الحداثة جارحة للغرب قبل العرب

شتات وضياع إلى حد الانفلات

الحداثة جارحة للغرب قبل العرب
TT

الحداثة جارحة للغرب قبل العرب

الحداثة جارحة للغرب قبل العرب

إن أي باحث يريد أن يستوعب منظومة التفكير الحداثية، عليه ألا يكتفي بالكتب المدرسية، أو ببعض التعريفات التي تكون في الغالب اختزالية ولا تعطي الصورة الحقيقية، بل وخلافا لذلك عليه أن يخوض في الفكر الغربي على الأقل من القرن السادس عشر إلى حدود الساعة، قارئا عينات من المفكرين والفلاسفة الذين طبعوا هذه المرحلة، ناهيك عن الوقوف عند المذاهب والتيارات الفكرية التي انتشرت وتناسلت ولا تزال... ومع شيء من الصبر والتؤدة، سيكتشف هذا الباحث بداية أنه أمام الشتات والضياع، إلى حد انفلات الأمر منه، ولربما لن يقدر على القبض على دلالة جامعة ومانعة للحداثة. لكن شيئا واحدا سيبقى عالقا في ذهنه لا محالة، وهو أن هناك نسفاً مدوياً قد حدث وما زال في الأزمنة الحديثة، وأن هناك مطرقة للهدم تشتغل من دون هوادة، وتفكِيكاً شاملاً وجذريّاً للبنيات القديمة، وهجوما قاسيا على الأنساق المعرفية الموروثة التي ألفتها البشرية لقرون. وسيكتشف الباحث أن نظرة جديدة لرؤية العالم قد تشكلت في الغرب، تتمثل في غلبة منطق الأرض على السماء، كما سيفهم أنه قد أنجزت أكبر عملية فصلٍ للمجالات عن بعضها البعض، والذي كان النّصيب الأوفر منها للدين، بحيث قد تعرض هذا الأخير لعزلٍ جارحٍ عن كل قطاعات الحياة سواء عن العلم أو السياسة أو الأخلاق.
وإذا كان الباحث جادا في البحث عن كنه الحداثة وجوهرها والتنقيب عن نواتها الصلبة، فعليه مباشرة أن يلزم نفسه بطرح السؤال الأساسي على نفسه وهو كالآتي: لماذا أخذ الفكر الغربي مسارا كله شك وهدم ونسف وتفكيك؟ لماذا يعد الفكر الحداثي جارحا؟ ما الذي دفع إلى عدم الثقة بالمنظومة القديمة؟ إلى درجة كسر ثوابتها وإعلان عدم صلاحيتها وعقمها بل زيفها وكذبها؟ أين نجد الشرارة الأولى التي حركت كل هذا المسار الناسف؟ والجواب عن هذه الأسئلة طبعا يحتاج جهدا جهيدا.
انبثقت الحداثة كمنظومة تفكير جديدة وبوضوح خلال القرن السابع عشر في رقعة جغرافية أوروبية ليست هي جغرافيتنا، فنحن إذن لم نعش مخاضها تاريخيا، بل عشناها كمنظومة وافدة، منتصرة ومهيمنة وهو ما كان عائقا نحو استيعابها إلى درجة أننا أحيانا لم نستطع رؤية سوى واجهتها وسطحها البراق تارة والمتمثل في المنجزات العلمية والتقنية الهائلة والجارح تارة أخرى نظرا لوفائها الكلي للقيم الأرضية وانفصالها عن السماء وتحويلها المقدس نحو المعطى التاريخي، وهو ما تمت تسميته بالعلمنة أو اللائكية أو الدنيانية، فتم إعلان وحدة العالم وتكريس المحايث عوضا عن المفارق. وهو ما كان بمثابة الصدمة التي أربكت أولا أهلها وبعثرت حساباتهم دافعة إياهم إلى إعادة النظر ومسح ما تراكم على الطاولة منذ قرون وملئها بحلول جديدة، وثانيا أربكت أيضا قيم الثقافة العربية الإسلامية بل وجعلتها تعيش انفصاما