نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريراً لكارلوتا غال يكشف بكثير من التفصيل تطور العلاقات بين السلطات الحاكمة في إيران وحركة طالبان الأفغانية. وتشرح الكاتبة كيف انقلب العداء المستحكم بين نظام الولي الفقيه في طهران والحركة الأصولية المتشددة، التي سيطرت على أفغانستان حتى أطاح بها التدخل الأميركي في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، إلى تعاون على مستويات التدريب والتمويل والتسليح. ويظهر في سياق الشرح كيف أن «سيناريو» أفغانستان يشبه ما حدث في العراق بعد 2003، عندما لم تعارض طهران الغزو الأميركي، لكنها أخذت تسعى لاستنزاف القوات الأميركية وابتزازها بمجرد أن حققت واشنطن لها مبتغاها بإسقاطها نظام صدام حسين وتسليمها السلطة في بغداد للقوى المحسوبة على إيران والمدعومة منها.
يتذكر ضابط شرطة في مدينة فرح، عاصمة ولاية فرح الحدودية الأفغانية المتاخمة لإيران، تلقيه تحذيراً من رئيسه مضمونه أن مئات من مسلحي حركة طالبان على وشك مهاجمة نقطته. وخلال نصف ساعة اجتاح مئات المسلحين الحقول المحيطة بنقطة الشرطة، فيما غدا حصاراً طال لثلاثة أسابيع في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ولم يتيسر رفع الحصار إلا بتدخل الطيران الحربي الأميركي. وبعد جلاء غبار الموقعة تبين لقوات الأمن الأفغاني أن الجهة وراء الهجوم كانت... إيران!
فوفق الاستخبارات الأفغانية، كان هناك 4 من كبار الكوماندوز الإيرانيين بين عشرات القتلى في العملية وشيّعت جنازاتهم في إيران. كذلك نقلت جثامين عدد من قتلى طالبان وأيضاً كثير من الجرحى عبر الحدود إلى داخل إيران، حيث كانوا قد جُندوا ودُرّبوا.
هجوم فرح كان منسقاً مع هجمات على عدة مدن أفغانية، ضمن أقوى محاولة تشنها طالبان منذ 2001 لاستعادة السلطة. غير أنه كان أيضاً جزءاً من حملة إيرانية متصاعدة لملء الفراغ الذي تتركه القوات الأميركية المغادرة، وأضخم اندفاعة لإيران داخل أفغانستان منذ عقود.
وحقاً بينما تستعد واشنطن لمغادرة أرض أطول حروبها، ثمة قوى أخرى تظهر في أفغانستان. وصحيح أن المملكة العربية السعودية وباكستان تظلان القوتين الأبرز، لكن إيران تسعى الآن لعرض عضلاتها وتحويل الوضع لصالحها، وبالأخص بعدما أراحت واشنطن إيران من عدويها اللدودين على حدودها: حكم طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق.
وبدأب وصمت عملت طهران وتعمل على التمدد، فحوّلت العراق إلى «دولة تابعة» بينما تسعى على الساحة الأفغانية لأن تضمن أن أي حكومة تقوم هناك بعد مغادرة القوات الأجنبية لن تهدد مصالحها، إن لم تكن صديقة أو حليفة.
من الوسائل التي تتبعها إيران اليوم مد يد العون إلى عدوها السابق، طالبان، لكي تغدو قوة تابعة لها في أفغانستان، ولا سيما على امتداد الحدود المشتركة بطول 500 ميل. وفي هذا السياق تندرج محاولاتها الجريئة للسيطرة على الولايات الحدودية، مع أن بعض المواطنين المحليين يشككون بنياتها.
دعم إيراني سخي
الواقع أن إيران نفذت عمليات مكثفة لكنها ظلت بمعظمها سرّية حتى الآن. لقد وفرت لحركيي طالبان المحليين التدريب والتمويل والتسليح، ووفّرت لقادتها ملاذات آمنة ووقوداً لمركباتهم. بل وعززت صفوف الحركة بمجندين من اللاجئين السنّة الأفغان إليها. ووفق محافظ ولاية فرح الجديد محمد عارف شاه جيهان، وهو مسؤول استخبارات رفيع، فإن «أقوى فصائل طالبان حالياً طالبانيو إيران».
