«السيدة مليحة»... جالسة ويداها ممدودتان للأمام

تتبع النسق السبئي الذي ساد جنوب الجزيرة

«السيدة مليحة»... جالسة ويداها ممدودتان للأمام
TT

«السيدة مليحة»... جالسة ويداها ممدودتان للأمام

«السيدة مليحة»... جالسة ويداها ممدودتان للأمام

يحتفظ «مركز مليحة للآثار» في إمارة الشارقة بمجموعة صغيرة من التماثيل تشهد لتعددية كبيرة في الأساليب الفنية؛ منها تمثال من الحجم الصغير يمثل امرأة جالسة في وضعية ثابتة، مادّةً يديها إلى الأمام، وفقاً لما يُعرف بـ«النسق السبئي» الذي ساد جنوب الجزيرة العربية، وشكّل تقليداً فنياً محلياً طبع نتاجاً واسعاً من المجسمات المتعدّدة المواضيع والأشكال.

تقع «مستوطنة مليحة الأثرية» في سهل داخلي يمتدّ إلى الغرب من سلسلة جبال الحجر، ويبعد نحو 20 كيلومتراً من جنوب مدينة الذيد الحديثة. خرجت هذه المستوطنة من الظلمة إلى النور في عام 1973 حيث شرعت بعثة أثرية عراقية في استكشافها، وأجرت فيها أول أعمال المسح والتنقيب. بعدها، تولى فريق فرنسي هذه المهمة منذ عام 1985، وأجرى حفريات عدة في مواسم سنوية استمرت حتى عام 1999. في موازاة هذا العمل الميداني، عمدت بعثة محلية تابعة لـ«إدارة الآثار» في «دائرة الثقافة والإعلام» بالشارقة إلى المشاركة في هذا البحث منذ عام 1993 إلى يومنا هذا.

كشفت هذه السلسلة من التنقيبات المتواصلة عن مبانٍ سكنية عدة؛ منها المباني البسيطة والصغيرة الحجم، ومنها الكبيرة التي تحوي ساحات داخلية وتضم غرفاً متعددة. وبرز مبنى يتميّز بأرضية مطلية بما يُعرف بـ«البلاستر»؛ أي القصارة، أُطلق عليه اسم «القصر»، وهو أشبه بحصن شُيّد باللبِن، وفق مخطط مربع الشكل يبلغ طول ضلعه نحو 55 متراً، ويتألف من صفوف من الغرف تحيط بساحة وسطية. عند مدخل هذا القصر المحصّن، عُثر على تمثال السيدة الجالسة، ممّا يوحي بأنه يعود إلى بيت صغير شيّد على شكل مزار لمعبودة يصعب تحديد هويّتها بسبب غياب أي نقش عليها يحمل اسمها.

من جهة أخرى، عُثر في مليحة على قطع معدنية نذرية صُنعت من البرونز والفضة، وكانت في الأصل معلّقة على أبواب المزارات، وفقاً لتقليد شاع في جنوب الجزيرة العربية، يشهد له كثير من القطع النذرية المشابهة. في واحدة من هذه القطع يحضر بشكل لا لبس فيه اسم «اللات» منقوشاً على قطعة فضية، وهو اسم معبودة أنثوية شاع في مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية، ووصل إلى نواح من سوريا والعراق. ويوحي حضور هذا الاسم على «نقش مليحة الفضي» بأن تمثال السيدة الجالسة يمثل، على ما يبدو، هذه المعبودة، غير أن هذه النسبة تبقى افتراضيّة في غياب السند الذي يؤكّدها بشكل واضح وجلي.

يبلغ طول هذا التمثال الحجري الصغير نحو 15 سنتيمتراً، وعرضه 5 سنتيمترات، وهو مكوّن من كتلة واحدة تعرّضت للخراب، ووصلت في جزأين تمّ جمعهما؛ يشكّل الأول الرأس والطرف الأيمن من الصدر، ويشكّل الثاني ما تبقى من القامة الجالسة التي فقدت يديها الممدودتين إلى الأمام بثبات. بعيداً عن أي حراك، تجلس السيدة في وضعية جامدة، ويبدو ظهرها مستقيماً. الرأس دائري، وتكلّله سلسلة من خصل الشعر تلتف حول الجبين وتنسدل إلى الخلف. الوجه مهشّم بشكل كامل، ولا يبدو لملامحه أي أثر بفعل هذا التهشيم. يتميز هذا الرأس بحجم ضخم قياساً بحجم البدن، وفقاً لبناء تحويري يُسقط طوعاً البناء التشريحي الواقعي. تغيب مفاصل هذا البدن خلف ثوب طويل يبلغ طرف أسفل الساقين، كاشفاً عن قدمين صغيرتين مسطّحتين جُسّمتا بشكل هندسي تجريدي.

تزين هذا الثوب سلسلة من الخطوط العمودية الناتئة تمتدّ بشكل تعادلي من أعلى الصدر إلى «أخمص الساقين»، وسلسلة أخرى من الخطوط الدائرية تلتفّ كأساور حول الجزء الأعلى من الذراعين. في المقابل، يحدّ هذا الثوب شريط نصف دائري ناتئ يلتف كعقد حول الكتفين، وشريط أفقي مماثل يشكّل البطانة السفلية لهذا الرداء الأنثوي الطويل. من هذه الكتلة المتراصة تخرج اليدان الممدودتان المفقودتان، تبعاً لحركة تقليدية جامعة طبعت فن النحت في اليمن القديم.

يُشابه تمثال مليحة الصغير تمثالاً من محفوظات «المتحف الوطني للفن الشرقي» في روما، وهو مجهول المصدر، يبلغ طوله 23.7 سنتيمتراً، وعرضه 19.3 سنتيمتراً، كما يشابه تمثالاً آخر من الطراز نفسه محفوظاً في «المتحف البريطاني» بلندن.