ثقافيا، لعل أبرز تجلياته هو تضخم خطاب الأصالة والمعاصرة، الذي كان عنوان ما يسمى النهضة العربية التي كانت تعبيرا عن رد فعل وجودي وتاريخي للقاء الذات بالآخر صاحب الحداثة الأصلية، وهو ما أثار ذلك السؤال المعروف: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ حيث وجد العقل العربي -الإسلامي نفسه في مأزق، إذ كيف التوفيق بين أفكار الوافد والإبقاء على عناصر الذات وشخصيتها؟ وقد ازداد الأمر تعقيدا حينما تحول هذا العقل العربي-الإسلامي وبشكل مفاجئ من التعامل مع أفكار الحداثة إلى التعامل مع أفكار ما بعد الحداثة التي كانت صرخة ضد طوباوية الحداثة التي فشلت في تحقيق كل ما سطرته كنماذج مثالية، ليتضاعف الاغتراب ويصاب معه الإنسان العربي بالدوار حد الغثيان.
يرى الكثير أن «الحداثة» هي نموذج غربي بامتياز، وأنها كانت جحيما على الإنسان العربي الذي استقبلها كوافد أجنبي، حيث تم الزج به دون سابق إنذار، في تجربة لم ينجزها بيده وفي تفكير لم ينتجه هو بمجهوده الخاص، وهو ما خلق لديه مقاومة ورفضا لها تحت دعوى أنه دخيلة وغريبة. فهل يعد هذا الأمر صحيحا حقا؟ أليست الحداثة، باعتبارها منظومة تفكير، كانت صادمة أيضا للإنسان الغربي قبل بقية الشعوب الأخرى؟
إذن حديثنا عن الجرح الحداثي ليس مرتبطا بالشعوب التي لم تنجز هذه الحداثة في تربتها بل مست الشعوب الأوروبية بالأساس، فالفكر الحداثي لم يستقبل بالورود وبالصدر الرحب، بل تمت مهاجمته من الوهلة الأولى، ألم ينشر كوبيرنيكوس كتابه «في دوران الإجرام السماوية» وهو على فراش الموت بعد صمت دام أزيد من ثلاثين عاما، لما كان يدركه من خطورة ومن ثورية في أفكاره وهو الراهب الذي يعلم تداعيات القول بمركزية الشمس على عامة الناس؟. ألم يحرق جيوردانو برونو أمام الملأ لقوله بالعالم اللامتناهي وهو ما يتنافى وفكرة العالم المغلق القديمة؟ ألم يحاكم جاليليو محاكمة مهينة لجرأته في الدفاع عن دوران الأرض؟ ألم يضطر إلى أن «يشاكس» و«يتحايل» أحيانا، بل يلعب دور اللاهوتي مؤولا النصوص المقدسة التي ظاهرها ثبات الأرض، كي يخفف من هجوم بعض رجال الدين على مواقفه؟ ألم يقرر ديكارت بمجرد سماعه عن محاكمة جاليليو، إحراق كتابه «العالم» الذي يتبنى فيه الكوبيرنيكية، بل ألم يكتب وهو مقنع، مبرزا وجها ماكرا للكنيسة التي انطلت عليها الحيلة معتقدة أنه يدافع عنها، بينما هو في الحقيقة يصنع الأساسات الميتافيزيقية للعلم الحديث الناشئ في القرن 17؟ ألم تهاجم أفكار داروين الثورية من طرف جيوش المقاومة التي كانت له بالمرصاد؟ وهل أفكار فرويد التي عرت الإنسان وجعلته يغادر سلطانه العقلاني، ليصبح كائنا غريزيا بامتياز، تم قبولها دون امتعاض وسخط أحيانا؟. وهل الثورة البيولوجية والتكنولوجية الغازية تمر دون ضجيج؟
إن الحداثة ليست اختيارا أبدا لشعب بعينه، بل هي منظومة تفكير جارفة وجارحة على كل البشرية.



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.