وبالنظر إلى أحداث الماضي تبدو هذه المعادلة غريبة بين جانبين، أحدهما شيعي والثاني سنّي، بل كادت إيران تخوض حرباً ضد طالبان بعد مقتل 11 دبلوماسياً إيرانياً وصحافياً واحداً داخل أفغانستان عام 1998.
وبعد ذلك دعمت طهران القوى المناوئة لطالبان، كما تعاملت بإيجابية مع التدخل الأميركي الذي أزاح حكم طالبان. ولكن مع توسع عمليات حلف شمال الأطلسي (ناتو) في أفغانستان، غيّر الإيرانيون استراتيجيتهم، وبدأوا بصمت وهدوء يساندون طالبان لاستنزاف الأميركيين وحلفائهم وجعل بقائهم مكلفاً. وبالتالي، ما عادت طهران ترى في طالبان «أهون الشرين» فحسب، بل قوة وكيلة أو تابعة.
ومع أن السفير الإيراني في كابل محمد رضا بهرامي ينفي دعم حكومته لطالبان، فإن وزارة الخارجية الإيرانية وقوات «الحرس الثوري» تشكلان وجهين متكاملين لسياسة طهران: الأولى توظف في النفوذ الاقتصادي والثقافي، بينما الثانية ترمي بثقلها التخريبي وراء الكواليس. ووفق مسؤولين أفغان أرسلت إيران فرق اغتيال، وجنّدت جواسيس، واخترقت الشرطة ودوائر الحكومة، ولا سيما في غرب البلاد. بل حتى الجنرال البريطاني السير ديفيد ريتشارد كبير قادة «ناتو» في أفغانستان اكتشف أن إيران جنّدت مترجمه الخاص العريف دانيال جيمس، المزدوج الجنسية (بريطاني - إيراني)، بعد ضبط رسائله المشفرة إلى الملحق العسكري الإيراني في كابل عام 2006.
لقد استفادت إيران من حروب الأميركيين الطويلة المكلفة التي أراحتها من خصومها الإقليميين، إلا أنها ترى أن بقاء الأميركيين ما عاد يخدم مصالحها، ولهذا تعمل على استنزافهم.
التوسّع الطموح
عمق علاقات إيران مع طالبان ظهر إلى العلن بصورة مفاجئة عندما قصفت «درون» (طائرة من دون طيار) أميركية سيارة أجرة على طريق صحراوي بجنوب غربي باكستان فقتل السائق والراكب الوحيد معه. وما كان ذلك الراكب سوى الملا أختر محمد منصور، قائد طالبان!
كانت تلك المرة الأولى التي ينفذ فيها الأميركيون غارة «درون» في إقليم بلوشستان الباكستاني، لكن الأهم أن الملا منصور كان عائداً يومذاك من رحلة إلى إيران التقى خلالها مسؤولين أمنيين إيرانيين وروساً.
إيران وروسيا أقرتا أنهما عقدتا لقاءات مع طالبان، لكنهما زعمتا أنها كانت فقط من أجل تبادل المعلومات. غير أن مجرد كون قائد طالبان شخصياً قد طوّر علاقات مع الإيرانيين والروس، فهذا أمر يشكل نقلة مذهلة في تحالفات حركة أصولية متشدّدة كطالبان.
هنا، في ظل تغير الأوضاع، كان الملا منصور عمل على تنويع مصادر التمويل والتسليح منذ تولى قيادة الحركة عام 2013. ووفق ما كشفه جواز سفره فإنه قام بـ13 رحلة إلى دبي بدولة الإمارات ورحلة إلى البحرين وما لا يقل عن رحلتين إلى إيران.
وحسب محلل عسكري أفغاني، تعامل الملا منصور مع الإيرانيين منذ عقد التسعينات، وتقاطعت مصالح الجانبين في موضوع الأفيون، ذلك أن أفغانستان أكبر مصدِّر في العالم للأفيون، وإيران هي الممر الأبرز إلى أسواق العالم. ومع أن حرس الحدود الإيرانيين كانوا يواجهون المهربين عبر الحدود، فإن كلاً من «الحرس الثوري» الإيراني وطالبان كانوا مستفيدين من هذه التجارة غير المشروعة عبر فرض إتاوات على المهربين.
