إيران تراهن على «طالبان» وتدعمها بالتدريب والتمويل والتسليح

بعيداً عن التناقض المذهبي... وإطاحة واشنطن بحكم الحركة في أفغانستان

عناصر من حركة طالبان في مدينة هرات الأفغانية (أ.ب)
عناصر من حركة طالبان في مدينة هرات الأفغانية (أ.ب)
TT
20

إيران تراهن على «طالبان» وتدعمها بالتدريب والتمويل والتسليح

عناصر من حركة طالبان في مدينة هرات الأفغانية (أ.ب)
عناصر من حركة طالبان في مدينة هرات الأفغانية (أ.ب)

نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريراً لكارلوتا غال يكشف بكثير من التفصيل تطور العلاقات بين السلطات الحاكمة في إيران وحركة طالبان الأفغانية. وتشرح الكاتبة كيف انقلب العداء المستحكم بين نظام الولي الفقيه في طهران والحركة الأصولية المتشددة، التي سيطرت على أفغانستان حتى أطاح بها التدخل الأميركي في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، إلى تعاون على مستويات التدريب والتمويل والتسليح. ويظهر في سياق الشرح كيف أن «سيناريو» أفغانستان يشبه ما حدث في العراق بعد 2003، عندما لم تعارض طهران الغزو الأميركي، لكنها أخذت تسعى لاستنزاف القوات الأميركية وابتزازها بمجرد أن حققت واشنطن لها مبتغاها بإسقاطها نظام صدام حسين وتسليمها السلطة في بغداد للقوى المحسوبة على إيران والمدعومة منها.
يتذكر ضابط شرطة في مدينة فرح، عاصمة ولاية فرح الحدودية الأفغانية المتاخمة لإيران، تلقيه تحذيراً من رئيسه مضمونه أن مئات من مسلحي حركة طالبان على وشك مهاجمة نقطته. وخلال نصف ساعة اجتاح مئات المسلحين الحقول المحيطة بنقطة الشرطة، فيما غدا حصاراً طال لثلاثة أسابيع في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ولم يتيسر رفع الحصار إلا بتدخل الطيران الحربي الأميركي. وبعد جلاء غبار الموقعة تبين لقوات الأمن الأفغاني أن الجهة وراء الهجوم كانت... إيران!
فوفق الاستخبارات الأفغانية، كان هناك 4 من كبار الكوماندوز الإيرانيين بين عشرات القتلى في العملية وشيّعت جنازاتهم في إيران. كذلك نقلت جثامين عدد من قتلى طالبان وأيضاً كثير من الجرحى عبر الحدود إلى داخل إيران، حيث كانوا قد جُندوا ودُرّبوا.
هجوم فرح كان منسقاً مع هجمات على عدة مدن أفغانية، ضمن أقوى محاولة تشنها طالبان منذ 2001 لاستعادة السلطة. غير أنه كان أيضاً جزءاً من حملة إيرانية متصاعدة لملء الفراغ الذي تتركه القوات الأميركية المغادرة، وأضخم اندفاعة لإيران داخل أفغانستان منذ عقود.
وحقاً بينما تستعد واشنطن لمغادرة أرض أطول حروبها، ثمة قوى أخرى تظهر في أفغانستان. وصحيح أن المملكة العربية السعودية وباكستان تظلان القوتين الأبرز، لكن إيران تسعى الآن لعرض عضلاتها وتحويل الوضع لصالحها، وبالأخص بعدما أراحت واشنطن إيران من عدويها اللدودين على حدودها: حكم طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق.
وبدأب وصمت عملت طهران وتعمل على التمدد، فحوّلت العراق إلى «دولة تابعة» بينما تسعى على الساحة الأفغانية لأن تضمن أن أي حكومة تقوم هناك بعد مغادرة القوات الأجنبية لن تهدد مصالحها، إن لم تكن صديقة أو حليفة.
من الوسائل التي تتبعها إيران اليوم مد يد العون إلى عدوها السابق، طالبان، لكي تغدو قوة تابعة لها في أفغانستان، ولا سيما على امتداد الحدود المشتركة بطول 500 ميل. وفي هذا السياق تندرج محاولاتها الجريئة للسيطرة على الولايات الحدودية، مع أن بعض المواطنين المحليين يشككون بنياتها.

