثناء تحرّكت قيادات من القطبين لبناء جبهات انتخابية سابقة لأوانها تأهباً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرّرة في العام المقبل. ولقد استخدم الرئيس التونسي في الأثناء ورقة سياسية ثقافية اجتماعية توقّع أن ينجح من خلالها في توجيه ضربة قوية إلى «النهضة» وحلفائها، وبينهم رئيس حكومته المتمرد. إذ غيّر قائد السبسي سلاح الصراع فتبنّى مشروعاً جديداً لتعديل قانون الأحوال الشخصية المثير للجدل يشمل المساواة في الإرث، كانت قد أعدته لجنة من الخبراء العلمانيين الليبراليين واليساريين بزعامة الخبير في الدراسات الحضارية والأديان المقارنة عبد المجيد الشرفي والحقوقية النسوية بشرى بالحاج أحميدة. هذا المشروع نجح في إبراز اصطفاف انتخابي سابق مبكّر شبيه بما جرى في 2014 بين ما سُمّي بتياري الحداثة والهوية، أو تياري التجديد والمحافظة. وكسب قائد السبسي وأنصاره بفضل هذا المشروع دعماً كبيراً من داخل النخب الحداثية والنسوية والإعلامية والثقافية التونسية والأجنبية، مثلما كشفته وسائل الإعلام التونسية والمظاهرات المناصرة له والمعارضة لـ«حركة النهضة»، مع اتهامها بالمحافظة والتزمت.
بيد أن استطلاعات الرأي، التي أعدتها مراكز مستقلة تونسية وأجنبية، بينها مؤسسة «سيغما كونساي»، كشفت أن الغالبية الساحقة من التونسيين والتونسيات يتحفّظون على المشروع الرئاسي للمساواة بين الجنسين في الإرث، ويعارضون بقوة بعض توصياته التحررية الأخرى، بينها الإقرار بحقوق المثليين والعلاقات الجنسية خارج مؤسسة العائلة.
وبالتالي، استرجعت «النهضة» موضوعياً دعماً معنوياً وسياسياً من نحو مليون من ناخبيها المحافظين والمتدينين، الذي صوّتوا لمرشحيها في انتخابات 2011، ثم خسرت أصواتهم في انتخابات 2014 البرلمانية وانتخابات 2018 البلدية، في أعقاب ما اتهمت به من تنازلات سياسية وفقهية تحت ضغط العلمانيين والعواصم الغربية، وذلك في سياق محاولاتها البرهنة على الصبغة المدنية للحركة، وعلى قبولها التأقلم مع قيم الحداثة والمعاصرة.

الذكرى الخامسة للقاء باريس

هذا الاصطفاف السياسي والانتخابي، والبدء المبكّر لعملية التحضير لانتخابات 2019، أبرزا رئيس الحكومة يوسف الشاهد الشاب (42 سنة) في موقع المرشح الأوفر حظاً لخوض مغامرة الرئاسيات المقبلة. وحقاً، نجح الشاهد في أن يجمع حوله قطاعاً من كوادر حزبه ومن المنشقّين عنه، إلى جانب تيار من نشطاء «النهضة» الذي قد يكتفي بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية على غرار ما فعل في 2014، بسبب المعارضة الإقليمية والدولية لوجود محسوبين على تيارات الإسلام السياسي على رأس الدولة.
وعلى الرغم من أجواء الإجازات الصيفية والأعياد، تواصلت المقابلات بين قيادات من الحزبين الكبيرين من جهة، وبين الرئيس التونسي ورئيس «النهضة» حليف رئيس الحكومة من جهة ثانية. لكن الأوضاع تطورت سلباً، وكادت تؤدي إلى قطيعة عندما أدلى الرئيس التونسي بتصريحات تلفزيونية تتهم الحكومة الحالية ورئيسها بالولاء لـ«حركة النهضة»، وبخسران حزامها السياسي الذي كان يضم النقابات ونحو 5 أحزاب.