بروس رايدل، المحلل الاستخباراتي الأميركي السابق والزميل في معهد بروكينغز، يرى أن الغاية الأساسية من زيارات الملا منصور لإيران كانت «التنسيق التكتيكي»، إذ إنه في عام 2016 كانت طالبان تعد لهجمات في 8 ولايات أفغانية منها فرح. وسهلت إيران لقاءاته مع مسؤولين روس من أجل الحصول على أموال وأسلحة من موسكو لحركته.
ولكن باكستان كانت على علم تام بعلاقة الملا منصور بالإيرانيين، وفق قيادي سابق منشق عن طالبان، قال أيضاً إنه في زيارته الأخيرة إلى إيران ذهب للقاء شخصية رفيعة (قد تكون المرشد الأعلى علي خامنئي) ناسباً المعلومات إلى دوائر لصيقة بالقيادي الراحل.
من جهة أخرى، يقول حاجي آغا لالاي، المستشار الرئاسي ونائب محافظ ولاية قندهار، أن باكستان أرادت حقاً أن يتقاسم معها آخرون الأعباء السياسية والمالية للحركة فشجعت تطوير العلاقة مع إيران.
وحسب لالاي، مكث الملا منصور هناك أسبوعاً التقى خلاله في مدينة زاهدان بمسؤول روسي رفيع، ويرجح أنه فاوضه على زيادة الدعم الإيراني والروسي للحركة. ولكن يظهر أن مثل هذه الخطوة تجاوزت ما هو مسموح به، وباتت تهدد نفوذ باكستان على الحركة.
أيضاً كان الأميركيون على علم بما يفعله الملا منصور قبل تصفيته، بما في ذلك زياراته لإيران. وكانوا يتبادلون المعلومات مع الباكستانيين، وفق سيث دونز، من مؤسسة «راند كوربوريشن». ولقد حصلت واشنطن على دعم إسلام آباد لاستهدافه. أما العقيد أحمد مسلم حياة، الملحق العسكري الأفغاني السابق في لندن، فأعرب عن اعتقاده أن تصفية قائد طالبان بعيد عودته من إيران كان بمثابة رسالة... «كانوا يريدون فتح فجوة بين إيران وطالبان».
هرات... «إيران الصغرى»
على صعيد آخر، ليس هناك دليل أوضح على قوة الحضور الإيراني في أفغانستان من الجو العام في مدينة هرات، بشمال غربي البلاد على مقربة من الحدود الإيرانية.
نحو مليوني أفغاني كانوا قد لجأوا إلى إيران إبان الغزو السوفياتي لبلادهم، واليوم يعيش ويعمل نحو ثلاثة ملايين أفغاني داخل الأراضي الإيرانية، وتشكل هرات - الملقبة بـ«إيران الصغرى» - المعبر الرئيس بين البلدين الحاليين. ثم إن سكان هرات يتكلمون بلكنات إيرانية، وفيها مدارس وكليات ومتاجر كثيرة إيرانية، إلا أنه على الرغم من الثقافات والمصالح التجارية المشتركة فإن البعد السياسي والأمني ملحوظ وملموس. فالمدينة، وفق مسؤولين محليين، تعج بالجواسيس وفرق الاغتيال، وشهدت السنوات الأخيرة العديد من التصفيات الجسدية وجرائم الخطف. وحسب مصادر في الشرطة، تمول إيران جماعات متطرفة وزمر إجرامية، ويذهب عمدة سابق للمدينة إلى حد القول إنها تتبنى جماعات إرهابية أيضاً.
وحسب المصادر المحلية «تعمل إيران في الظل... وهدفها إثارة المشكلات والفتن بين القوى المحلية، وترجيح كفة بعضها على البعض الآخر عبر الرشى أو الاختراق الأمني أو العنف المباشر».
وإنها تساند حالياً جماعات مناوئة لحكومة كابل في عدد من ولايات غرب أفغانستان، تحاول الشرطة الأفغانية رغم نقص الموارد تفكيك شبكاتها.
