شخصيات دموية تقمصت سيَر أبطال وتماهت معها

صدام حسين نموذجاً

صدام حسين
صدام حسين
TT

شخصيات دموية تقمصت سيَر أبطال وتماهت معها

صدام حسين
صدام حسين

صدر عن دار «سطور» ببغداد كتاب «الديكتاتور بطلاً» للباحث رياض رمزي المُقيم في لندن منذ أربعين عاماً، وعلى الرغم من غربته الطويلة، فإنه يتابع دائماً التحولات السياسية والاجتماعية والنفسية للمجتمع العراقي، فكتب دراسة مُستفيضة عن «الاقتصاد السياسي للمواكب الحسينية»، وأنجز كتاباً آخر يحمل عنوان «الديكتاتور فناناً» رصد فيه الشخصية المُستبدِة للرئيس العراقي السابق صدّام حسين، محللاً بعمق «أناه» المريضة المتضخمة التي أهلكت البلاد والعباد. أما في كتابه الجديد «الديكتاتور بطلاً» فيركز على القراءات الأولى التي ساهمت في تشكيل وعي صدام المتطرِّف، وأوهامه الضبابية الخادعة التي ظل يصدِّقها حتى الرمق الأخير.
يعتمد الباحث رياض رمزي بشكل أساسي على آراء المفكر المالطي إدوارد دي بونو صاحب نظرية «التفكير الجانبي» Lateral Thinking الذي انهمك منذ أواخر الستينات من القرن الماضي. وأبسط تعريف للتفكير الجانبي هو محاولة إيجاد الحلول للمشاكل التي تصادفنا بواسطة مقاربات إبداعية غير مباشرة تقتضي الخروج على المناهج المنطقية المألوفة التي نتّبعها في «التفكير العمودي» Vertical Thinking الذي يعتمد كلياً في حلّ المشاكل على المنطق التقليدي المتزمت الذي لا يرضى بشطحات الخيال، والمُصادفات، والأفكار والرؤى الجديدة التي لم نألفها من قبل.
يحلل الباحث في هذا الكتاب فكرة البطولة، وكيف ترسّخت في ذهن صدام حسين الذي صعد صعوداً «عجائبياً ومدوخاً» وأصبح ديكتاتوراً من الطراز «الرفيع» بحيث يمكن مقارنته بكبار الطغاة في العالم أمثال الإسكندر الكبير، نيرون، هتلر وسواهم من العُتاة والمتجبرين.
يتساءل الباحث في مستهل كتابه إن كانت مصادر الديكتاتور تعود لملوك بابل أم أنه كان وريثاً فكرياً لأبطال آخرين حُفرت أسماؤهم في ذاكرته الشخصية وظلت تمدّه بالأوهام والتخيّلات الفنتازية التي يصعب أن تجد طريقها إلى أرض الواقع؟ وبما أنّ الباحث يحبِّذ نظرية التفكير الجانبي بغية توليد أفكار جديدة يستمدها من لحظة تبصّر خاطفة، أو إعادة تقييم للأفكار القديمة، فلا غرابة أن يأتي بحلوله الإبداعية الجديدة لأنه يرى ما لا يراه الآخرون، وينظر إلى الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة أو من زاوية نظر مغايرة تماماً للتفكير العمودي.
يحتشد الكتاب بأحد عشر مبحثاً فرعياً تصبُّ كلها في فكرة «البطولة» التي اقتنع بها الديكتاتور لكنها في حقيقة الأمر بطولة زائفة ووهمية أفضت به إلى حبل المشنقة بينما كان يفضّل، وقت محاكمته، الإعدام رمياً بالرصاص بوصفه ميتة «رجولية» تقترن بالشجعان الصناديد لا المجرمين الأوباش.
يعتقد الباحث أن قراءات الديكتاتور المكثفة للسيَر، والمغازي، والمعلّقات هي التي شكّلت له سبيلاً للهروب من عالم الفقر المدقع الذي عاشه في طفولته وصباه حيث انكبّ على قراءة السيَر العربية مثل سيرة عنترة بن شدّاد، وسيف بن ذي يزن، والزير سالم وما إلى ذلك وكان يتقمص شخصيات أبطالها إلى درجة التماهي بحيث شكّلت حاجزاً بينه وبين العالم الواقعي الذي يعيش فيه.
من أبرز النتائج التي توصّل إليها الباحث أن بطولة الديكتاتور كانت ذات مضمون وبُعد جاهليينْ لأن مرجعياته الثقافية والفكرية تعود إلى الملك كُليب بن ربيعة، والشاعر عمرو بن كلثوم، والفارس عنترة بن شدّاد، وربما تذهب أبعد من ذلك إلى حمورابي ونبوخذنصّر الثاني وسواهما من القادة البابليين الذين رَسَخوا في الذاكرة الجمعية للمواطنين العراقيين.