دعم إيراني سخي
الواقع أن إيران نفذت عمليات مكثفة لكنها ظلت بمعظمها سرّية حتى الآن. لقد وفرت لحركيي طالبان المحليين التدريب والتمويل والتسليح، ووفّرت لقادتها ملاذات آمنة ووقوداً لمركباتهم. بل وعززت صفوف الحركة بمجندين من اللاجئين السنّة الأفغان إليها. ووفق محافظ ولاية فرح الجديد محمد عارف شاه جيهان، وهو مسؤول استخبارات رفيع، فإن «أقوى فصائل طالبان حالياً طالبانيو إيران».
وبالنظر إلى أحداث الماضي تبدو هذه المعادلة غريبة بين جانبين، أحدهما شيعي والثاني سنّي، بل كادت إيران تخوض حرباً ضد طالبان بعد مقتل 11 دبلوماسياً إيرانياً وصحافياً واحداً داخل أفغانستان عام 1998.
وبعد ذلك دعمت طهران القوى المناوئة لطالبان، كما تعاملت بإيجابية مع التدخل الأميركي الذي أزاح حكم طالبان. ولكن مع توسع عمليات حلف شمال الأطلسي (ناتو) في أفغانستان، غيّر الإيرانيون استراتيجيتهم، وبدأوا بصمت وهدوء يساندون طالبان لاستنزاف الأميركيين وحلفائهم وجعل بقائهم مكلفاً. وبالتالي، ما عادت طهران ترى في طالبان «أهون الشرين» فحسب، بل قوة وكيلة أو تابعة.
ومع أن السفير الإيراني في كابل محمد رضا بهرامي ينفي دعم حكومته لطالبان، فإن وزارة الخارجية الإيرانية وقوات «الحرس الثوري» تشكلان وجهين متكاملين لسياسة طهران: الأولى توظف في النفوذ الاقتصادي والثقافي، بينما الثانية ترمي بثقلها التخريبي وراء الكواليس. ووفق مسؤولين أفغان أرسلت إيران فرق اغتيال، وجنّدت جواسيس، واخترقت الشرطة ودوائر الحكومة، ولا سيما في غرب البلاد. بل حتى الجنرال البريطاني السير ديفيد ريتشارد كبير قادة «ناتو» في أفغانستان اكتشف أن إيران جنّدت مترجمه الخاص العريف دانيال جيمس، المزدوج الجنسية (بريطاني - إيراني)، بعد ضبط رسائله المشفرة إلى الملحق العسكري الإيراني في كابل عام 2006.
لقد استفادت إيران من حروب الأميركيين الطويلة المكلفة التي أراحتها من خصومها الإقليميين، إلا أنها ترى أن بقاء الأميركيين ما عاد يخدم مصالحها، ولهذا تعمل على استنزافهم.