سلام أم حرب بالوكالة؟
لا شك أن اغتيال الملا منصور أطاح بحلقة مهمة تصل بين إيران وحركة طالبان، إلا أنه أسهم أيضاً في زعزعة كيان الحركة وتسبب بحدوث عدة انشقاقات، فاتحاً عدة مجالات لقوى خارجية لكي تعبث بأوضاعها.
القائد الطالباني الراحل كان قد أعرب ذات يوم عن تبرمه من دور باكستان في أفغانستان قائلاً: «نحن كلنا نعلم أن هذه أصبحت حرب باكستان وليست حرب أفغانستان. باكستان ما أرادت في يوم من الأيام أن يعم السلام أفغانستان». لكن السؤال المطروح الآن: «هل تريد إيران السلام لأفغانستان؟».
بحجة التهديد الذي يشكله تنظيم داعش، قد تختار طهران، بدعم من موسكو، تأجيج الحرب بالوكالة الحرب المستعرة في أفغانستان ما يمكن أن يهدد «حكومة الوحدة الوطنية» الهشة فيها. وما يمكن أيضاً أن يشجع على زيادة فرص السلام، كما حصل في السنوات الأولى بعد 2001، لا لشيء إلا من أجل ضمان سلامة بعض المناطق الحدودية الإيرانية.
البعد السوري
حتى الساعة، كما يقول بعض المسؤولين الأفغان الكبار «اتفقت مصالح الإيرانيين والروس على غرار ما هو حاصل في سوريا». لكن آخرين يتوجسون خيفة من أن التجربة الحالية بينهما في سوريا قد تشجع طهران وموسكو على بناء شراكة تهدف إلى إيذاء أميركا داخل أفغانستان. ومن ثم، بينما تعد واشنطن العدة لسحب قواتها، فإن التنافس يشتد على كسب النفوذ على طالبان.
محمد عارف شاه جيهان يقول معلقاً: «باكستان تدعم طالبان علناً وبصراحة، لكن روسيا وإيران تساعدانها بصورة غير مباشرة... وقد نصل إلى مرحلة يغدو فيهما تدخلهما علنياً، وعلينا ألا نعطيهما الفرصة، وإلا فسنرى أفغانستان نهباً لتنافس هاتين الدولتين».
من ناحية ثانية، يحذر وزير الخارجية الأفغاني السابق رانجين دادفار سبانتا، من أن أفغانستان تواجه خطر جرها إلى نزاع أوسع ذي بعد مذهبي سنّي - شيعي، ويرى ضرورة بقائها خارج نزاع من هذا النوع لأنها بلد «هش».
وفي هذه الأثناء، ثمة انقسام في وجهات النظر حيال ما إذا كانت السلطات الحاكمة في إيران معادية لأفغانستان أم لا.
الدكتور عبد الله عبد الله، كبير المسؤولين التنفيذيين في أفغانستان، يقول عن العلاقة مع إيران: «هناك مستوى طيب من التفاهم. وما نسمعه حالياً أن اتصالاتها بطالبان تهدف إلى إقناعهم بسلوك مسار السلام بدلاً من العمليات المسلحة».
غير أن محمد آصف رحيمي، محافظ ولاية هرات، ينبه من أن سقوط ولاية فرح في أيدي طالبان، سيغدو غرب أفغانستان كله مفتوحاً أمامهم. ويتابع رحيمي أن العبث الإيراني بالمشهد الداخلي الأفغاني بلغ أخيراً حداً يهدد عموم البلاد بالسقوط تحت سطوة طالبان، وليس فقط ولاية هراة.
هذا الأمر، وفق تيمور شاران، المحلل السابق والمسؤول الحكومي الأفغاني حالياً، «يمكن تجنبه». ثم يضيف شاران: «الحقيقة أن أميركا أسهمت بخلق الفراغ الحالي، وهذا الفراغ شجع الدول الأخرى على التدخل. لقد منحت الحالة السورية إيران وروسيا كثيراً من الثقة بالنفس، وهو ما تظهرانه اليوم في أفغانستان».
* خدمة «نيويورك تايمز»