خلط أوراق

قيادة «حركة النهضة»، من جانبها، ردّت الفعل، وشنّت حملة واسعة لمنع القطيعة مع الرئيس التونسي والموالين له في حزبه عبر نشر رسالة مطوّلة وجهها رئيسها راشد الغنوشي إلى الرأي العام في مختلف وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية بمناسبة الذكرى الخامسة لـ«لقاء باريس» بينه وبين الباجي قائد السبسي الذي كان يتزعّم المعارضة. وأسفر اللقاء، الذي عقد في أغسطس (آب) 2013، بعد أسابيع قليلة من إسقاط حكم الدكتور محمد مرسي و«الإخوان المسلمين» في مصر، عن اتفاق بين قائد السبسي والغنوشي على أن تتنازل «النهضة» عن السلطة لفائدة «حكومة تكنوقراط» تشرف على تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية في 2014. وذكر الغنوشي، في رسالته المفتوحة إلى الشعب وإلى السياسيين، في الذكرى الخامسة لـ«اتفاق باريس»، بأن حركته تنازلت عن الحكم وهي في أوج القوة... فجنّبت البلاد أزمات وصراعات وحمامات دم، وأنجحت مجدداً خيار التوافق التونسي والانتقال الديمقراطي السلمي.
ونوّه الوزير السابق للخارجية رفيق عبد السلام (من «النهضة») بالمناسبة بحاجة تونس إلى التمسك بخيار التوافق بين قطبي الائتلاف الحاكم الذي بدأ في باريس في صيف 2013 بين قائد السبسي والغنوشي. وأورد عبد السلام أن التوافق بين «النهضة» مع الباجي قائد السبسي وأنصاره «لم يكن صفقة انتهازية أو خياراً تكتيكياً أو مناورة ظرفية، بل خياراً مبدئياً استفادت منه تونس وكل الأطراف... وأن حركة النهضة خرجت من الحكم في موفى 2013 ولكنها لم تخرج من السياسة. لم تنقذ نفسها وحسب من محرقة كانت تعد لها، بل أنقذت بانسحابها من السلطة الثورة من الارتداد، وأنقذت ما غدا يعرف بالنموذج التونسي والاستثناء التونسي: واحة للحرية والديمقراطية وسط فضاء عربي ضربه إعصار مدمّر».
كذلك اعتبر الوزير السابق للعدل نور الدين البحيري، أن البلد سيكون عرضة لمفاجآت خطيرة إذا ما ساير دعاة القطيعة والصدام والعنف والابتعاد عن مسار التوافق السياسي والمجتمعي بين قيادات الحزبين الكبيرين وبقية مكوّنات المجتمع المدني.

تطمينات وميزان قوى

ولكن، في مثل هذه الظروف، ثمة من يسأل: هل يكفي التذكير بهذا المسار لإقناع قائد السبسي وأنصاره وخصومه العلمانيين والليبراليين واليساريين المناصرين لرئيس الحكومة يوسف الشاهد بضرورة تجنب «سيناريو» دفع تونس مجدداً نحو القطيعة والعنف والعنف المضاد بين حزبي «النداء» و«النهضة»، أو بين تياري الحداثيين والمحافظين؟ وألن تربك أوضاع تونس الاقتصادية والاجتماعية، التي تدهورت كثيراً، دعاة الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتساهم في تفجير اضطرابات اجتماعية وأمنية جديدة يكون الشباب والعاطلون وقودها؟
الجميع في الحكم والمعارضة، داخل التيارات الحداثية والمحافظة، يقرّ بأن الأوضاع باتت هشة جداً في تونس وفي محيطها الإقليمي، وبأن انهيار العملة التونسية واستفحال المديونية وتنامي العجز التجاري ونسب البطالة والفقر، من التطورات الخطرة التي لا يخدمها إضعاف الدولة المركزية والإدارة، أو دفع السياسيين نحو القطيعة والصدام والعنف والعنف المضاد.