التوسّع الطموح
عمق علاقات إيران مع طالبان ظهر إلى العلن بصورة مفاجئة عندما قصفت «درون» (طائرة من دون طيار) أميركية سيارة أجرة على طريق صحراوي بجنوب غربي باكستان فقتل السائق والراكب الوحيد معه. وما كان ذلك الراكب سوى الملا أختر محمد منصور، قائد طالبان!
كانت تلك المرة الأولى التي ينفذ فيها الأميركيون غارة «درون» في إقليم بلوشستان الباكستاني، لكن الأهم أن الملا منصور كان عائداً يومذاك من رحلة إلى إيران التقى خلالها مسؤولين أمنيين إيرانيين وروساً.
إيران وروسيا أقرتا أنهما عقدتا لقاءات مع طالبان، لكنهما زعمتا أنها كانت فقط من أجل تبادل المعلومات. غير أن مجرد كون قائد طالبان شخصياً قد طوّر علاقات مع الإيرانيين والروس، فهذا أمر يشكل نقلة مذهلة في تحالفات حركة أصولية متشدّدة كطالبان.
هنا، في ظل تغير الأوضاع، كان الملا منصور عمل على تنويع مصادر التمويل والتسليح منذ تولى قيادة الحركة عام 2013. ووفق ما كشفه جواز سفره فإنه قام بـ13 رحلة إلى دبي بدولة الإمارات ورحلة إلى البحرين وما لا يقل عن رحلتين إلى إيران.
وحسب محلل عسكري أفغاني، تعامل الملا منصور مع الإيرانيين منذ عقد التسعينات، وتقاطعت مصالح الجانبين في موضوع الأفيون، ذلك أن أفغانستان أكبر مصدِّر في العالم للأفيون، وإيران هي الممر الأبرز إلى أسواق العالم. ومع أن حرس الحدود الإيرانيين كانوا يواجهون المهربين عبر الحدود، فإن كلاً من «الحرس الثوري» الإيراني وطالبان كانوا مستفيدين من هذه التجارة غير المشروعة عبر فرض إتاوات على المهربين.
بروس رايدل، المحلل الاستخباراتي الأميركي السابق والزميل في معهد بروكينغز، يرى أن الغاية الأساسية من زيارات الملا منصور لإيران كانت «التنسيق التكتيكي»، إذ إنه في عام 2016 كانت طالبان تعد لهجمات في 8 ولايات أفغانية منها فرح. وسهلت إيران لقاءاته مع مسؤولين روس من أجل الحصول على أموال وأسلحة من موسكو لحركته.
ولكن باكستان كانت على علم تام بعلاقة الملا منصور بالإيرانيين، وفق قيادي سابق منشق عن طالبان، قال أيضاً إنه في زيارته الأخيرة إلى إيران ذهب للقاء شخصية رفيعة (قد تكون المرشد الأعلى علي خامنئي) ناسباً المعلومات إلى دوائر لصيقة بالقيادي الراحل.
من جهة أخرى، يقول حاجي آغا لالاي، المستشار الرئاسي ونائب محافظ ولاية قندهار، أن باكستان أرادت حقاً أن يتقاسم معها آخرون الأعباء السياسية والمالية للحركة فشجعت تطوير العلاقة مع إيران.
وحسب لالاي، مكث الملا منصور هناك أسبوعاً التقى خلاله في مدينة زاهدان بمسؤول روسي رفيع، ويرجح أنه فاوضه على زيادة الدعم الإيراني والروسي للحركة. ولكن يظهر أن مثل هذه الخطوة تجاوزت ما هو مسموح به، وباتت تهدد نفوذ باكستان على الحركة.
أيضاً كان الأميركيون على علم بما يفعله الملا منصور قبل تصفيته، بما في ذلك زياراته لإيران. وكانوا يتبادلون المعلومات مع الباكستانيين، وفق سيث دونز، من مؤسسة «راند كوربوريشن». ولقد حصلت واشنطن على دعم إسلام آباد لاستهدافه. أما العقيد أحمد مسلم حياة، الملحق العسكري الأفغاني السابق في لندن، فأعرب عن اعتقاده أن تصفية قائد طالبان بعيد عودته من إيران كان بمثابة رسالة... «كانوا يريدون فتح فجوة بين إيران وطالبان».

هرات... «إيران الصغرى»
على صعيد آخر، ليس هناك دليل أوضح على قوة الحضور الإيراني في أفغانستان من الجو العام في مدينة هرات، بشمال غربي البلاد على مقربة من الحدود الإيرانية.
نحو مليوني أفغاني كانوا قد لجأوا إلى إيران إبان الغزو السوفياتي لبلادهم، واليوم يعيش ويعمل نحو ثلاثة ملايين أفغاني داخل الأراضي الإيرانية، وتشكل هرات - الملقبة بـ«إيران الصغرى» - المعبر الرئيس بين البلدين الحاليين. ثم إن سكان هرات يتكلمون بلكنات إيرانية، وفيها مدارس وكليات ومتاجر كثيرة إيرانية، إلا أنه على الرغم من الثقافات والمصالح التجارية المشتركة فإن البعد السياسي والأمني ملحوظ وملموس. فالمدينة، وفق مسؤولين محليين، تعج بالجواسيس وفرق الاغتيال، وشهدت السنوات الأخيرة العديد من التصفيات الجسدية وجرائم الخطف. وحسب مصادر في الشرطة، تمول إيران جماعات متطرفة وزمر إجرامية، ويذهب عمدة سابق للمدينة إلى حد القول إنها تتبنى جماعات إرهابية أيضاً.
وحسب المصادر المحلية «تعمل إيران في الظل... وهدفها إثارة المشكلات والفتن بين القوى المحلية، وترجيح كفة بعضها على البعض الآخر عبر الرشى أو الاختراق الأمني أو العنف المباشر».
وإنها تساند حالياً جماعات مناوئة لحكومة كابل في عدد من ولايات غرب أفغانستان، تحاول الشرطة الأفغانية رغم نقص الموارد تفكيك شبكاتها.