لم يكن الديكتاتور مهموماً بقضايا شعبه لأنه كان معنياً على الدوام بمجده الشخصي، وقوانين رفعته، وهو يشبه إلى حدٍ كبير هتلر الذي سعى إلى بناء مجده الفردي ومسخَ أمجاد الآخرين ضباطاً وجنوداً ومقاتلين لهذا اختفى نظامه بسرعة ولم يبقَ منه سوى خلايا نائمة قد تستفيق على شكل أفراد موتورين أو مجموعات صغيرة لا تؤخذ في الحسبان.
يعتقد الباحث أن صدام حسين وغيره من الطُغاة ليسوا عظماء وإنما استثنائيون، ذلك لأن «العظمة فيها الكثير من الأستاذية والحِرَفية. أما الاستثنائية ففيها شيء أو الكثير من الرعونة والطيش والتهوّر». فردريك الكبير كان مثالاً للبطولة والعظمة بينما كان نابليون بونابرت أقل بطولة منه لأنه رجّح دوي المدافع على لغة العقل، وبُعد النظر.
على الرغم من كثرة مستشاريه لم يستشر الديكتاتور أحداً لأنه لا يقيم وزناً لبطانته أو الحلقة الضيّقة المحيطة به، وقد اعترف طارق عزيز وهو أحد الشخصيات المقرّبة منه بأنه لا يعرف كيف اتخذ صدام حسين قرار احتلال الكويت! ولعل قراءة ماركس دقيقة جداً في هذا المجال حينما قال: «إن تقاليد الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء»، وما من شخص في حزب البعث كان مأسوراً بالماضي، ومتعلقاً به مثل صدام حسين الذي ذهب ضحية المبالغات التراثية ويكفي أن نشير هنا إلى البيت الأخير من معلقة عمرو بن كلثوم التي تعد أنموذجاً للغلوّ في المبالغة الشعرية حينما قال: «إِذَا بلغ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـي - تَخِـرُ لَهُ الجبـابِرُ سَاجِديْنَـا».
لم يكن الديكتاتور واهماً فقط، وإنما كان يؤمن أنّ فيه شيئاً من شخصية الساحر الذي يعتقد أنه قادر على تغيير الواقع. وقد ظل هذا الوهم ملازماً له حتى في معاركه الخاسرة مع قوات التحالف فقبل أن يذهب الفريق أول الركن سلطان هاشم إلى «خيمة صفوان» أخبره الديكتاتور «أن عليه أن يتصرف كمنتصر فخور بنصره، وألا يمدّ يده لهم قبل أن يتأكد من مدّ أيديهم له، فالمنتصر لا يستعطف المهزوم لشدّ يده». تُرى، أي مدى من الوهم كان الديكتاتور قد بلغهُ بحيث بات يرى الهزيمة الشنعاء نصراً مؤزراً؟ وكم كان أسيراً لاعتقاداته المغلقة التي تعود فعلاً إلى الحقبة الجاهلية، ولو لم يكن الأمر كذلك لما اختار كلمة «المنازلة» التي تعني «نزل لقتال عدوه ومنازعته وجهاً لوجه»، مُذكراً إيانا بمنازلات الفرسان بالسيوف أيام الجاهلية، فلا غرابة أن ينعت قوات التحالف بالجبن لأنهم لم ينازلوه وجهاً لوجه وإنما كانوا يقاتلونه عن بُعد بطائراتهم الشبحية، وصواريخهم الذكيّة.
يتذكر الجميع زيارات الديكتاتور للمحافظات «البيضاء» التي لم تنتفض ضدّه وبدلاً من أن يلوّح للمواطنين بيديه سحب مسدسه الشخصي وبدأ بإطلاق النار فوق رؤوس المحتشدين لاستقباله وتحيته، وهي عادة أقل ما يقال عنها أنها ريفية أو بدوية مستقاة من القيم الصحراوية أو الجاهلية.
توقف الباحث عند أغنية للأطفال تنطوي على قصة مُعبِّرة تقول: «بسبب سقوط المسمار فُقدت الحدوة، بسبب غياب الحدوة سقط الجواد، بسقوط الجواد سقط الفارس، اختطف الأعداء الفارسَ وذبحوه»، لم يكن الديكتاتور سوى مسمار منخور في حذوة قديمة متآكلة أفضت إلى قتل الفارس، وذبح الوطن من الوريد إلى الوريد.
ثمة مصادر أجنبية رصينة أفاد منها الباحث أبرزها «26 يوماً مع صدام حسين» لكريس فورد، و«استجواب الرئيس» لجون نيكسون، وفيهما معلومات مهمة عن شخصية الديكتاتور الذي بكى أول مرة على ابنتيه اللتين هربتا مع زوجيهما فقال: «أشتاق إليهما. أنا أحبّهما كثيراً»، بينما لم يذرف دمعة واحدة على آلاف الأسرى والمفقودين العراقيين الذين ذهبوا شباباً إلى جبهات القتال، وعادوا أشبه بالشيوخ الهرمين الذين طعنوا في السن، وغرقوا في اليأس المطلق.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم