عبر مهرجان القاهرة، من خلال حفل افتتاحه ليلة أول من أمس، الثلاثاء، لمرحلة جديدة تماماً على تاريخه. فالحفل الذي أقيم في قاعة «المنارة» الرئيسية في مركز المنارة للمعارض والمؤتمرات الدولية، كان أقرب إلى حفل المناسبات السنوية مثل الأوسكار. كانت هناك فرقة موسيقية، ومسرح كبير، وفواصل موسيقية بين الجوائز، كلمات شكر وثناء من المُحتفين والمحتفى بهم وقاعة كبيرة، وحضور كثيف.
في الخارج، بساط أحمر عريض يلف المكان، مذيع تلفزيوني وثلاث مذيعات توزعن في نقاط مهمّـة «يصطادون» الشخصيات السينمائية القادمة، ويجرون معها المقابلات.
رغم ذلك، وكما يقول المثل السائد فـ«الحلو مايكملش»، حيث تلقى المهرجان وحفل الافتتاح ضربة قاصمة كان يمكن تلافيها.
كاريزما
في مجمله، كان حفل افتتاح الدورة التاسعة والثلاثين أبذخ حفل شهده مهرجان القاهرة في تاريخه، ومن بين أكثرها تنظيماًن حتى مع عدد من الهفوات السابقة لعرض فيلم الافتتاح، وهذا أمر مهم. السبب هو أن هذا الحفل، والحفل الختامي الذي سيقع في الثلاثين من هذا الشهر، ليسا من تنظيم وتنفيذ المهرجان، بل - وحسب اتفاق سخي تم التوصل إليه - من تصميم وتنفيذ عقول في محطة dmc التلفزيونية نجحت في نقل الحفل من صياغة الدورات السابقة، التي كانت كثيراً ما تعاني من تفكك وتأخر ومشكلات تقنية أو فنية، إلى نسيج واحد يستحق الثناء والإعجاب.
لكن هذا لم يكن بلا مقابل. الحفل جميل من الداخل والتنظيم على المسرح، وفي عملية توزيع المقاعد والوفود والضيوف، سلسة، لكن تأخر انطلاق الحفل لما يقرب من الساعتين أفسد ما سبق.
وتبدّى سريعاً، أن حسناوات المحطة اللواتي توزعن عند مدخل القاعة فعلن ما طُلب منهن: إجراء المقابلات مع الضيوف من الفنانين، وعدم تفويت أي منهم. من ناحيتهم لم يعارض الفنانون القادمون تسليط الضوء عليهم في مقدّمة الحفل. لكن ما بين الأسئلة التقليدية ذاتها والردود التقليدية في المقابل، تأخر البدء بالحفل لنحو ساعتين جلس فيها من وصل في الموعد المحدد طويلاً ينتظر أن ينطلق الحفل.
طبعاً، هذا ما تتوخاه المحطة التلفزيونية في مقابل إسهامها في رعاية المهرجان، لكن الثمن كاد أن يكون باهظاً.
حين انطلق كان من الطبيعي أن يغفر معظم الحضور هذا الانتظار الطويل، خصوصاً وأن الانطلاقة بدأت بالأوركسترا وهي تعزف مقاطع من أفلام مشهورة، ثم بالمطربة أصالة وهي تغني بتوزيع جديد أغنية قديمة للراحل محمد عبد الوهاب مطلعها، والجملة الأكثر تكراراً فيها، هو «الدنيا ليل والنجوم طالعة تنوّر».
بعد ذلك صعد الممثل آسر ياسين الذي اختير لتقديم الحفل وفقراته، وهو قد يكون ممثلاً واعداً، أو حتى وصل بالفعل لمرحلة إنجاز ما، لكن الكاريزما التي على مقدم الحفل التحلي بها ليست من خصاله. هذا إلى جانب أن مقدم الحفلات يحمل عادة مسؤولية ابتكار اللفتة التلقائية، والخروج المرتب والطبيعي عن النص بينما التزم الممثل به.
النص الجيد كان ما غاب عن حفل الافتتاح. طبعاً كانت هناك كلمات حميمة وتلقائية من بعض ممن اعتلى المنصة، ومن بينهم يسرا، وليلى علوي، وهند صبري، وسمير غانم، لكنه غاب عن تقديم الفقرات واشتغل كثيراً على العبارات المألوفة في مثل هذه المناسبات.
هذا باستثناء الكلمة التي ألقاها وزير الثقافة صالح حلمي النمنم، التي جاءت بمثابة تذكير بأهمية مهرجان القاهرة السينمائي في زمن حاول فيه الإرهاب تسديد ضربات ضد الوطن وضد الثقافة وضد الفن والمجتمع بأسره. كذلك برزت كلمة من القلب ألقاها الممثل ماجد الكدواني حين تسلم جائزة الاحتفاء به من يدي الممثلة ليلى علوي. كذلك بدا الممثل حسين فهمي فصيحاً وطليقاً ومناسباً في كلمته وتعليقاته.