سلام أم حرب بالوكالة؟
لا شك أن اغتيال الملا منصور أطاح بحلقة مهمة تصل بين إيران وحركة طالبان، إلا أنه أسهم أيضاً في زعزعة كيان الحركة وتسبب بحدوث عدة انشقاقات، فاتحاً عدة مجالات لقوى خارجية لكي تعبث بأوضاعها.
القائد الطالباني الراحل كان قد أعرب ذات يوم عن تبرمه من دور باكستان في أفغانستان قائلاً: «نحن كلنا نعلم أن هذه أصبحت حرب باكستان وليست حرب أفغانستان. باكستان ما أرادت في يوم من الأيام أن يعم السلام أفغانستان». لكن السؤال المطروح الآن: «هل تريد إيران السلام لأفغانستان؟».
بحجة التهديد الذي يشكله تنظيم داعش، قد تختار طهران، بدعم من موسكو، تأجيج الحرب بالوكالة الحرب المستعرة في أفغانستان ما يمكن أن يهدد «حكومة الوحدة الوطنية» الهشة فيها. وما يمكن أيضاً أن يشجع على زيادة فرص السلام، كما حصل في السنوات الأولى بعد 2001، لا لشيء إلا من أجل ضمان سلامة بعض المناطق الحدودية الإيرانية.

البعد السوري
حتى الساعة، كما يقول بعض المسؤولين الأفغان الكبار «اتفقت مصالح الإيرانيين والروس على غرار ما هو حاصل في سوريا». لكن آخرين يتوجسون خيفة من أن التجربة الحالية بينهما في سوريا قد تشجع طهران وموسكو على بناء شراكة تهدف إلى إيذاء أميركا داخل أفغانستان. ومن ثم، بينما تعد واشنطن العدة لسحب قواتها، فإن التنافس يشتد على كسب النفوذ على طالبان.
محمد عارف شاه جيهان يقول معلقاً: «باكستان تدعم طالبان علناً وبصراحة، لكن روسيا وإيران تساعدانها بصورة غير مباشرة... وقد نصل إلى مرحلة يغدو فيهما تدخلهما علنياً، وعلينا ألا نعطيهما الفرصة، وإلا فسنرى أفغانستان نهباً لتنافس هاتين الدولتين».
من ناحية ثانية، يحذر وزير الخارجية الأفغاني السابق رانجين دادفار سبانتا، من أن أفغانستان تواجه خطر جرها إلى نزاع أوسع ذي بعد مذهبي سنّي - شيعي، ويرى ضرورة بقائها خارج نزاع من هذا النوع لأنها بلد «هش».
وفي هذه الأثناء، ثمة انقسام في وجهات النظر حيال ما إذا كانت السلطات الحاكمة في إيران معادية لأفغانستان أم لا.
الدكتور عبد الله عبد الله، كبير المسؤولين التنفيذيين في أفغانستان، يقول عن العلاقة مع إيران: «هناك مستوى طيب من التفاهم. وما نسمعه حالياً أن اتصالاتها بطالبان تهدف إلى إقناعهم بسلوك مسار السلام بدلاً من العمليات المسلحة».
غير أن محمد آصف رحيمي، محافظ ولاية هرات، ينبه من أن سقوط ولاية فرح في أيدي طالبان، سيغدو غرب أفغانستان كله مفتوحاً أمامهم. ويتابع رحيمي أن العبث الإيراني بالمشهد الداخلي الأفغاني بلغ أخيراً حداً يهدد عموم البلاد بالسقوط تحت سطوة طالبان، وليس فقط ولاية هراة.
هذا الأمر، وفق تيمور شاران، المحلل السابق والمسؤول الحكومي الأفغاني حالياً، «يمكن تجنبه». ثم يضيف شاران: «الحقيقة أن أميركا أسهمت بخلق الفراغ الحالي، وهذا الفراغ شجع الدول الأخرى على التدخل. لقد منحت الحالة السورية إيران وروسيا كثيراً من الثقة بالنفس، وهو ما تظهرانه اليوم في أفغانستان».
* خدمة «نيويورك تايمز»



هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
TT
20

هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)

لم تكن مجرد مزاعم أو بالونات اختبار أطلقها في مقابلات مع وسائل إعلام عبرية مطلع الشهر الحالي تلك التصريحات المفاجئة التي صدرت عن المفاوض الأميركي السابق لشؤون الرهائن آدم بوهلر، إذ قال إن حركة «حماس» اقترحت تبادل جميع الأسرى وهدنة من 5 إلى 10 سنوات تتخلى فيها عن سلاحها، وتكون الولايات المتحدة ودول أخرى ضامنة ألا تشكل الحركة تهديداً عسكرياً لإسرائيل، وألا تشارك في السياسة مستقبلاً، وضامنة أيضاً لعدم وجود أنفاق.

فقد أكدت مصادر داخل حركة «حماس» لـ«الشرق الأوسط» أن قيادة الحركة طرحت بالفعل هذه الفكرة، وليس لعشر سنوات فحسب، بل مع احتمال تمديدها أكثر من ذلك.

وشرح مصدر مسؤول أن الحركة منفتحة على هذا الخيار منذ قبل الحرب، وليس بعدها، لا بل إن الفكرة كانت مطروحة في سنوات سابقة، لكن إسرائيل هي من كانت ترفضها.

وأعادت المصادر التأكيد على أن قيادة الحركة لم تلتزم لأي طرف بأنها ستقبل بنزع سلاحها، وعدت هذا الأمر شأناً فلسطينياً، وأنه فقط يمكن ذلك في حالة واحدة، ضمن مسار سياسي واضح يسمح بإقامة دولة فلسطينية.

موقف تاريخي متكرّر

قبل نحو عام ونصف العام من اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة «حماس»، في الثاني والعشرين من مارس (آذار) 2004، ظهر ياسين أمام منزله في حي الصبرة جنوب مدينة غزة، مؤكداً أن حركته منفتحة على هدنة لمدة 10 سنوات أو أكثر، شريطة انسحاب إسرائيل من كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، وعدم التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي.

مسلحو «حماس» يسلمون رهينة إسرائيلية إلى أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمن اتفاق الهدنة (رويترز)
مسلحو «حماس» يسلمون رهينة إسرائيلية إلى أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمن اتفاق الهدنة (رويترز)

جاءت تصريحات ياسين لتؤكد جدلاً حول تصريحات سابقة له، تعود إلى عام 1997، عندما عاد إلى قطاع غزة عام بعد إطلاق سراحه من السجون الإسرائيلية إلى الأردن، وأكد خلالها استعداد حركته لهدنة تستمر عدة سنوات مع إسرائيل بعد هجمات «انتحارية» نفذتها حركته في داخل المدن الإسرائيلية.

وطرح ياسين لم يكن رأياً شخصياً، فقد تبنى عبد العزيز الرنتيسي الذي قاد «حماس» لنحو شهر بعد اغتيال ياسين، قبل أن تغتاله إسرائيل في أبريل (نيسان) 2004، النهج نفسه، وأكد موافقة حركته على هدنة طويلة الأمد تمتد لعشر سنوات، حتى أنه صرح بذلك لوكالة «رويترز» في السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2004، أي قبل اغتياله، واغتيال أحمد ياسين، وفي خضم سلسلة هجمات كانت تقودها الحركة من جانب، وأخرى تنفذها إسرائيل ضد قيادات الحركة في الضفة وغزة من جانب آخر.

ولم تتخل «حماس» عن الفكرة حتى بعدما تغيرت واشتد عودها وحكمت قطاع غزة الذي سيطرت عليه في عام 2007 بعد اشتباكات داخلية دامية مع السلطة الفلسطينية.

وتظهر تصريحات لقادة الحركة، بينهم رئيسا المكتب السياسي السابقان، خالد مشعل، وإسماعيل هنية، موافقة حركتهم على هدنة طويلة الأمد، تقابلها إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وعدم الاعتراف بإسرائيل.

لم تكن إقامة الدولة الفلسطينية ضمن رؤية «حماس» التي كانت تطرح على الدوام تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وتهاجم السلطة الفلسطينية التي وقعت اتفاقية أوسلو «الخيانية»، قبل أن تحول الحركة الأقوال إلى أفعال، وتغير عام 2017 ميثاقها الذي كان ينص على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1948، معلنةً التزامها بإقامة دولة على حدود 1967. وأكد الميثاق على التخلي عن باقي الأراضي الفلسطينية، وضمان عودة اللاجئين للأراضي التي هجروا منها، وأنه لا تخلٍ عن المقاومة المسلّحة واعتبارها مشروعة، إلى جانب التأكيد على عدم اعتراف الحركة بإسرائيل، وهو الموقف الذي عاد وتبناه إسماعيل هنية بشكل أكبر خلال توليه منصب رئيس وزراء حكومة «حماس» ورئاسة مكتبها السياسي لسنوات.

 

فلسطينيون في سوق أُقيمت في الهواء الطلق قرب أنقاض المباني التي دمرتها الضربات الإسرائيلية وسط هدنة مؤقتة في مخيم النصيرات بقطاع غزة (رويترز)
فلسطينيون في سوق أُقيمت في الهواء الطلق قرب أنقاض المباني التي دمرتها الضربات الإسرائيلية وسط هدنة مؤقتة في مخيم النصيرات بقطاع غزة (رويترز)

براغماتية العرض

حسب مصادر في الحركة، فإن البراغماتية التي أظهرتها «حماس» عندما غيّرت الميثاق وقبلت بدولة فلسطينية كانت جزءاً من رؤية الحركة ضرورة إقامة هدنة طويلة.

ولكن على الرغم من أن أي جولة من المفاوضات بين إسرائيل وحماس لم تصل إلى هدنة طويلة، ولكن إلى هدن مفتوحة، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن المسألة كانت على طاولة المفاوضات فعلاً.

وكان ضابط كبير في جهاز الموساد الإسرائيلي كشف لـ«القناة 13» العبرية، في ديسمبر (كانون الأول) 2013، خلال برنامج تناول الكواليس التي سبقت محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» آنذاك، في الأردن عام 1997، وهي التي أفضت في النهاية للإفراج عن الشيخ ياسين، أنه التقى بصفته مسؤولاً عن العلاقات مع الأردن، العاهل الأردني حينها الملك حسين، الذي نقل له طرحاً من «حماس» بالتوصل لهدنة طويلة الأمد تستمر 10 سنوات، توقف فيها الحركة هجماتها التفجيرية العنيفة في تلك الحقبة داخل المدن الإسرائيلية، لكن تل أبيب لم تأخذ ذلك على محمل الجد، وتجاهلت الرسالة التي علم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو آنذاك، بعد أيام من مصادقته على قرار تنفيذ العملية ضد مشعل.

وحسب الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي، أفرايم هليفي، في مقابلة سابقة مع «القناة 12»، فإن إسرائيل رفضت، قبل 7 سنوات من اغتيال ياسين، اقتراحاً بإعلان هدنة مع الحركة لمدة 30 عاماً، كان عرضه ياسين بنفسه عبر وساطة الأردن وجهات أخرى، وهو ما لم تؤكده الحركة أو أي مصادر أخرى.

فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على مرفأ الصيادين بدير البلح وسط قطاع غزة يوم السبت (أ.ف.ب)
فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على مرفأ الصيادين بدير البلح وسط قطاع غزة يوم السبت (أ.ف.ب)

ويبدو أن طرح «حماس» الذي لم يلق قبولاً جعل الحركة تطمع في تثبيته عبر مفاوضات مباشرة، وهو ما يفسر تصريح موسى أبو مرزوق حين كان نائباً لمشعل في رئاسة المكتب السياسي لحركة «حماس»، بعد حرب عام 2014 مقترحاً إجراء مفاوضات مع إسرائيل.

وظهر أبو مرزوق، وهو يقول في تصريحات متلفزة لفضائية «القدس» رداً على سؤال حول إمكانية إجراء «حماس» مفاوضات مع إسرائيل: «من الناحية الشرعية، لا غبار على مفاوضة الاحتلال، فكما تفاوضه بالسلاح تفاوضه بالكلام. أعتقد إذا بقي الحال على ما هو عليه فلا مانع من ذلك، لأنه أصبح شبه مطلب شعبي عند كل الناس، وقد تجد (حماس) نفسها مضطرة لهذا السلوك».