أُنجز هذا التمثال بين القرنين الأول والثاني للميلاد، ويتبع أسلوباً تقليدياً يُعرف بـ«السبئي»؛ نسبة إلى مملكة سبأ في مأرب، شرق العاصمة اليمنية صنعاء، وهي من الممالك القديمة التي قامت في جنوب شبه الجزيرة العربية، وسيطرت على طرق التجارة بين الهند وحضارات بلاد الشام وشمال المتوسط. شكلت هذه المملكة العريقة حضارة خاصة بلغت نواحي أخرى من جزيرة العرب؛ منها «موقع مليحة»، كما يشهد تمثال «مليحة» الصغير الذي يعود إلى الحقبة نفسها، إلى جانب قطع أخرى متنوعة خرجت من هذه الناحية من إمارة الشارقة.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
TT

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)

فقدت البحرين ودول الخليج العربية، اليوم الخميس، المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، مستشارَ ملك البحرين للشؤون الثقافية والعلمية، أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، عميد كلية الدراسات العليا الأسبق بجامعة الخليج العربي، الذي وافته المنية بعد مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والعلمي.

يُعدُّ الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين، والخليج عموماً، وباحثاً مرموقاً في دراسات ونقد الفكر العربي، وقدَّم إسهامات نوعية في مجالات الفكر، والأدب، والثقافة. وتميزت أعماله «باتساق الرؤية الفكرية في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعاً إلى تجديد المشروع النهضوي، كما تميزت رؤيته الفكرية بالتشخيص العيني للواقع العربي في أبعاده السياسية والاجتماعية والحضارية في حقلَي التراث العربي الإسلامي وفكر عصر النهضة».

المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري (الشرق الأوسط)

الأنصاري وابن خلدون

كتبُه تكشف عن مشروع فكري عربي، فقد كتب عن «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970»، و«العالم والعرب سنة 2000»، و«لمحات من الخليج العربي»، و«الحساسية المغربية والثقافة المشرقية»، و«التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق»، و«تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، و«رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر».

كما أصدر كتاباً بعنوان «انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية»، و«الفكر العربي وصراع الأضداد»، و«التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع»، وكذلك «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، مكونات الحالة المزمنة»، وكتاب «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي»، وكتابه المهمّ «العرب والسياسة: أين الخلل؟ جذر العطل العميق»، وكتاب «مساءلة الهزيمة، جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، وكتابه «الناصرية بمنظور نقدي، أي دروس للمستقبل؟»، وكتاب «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل».

وعند المرور بابن خلدون، تجدر الإشارة إلى أن الدكتور الأنصاري كان أحد أهم الدارسين لتراث ابن خلدون ومتأثراً به إلى حد لا يخلو من مبالغة، وهو القائل في كتابه «لقاء التاريخ بالعصر»: «كل عربي لن يتجاوز مرحلة الأمية الحضارية المتعلقة بجوهر فهمه لحقيقة أمته... إلا بعد أن يقرأ مراراً مقدمة ابن خلدون! (ص 63)».

في هذا الكتاب، كما في كتاب «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، يستعيد الأنصاري فكر ابن خلدون داعياً لتحويله إلى منهج للمثقفين العرب، مركّزاً بنحو خاص على تميّز ابن خلدون في الدعوة لثقافة نثر تتجاوز لغة الشعر، داعياً لإيجاد نثر عقلاني يتجاوز مفهوم الخطابة.

ويقول في كتابه «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»: «مطلوب - إذن - علم اجتماع عربي إسلامي مستمد من واقع تاريخنا؛ لفهم التاريخ ومحاولة إعادته للخط السليم... ومطلوب قبل ذلك شجاعة الكشف عن حقيقة الذات الجماعية العربية في واقعها التاريخي الاجتماعي بلا رتوش... بلا مكياج... بلا أقنعة... وبلا أوهام تعظيمية للذات».

كتابه «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل» طبعة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، رغم حجمه الصغير (120 صفحة) وكونه عبارة عن مجموعة مقالات جمعها المؤلف، لكنه يقدم صورة نقدية تدعو لتحرر الرؤية من الماضي وتأسيس ثقافة عربية تعتمد منهج ابن خلدون في مقاربته للتاريخ، وخاصة تجاوزه «الفهم الرومانسي العجائبي، الذي ما زال يطبع العقلية العربية»، هذه المقاربة توضح أن «إطار العقلية الخلدونية يعني اكتساب قدرة أفضل على فهم العالم الجديد، الذي لم يتكيف العرب معه بعد، فما زالوا يتعاملون، كارثياً، مع واقع العالم شعراً»، وهي «دعوة إلى إعادة التوازن في ثقافتنا بين الوجدان والعقل، حيث لم تعدم العربية نثراً فكرياً راقياً تعد (مقدمة ابن خلدون) من أبرز نماذجه، إلى جانب كتابات الجاحظ والتوحيدي والفارابي وابن طفيل وابن حزم».

سيرة

وُلد الأنصاري، في البحرين عام 1939؛ درس في الجامعة الأمريكية ببيروت وحصل فيها على درجة البكالوريوس في الأدب العربي عام 1963، ودبلوم في التربية عام 1963، وماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، ودكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر سنة 1979. كما حضر دورة الدراسات العليا في جامعة كامبريدج عام 1971، وحصل على شهادة في الثقافة واللغة الفرنسية من جامعة السوربون الفرنسية سنة 1982.

في عام 2019، داهمه المرض العضال الذي منعه من مواصلة إنتاجه الفكري، ليرحل، اليوم، بعد مسيرة عامرة بالعطاء، وزاخرة بالدراسات المهمة التي أثرى بها المكتبة العربية.