اليسار التونسي: المستفيدون من القطيعة كثيرون

> لكن، في الوقت ذاته كشفت ردود فعل زعماء من المعارضة اليسارية مثل حمّة الهمامي زعيم حزب «العمال الشيوعي»، وزياد الأخضر زعيم حزب «الوطنيين الديمقراطيين»، ومحمد عبو زعيم «التيار الديمقراطي»، أن المستفيدين من القطيعة بين حزبي الائتلاف الحاكم كثيرون. ولعل الأهم بالنسبة لهؤلاء جميعاً تحسين موقع الأطراف السياسية والحزبية المعارضة في الوقت نفسه للإسلاميين ولحلفائهم أنصار النظام السابق تحت يافطة حزب «نداء تونس» حيناً و«الائتلاف الوطني» حيناً آخر.
ويقلل الهمامي والأخضر ورفاقهما في اليسار النقابي والسياسي من أهمية الحديث عن قطيعة وصدام بين قيادات «النهضة» و«النداء»، أو بين قائد السبسي والشاهد والغنوشي، ويعتبرون أن أركان السلطة الحالية جميعاً «متحالفون مع مناصري الرأسمالية التقليدية داخل تونس، ومن بين تلامذة صندوق النقد الدولي والرأسمالية العالمية المتوحشة من جهة ثانية».
كذلك كشفت ردود فعل قياديين بارزين في اتحاد نقابات العمال، مثل سامي الطاهري وسمير الشفي، أن «الاتحاد العام التونسي للشغل» ماضٍ في التصعيد الاجتماعي، وفي التلويح بالإضراب العام في شهري أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) المقبلين، لأسباب عديدة؛ من بينها محاولة إسقاط الحكومة وتغيير المشهد السياسي بما من شأنه إبراز قوة سياسية ثالثة تستفيد من تراجع شعبية حزبي الائتلاف الحاكم الحالي والفوز بغالبية نسبية في انتخابات العام المقبل.

موازين القوى... والبديل المحتمل

يعتبر وزير التربية السابق والقيادي في حزب «نداء تونس» ناجي جلول، أن المشهد السياسي القادم في تونس لن يتحكم فيه مستقبلاً حزبا «النهضة» و«النداء»، ولكن الطرف السياسي الجديد الذي يمكن أن يفوز بأغلبية نسبية في الانتخابات البلدية المقبلة.
ويمضي جلول قائلاً: «إذا كانت كتلة حركة النهضة في البرلمان تحكمت في المشهد السياسي الحالي اعتماداً على 68 نائباً من بين 217 عضواً في البرلمان، واستفادت من تشرذم السياسيين، فإن البرلمان المقبل يمكن أن تتحكم فيه كتلة سياسية جديدة لديها أقل من 50 نائباً فقط». كما اعتبر 80 من بين قيادات حزب الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي أعلنوا انشقاقهم مؤخراً، وبينهم الوزيران السابقان عدنان منصر وطارق الكحلاوي، أن المشهد السياسي أصبح اليوم هشاً جداً، ويفتقر إلى زعماء يحترمون فعلاً الديمقراطية داخل أحزابهم وفي البلاد.
ومن ثم، ثمة من يتساءل: كيف سيتغير المشهد السياسي قبل انتخابات العام المقبل في ظل كل هذه التعقيدات؟ وهل يمكن صنع زعماء جدد في ظرف بضعة أشهر يكونون قادرين على كسب ثقة ملايين الناخبين؟ وهل يمكن لغالبية الناخبين والشباب المصابين بالإحباط بسبب إخفاقات أغلب النخب الليبرالية واليسارية والإسلامية الحاكمة والمعارضة أن يسترجعوا الثقة في صناديق الاقتراع وفي شعارات التداول السلمي على السلطة؟
كل الفرضيات واردة... لكن يبدو اليوم أن السباق على أشده بين أنصار التهدئة والتوافق من جهة، ودعاة القطيعة والصدام من جهة ثانية.
المعركة في 2013 حُسمت لصالح أنصار التوافق والائتلاف، لأن موازين القوى الداخلية والخارجية لم تكن لصالح حكومة «النهضة» وحلفائها ولا لفائدة معارضيها الاستئصاليين، وبينهم رموز النظام السابق. واليوم قد يستفيد رئيس الحكومة يوسف الشاهد وأنصاره، وبينهم وزراء وبرلمانيون ورجال أعمال، من إعلان القطيعة بين قصر قرطاج وقيادة «النهضة» لبناء حركة سياسية ثالثة مطلع العام الجديد تكون نواتها كتلة برلمانية جديدة ترفع شعار «التغيير» وكسب انتخابات موفى 2019.
كذلك قد تدعم بعض لوبيات المال والإعلام طرفاً سياسياً جديداً يعدّل المشهد السياسي، ويضع حداً للاستقطاب الثنائي الذي تعاني منه تونس منذ 40 سنة بين قطبين يتنازعان الحداثة والمحافظة، أو الليبرالية والدفاع عن الأصالة والهوية، أو العلمانية والإسلام.
وفي كل الحالات لا بد من توافر شروط عديدة، من بينها بروز زعماء جديد يتمتعون بالمصداقية والإشعاع، ويتصالحون مع الشباب والطبقات الوسطى والشعبية التي تعمقت القطيعة بينها وبين كل السياسيين بيمينهم ويسارهم منذ سنوات.


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.