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن هذا الطرح، أي المفاوضات المباشرة مع إسرائيل حول اتفاق هدنة طويلة، كثيراً ما نُوقش داخل أطر الحركة المختلفة. وأشارت المصادر إلى أنه في بعض الفترات كان يتم طرح ذلك من قبل الوسطاء، كما في مفاوضات وقف إطلاق النار عام 2005، وعام 2014 بعد الحرب الإسرائيلية، ثم أعيد طرحه عام 2016، لكن من دون التوصل إلى أي نتائج.

وحسب المصادر، فإن سياسات الحركة وأفكارها ليست منغلقةً بل منفتحة وتطورت كثيراً مع الوقت.

فلسطينيون نازحون يسيرون عبر طريق موحل وسط الدمار في جباليا شمال قطاع غزة خلال الهدنة بين إسرائيل و«حماس» (أ.ف.ب)
فلسطينيون نازحون يسيرون عبر طريق موحل وسط الدمار في جباليا شمال قطاع غزة خلال الهدنة بين إسرائيل و«حماس» (أ.ف.ب)

الهدنة التي أصبحت ملحَّة

لكن إذا كانت رؤية الحركة تجاه هدنة طويلة ثبتت على ما هي عليه منذ عقود، فإن أسباب الهدنة ومسببات المطالبة بها تغيرت بعد السابع من أكتوبر 2023، فلا يمكن إخفاء حجم الضرر الذي تعرضت له الحركة في الحرب الحالية على قطاع غزة، وليس سراً أنها تلقت أكبر ضربة قاسية منذ تأسيسها على جميع الصعد.

وقال الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم إن حركة «حماس» تتميز بأنها حركة فتية ومتجددة في أفكارها، وقد غيَّرت سياساتها خلال حقبات زمنية مختلفة.

ويرى إبراهيم أن ذلك ميَّز «حماس» وجعلها متفوقة، لكن ذلك بقي صحيحاً حتى السابع من أكتوبر، عندما تغير كل شيء.

يؤكد إبراهيم على أن نتائج هجوم السابع من أكتوبر على الحركة نفسها وشعبيتها شكّلت عاملاً مهماً في قرارات الحركة المستقبلية على كافة الأصعدة.

وحسب إبراهيم، يمكن تلمس أول تأثير مهم في الحركة حتى الآن، وهو تنازلها عن حكم القطاع.

ولا تخفي «حماس»، وبشكل واضح، أنها ترغب في التخلي عن حكم غزة، في إطار المفاوضات الجارية حالياً، لكنها تشترط أن يكون ذلك ضمن وفاق وطني، وأن يتم إجراء انتخابات عامة فلسطينية في غضون عام، وهو أمر تنص عليه المبادرة المصرية التي تبنتها القمة العربية الأخيرة.

وإلى جانب التخلّي عن الحكم أعادت «حماس» طرح هدنة طويلة الأمد.

 

استراحة محارب ورصّ صفوف

قالت مصادر من داخل «حماس» إنه منذ طرح الشيخ أحمد ياسين هذه الفكرة، كانت تقوم بالأساس على وقف القتل، لكن اليوم هناك الكثير من الأهداف الأخرى وراء هذا الطرح، من بينها «أخذ نفس لإعادة ترتيب أوضاع الحركة بعد الحرب الحالية، وإجراء مراجعة شاملة، بما في ذلك العلاقة مع السلطة والفصائل وإسرائيل».

أفراد من حركة «حماس» في مخيم النصيرات مع بدء الهدنة مع إسرائيل (أ.ف.ب)
أفراد من حركة «حماس» في مخيم النصيرات مع بدء الهدنة مع إسرائيل (أ.ف.ب)

وأضافت المصادر: «ستحاول الحركة خلال ذلك التوصل لاتفاق وطني جامع مع جميع الفصائل لإعادة بناء منظمة التحرير والمجلس الوطني وانضمام الحركة إليهما».