في الخارج على ذلك البساط الأحمر كان التنويع في الأسئلة أمراً نادراً. السؤال الأول كان - بطبيعة الحال - حول رأي الضيف في هذه المناسبة. والثاني كان رأيه في قيام المحطة التلفزيونية dmc بتنظيم الحفل، والثالث كان رأي الضيف بإهداء الدورة إلى الفنانة شادية التي تربض في المستشفى مريضة.
لم تخرج الإجابات عن نطاقها المتوقع. المناسبة «عظيمة» و«دولية» والتنظيم «على مستوى عالٍ» و«الفنانة شادية هي قمة في الإبداع». طبعاً كل هذه العبارات لها نصيب من الصحة، لكن تكرارها كان نتيجة أن الطرح كان مبرمجاً بأسئلة مكررة.
في الخارج، كما على المنصّـة، لم يكن سهلاً تفويت العبارات الرنانة. الحفل بضخامته والتنظيم الناجح في مجمله ساعدا في إلهام المتحدثين بث إعجابهم المشروع، ولو باستخدام عبارات إعلاء شأن يعلم المتبصر أنها مغالاة كالقول، مثلاً وعلى نحو واثق، أن مهرجان القاهرة هو «أهم مهرجان في العالم»!
تعثر فيلم الافتتاح
كل هذا قبل أن يدعو المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الحضور لمشاهدة فيلم الافتتاح «الجبل بيننا»، فيلمه الهوليوودي الأول له بعد سلسلة أفلامه الأوروبية التمويل والعربية القضايا السابقة. هنا بدأ الهرج والمرج واختل التوازن السابق وطفح الكيل بما ناء به.
فبعد نحو عشرين دقيقة أوقف المخرج العرض احتجاجاً على رداءة الصوت والصورة، وتقدم من الحضور باعتذار أعلن فيه هذا السبب وقال: إنه كان حرياً بإدارة المهرجان إجراء تجربة تقنية قبل الحفل للتأكد من سلامة العرض. ويتردد أن بعض المشاركين اقترح على المخرج استكمال العرض بعدما برر سوء النسخة المعروضة، لكنه رفض.
هذا الحدث يعني أن الدورة التاسعة والثلاثين انطلقت بلا فيلم افتتاح وذلك للمرة الأولى، على الأرجح، في تاريخه. ويعني أن الافتتاح بأكمله جاء ناقصاً ذلك الجزء المهم والمعبّر بعد حذفه. هاني أبو أسعد لم يكن مخطئاً، خصوصا أنه حاول تفادي إلغاء العرض عندما بحث عن إدارة المهرجان فوجدها من بين تلك التي سارعت بمغادرة الصالة صوب الصالة الأخرى، حيث نصبت وليمة العشاء.
لم يتح لنا بعد مقابلة مسؤول لتبرير ما حدث، وليس بالإمكان هنا إلا النظر إلى أعمال المهرجان وفعالياته كتعويض.
لم تكن المسألة في هذا الحفل الذي أطلق عروض المهرجان الكثيفة منذ اليوم التالي له، وفي عدد من صالات دار الأوبرا، استمرارية تجاهل أهل الفن ونجومه للمهرجان. كثيرون ممن لبوا الدعوة للحضور فعلوا ذلك؛ لأنهم لبوا الدعوات السابقة قبل أن يغيبوا عن النشاطات المختلفة اللاحقة. لكن أكثر منهم من حضر لأول مرّة ما ملأ القاعة بالكثير من وجوه التمثيل والمخرجين والمنتجين.
يقول أحد المعلقين: إن السبب وراء هذه الهجمة «النجومية» أن المحطة التلفزيونية dmc هي التي وجهت الدعوات، والممثلون (ذكوراً وإناث) يهابون رفضها لأنها بمثابة العلاقة التي تستطيع أن تثمر عن أعمال مشتركة بين الفنانين والمحطة. لكن هذا مستبعد فعلياً، والأقرب إلى الصواب أن سبب ارتفاع نسبة الحضور يعود إلى أن أهل السينما أدركوا منذ البداية أن الحفل سيكون زاخراً وحافلاً وجديداً ومختلفاً عن الحفلات السابقة. هذا لا يلغي أن الدعوة وردت هذه المرّة من طرف آخر وليس من المهرجان ذاته. طرف له شعبية أوسع وعلاقات وطيدة وأكثر تميّـزاً.
ما يدفع إلى الإعجاب هو ذلك الحماس الذي تبدّى بين الحضور. بعيداً عن روح المغالاة وعما حدث بعد الخطب، فإن العاطفة الجياشة التي عبرت عنها كلمات حسين فهمي، وهو رئيس لجنة التحكيم هذا العام، ويسرا، الرئيس الشرفي لهذه الدورة، وهند صبري، وليلى علوي وبعض الحضور الآخرين تكشف، إلى جانب حب الوطن والفخر بالانتماء إليه، عن تمنيات أن يصبح المهرجان محطة عالمية أولى.