وأقرت المصادر بأن «حماس» بعد الحرب الحالية بحاجة لتجديد دماء القيادة فيها، وكذلك العناصر المقاتلة، بعد أن فقدت الآلاف منهم في قطاع غزة.

وأوضحت المصادر: «خلال الحرب استمرت الحركة في سد الفراغات، وفق الظروف الميدانية، وضمن عمل منظم اتبعته وفق ما تنص عليه اللوائح الداخلية في تولي المناصب، لكن ما زلنا بحاجة لضبط الوضع».

وتابعت: «الحركة تأثرت بشدة، وهي بحاجة حالياً لهدنة طويلة الأمد من أجل إعادة بناء نفسها».

وخلال فترة وقف إطلاق النار التي امتدت في مرحلتها الأولى لـ58 يوماً فعلياً قبل أن تستأنف إسرائيل ضرباتها بقوة، استغلت الحركة وقف إطلاق النار المؤقت لإعادة ترتيب صفوفها ومحاولة إعادة هيكلة التنظيم سياسياً وحكومياً وعسكرياً.

وكانت الحركة حاولت إظهار قوتها أثناء إجراء صفقات التبادل، وأرسلت رسائل تحدٍ لإسرائيل.

لكن إسرائيل ردت بضربات متتالية باغتيال القيادات القائمة على محاولة إعادة ترتيب صفوفها، منهم أعضاء مكتب سياسي مثل محمد الجماصي، وياسر حرب، أو شخصيات حكومية مثل عصام الدعاليس، أو عسكرية مثل أحمد شمالي نائب قائد «لواء غزة» في «كتائب القسام» الذي كان يقود إعادة هيكلة الكتائب، علماً بأن «حماس» تعتبر «القسام» درة التاج.

 

مقاتلون جدد

خلال سنوات مضت عملت الحركة على تخريج جيل جديد من المقاتلين وضمهم لصفوفها، خصوصاً الجيل الفلسطيني الصاعد من الشباب الذين كانت تسعى دوماً لاستقطابهم وتعمل على تدريبهم عسكرياً، وشارك عدد منهم في هجوم السابع من أكتوبر، فيما استخدم آخرون لسد الفراغ وقد أعيد تنشيطهم لكي يشاركوا في هجمات ضد القوات الإسرائيلية البرية، وهو ما حصل في مخيم جباليا وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون في الأشهر الأربعة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار.

وكانت «الشرق الأوسط» انفردت بتقرير خاص عن نجاح «حماس» في تجنيد أولئك، ونشرت صوراً لمطوية وكتيب حول تعليمات إطلاق القذائف المضادة للدروع تجاه الآليات الإسرائيلية.

صورة ملتقطة 15 فبراير 2025 في خان يونس بقطاع غزة تُظهر مقاتلين من حركة «الجهاد الإسلامي» و«كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون خلال تسليم 3 رهائن إسرائيليين لممثلي الصليب الأحمر (د.ب.أ)
صورة ملتقطة 15 فبراير 2025 في خان يونس بقطاع غزة تُظهر مقاتلين من حركة «الجهاد الإسلامي» و«كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون خلال تسليم 3 رهائن إسرائيليين لممثلي الصليب الأحمر (د.ب.أ)

وقال المحلل السياسي مصطفى إبراهيم: «بالتأكيد تسعى (حماس) بعد هذه الحرب الإسرائيلية الطاحنة لتجديد الدماء فيها بعدما فقدت الآلاف من قياداتها وعناصرها، وهذا سيكون أحد أهم أهداف الهدنة طويلة الأمد في حال تم التوصل لاتفاق بشأنها».

وفي حال نجحت الجهود الرامية للتوصل لوقف إطلاق نار دائم، وربما لسنوات طويلة، وهو أمر تنخرط به الولايات المتحدة، فإن السؤال الذي سيبقى مطروحاً، حول قدرة «حماس» على البقاء وعلى إعادة تشكيل نفسها في مواجهة إصرار إسرائيلي وقناعة فلسطينية رسمية وعربية على إخراج الحركة من المشهد.

لم تستطع إسرائيل بعد عقود من المواجهة وحرب دموية طاحنة مستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام هزيمة الفكرة، وتريد هزيمة التنظيم نفسه، وهو أمر لن يحصل أغلب الظن بإعطاء الحركة سنوات طويلة من الراحة.