هنا تكمن أحد أهم التحديات التي عانى منها المهرجان سابقاً، ولا تزال قائمة إلى اليوم.
طلب نيكول كيدمان
يحتاج مهرجان القاهرة إلى إعادة صياغة جديدة تتضمن رؤية لكيف يمكن له أن يتميّـز عن سواه. لا يهم أنه المهرجان العربي الوحيد المنتمي إلى «مؤسسة FIAPF» (تأسست سنة 1933 لتعني بشؤون الإنتاج والتنسيق بين المهرجانات ورعاية الحقوق الفنية)؛ فذلك فعل إداري يضمه بصفته واحداً من 15 مهرجاناً دولياً، بعضها متوسط الحجم («تالن» الأستوني و«وورسو» البولندي)، وبعضها من تلك الكبيرة («كان» و«برلين» و«فينيسيا»). لكن لا أثر لهذا الانتماء إلى ذلك البدن الإداري على قيمة أي مهرجان وقوّته أو انفراده.
على الرغم من ذلك، فإن الأسطوانة التي لا تتوقف عن اعتبار أن مهرجان القاهرة هو فريد وعالمي لمجرد أنه منتمٍ إلى تلك المؤسسة. بينما ما يحفل به الحاضر وما يبقى للتاريخ هو القيمة المتمثلة فيما استطاع حشده من أفلام وبرامج.
في هذا النطاق، يمكن لمهرجان القاهرة أن يلغي بعض برامجه المتوارثة والإتيان بمسابقات أو بتظاهرات جديدة في هذا المهرجان. يمكن له أن يقلب الطاولة رأساً على عقب ويفاجئ أضخم المهرجانات العالمية بإنشاء أقسام غير متداولة لم يؤمّها مهرجان من قبل. تبعاً لذلك؛ يزداد حجم الشعور بالمهرجان، وبالتالي حجم الاهتمام الإعلامي له.
الممثلة الأجنبية الوحيدة التي قبلت الدعوة هذا العام هي إليزابيث هيرلي، وهذا يسجل لها بلا ريب، لكن هيرلي ليست نجمة (تحتل المرتبة الـ1648 بين عداد الممثلين حسب موقع pro - imdv)، ولو أن لديها حضوراً لا بأس بنجاحه. وسبب الغياب الكاسح لنجوم السينما العالمية هي الميزانية المحدودة التي وصلت هذا العام إلى 13 مليون جنيه، عدا دعم مؤسسة dmc الذي وظفته المحطة التلفزيونية لحفلتي الافتتاح والختام، وعدم قدرة المهرجان تحمّـل ما يشترط الممثل العالمي دفعه لقاء حضوره. وكشف مدير المهرجان الفني يوسف شريف رزق الله عن أن ميزانية جلب نيكول كيدمان، التي وافقت على الحضور إذا ما توفرت شروطها، بلغت نصف مليون دولار أي أكثر من نصف الميزانية الإجمالية للمهرجان.
إذا ما كان الحال على هذا النحو، فلِمَ تعويد الإعلام المصري أو العربي على ترقب دعوة هذا الممثل أو النجم أو ذاك؟ لِمَ لا يمكن التخلص من عبء رفع وخفض سقف التوقعات في هذا المجال.
الحال أن هناك حدوداً لا يمكن للمهرجان تجاوزها بسبب طبيعته وميزانيته، ولوجود عشرات المهرجانات الأخرى التي تلعب الدور نفسه، ونصفها ينجز المنشود له في هذا المجال. والأوان آن للحد من التوقعات الكبيرة، والعمل على التفاصيل الصغيرة التي قد تطيح بالجهود المبذولة، مثل ألا يتم عرض فيلم الافتتاح، على من تبقى من الجمهور بعدما غادر الكثيرون الصالة بسبب الوليمة، في موعده وبشروطه التنقية الصحيحة.
السيناريست والمنتج محمد حفظي يشارك هذا الرأي، ويقول معلقاً: «ما حدث خيبة أمل كبيرة. افتتاح مهرجان سينمائي كبير بجمهور يبدو أنه يحب الأضواء ويكره السينما».
وأضاف معلقاً على ما حدث مع المخرج هاني أبو أسعد: «كل أسفي لمخرج فيلم الافتتاح الذي لم يجد حتى منظمي المهرجان ليبقوا معه في الصالة أثناء عرض الفيلم».
القائمون على المهرجان، بدءاً من الوزارة ومروراً برئيسته ماجدة واصف، لا تنقصهم الخبرة ولا الرغبة العارمة في النجاح، ولا حتى البذل في سبيل ذلك. لذلك؛ سيكون من السهل اعتماد تغييرات تبتعد عن الطموحات المتعذرة وتتعامل والواقع.