أفروديت مليحة سيّدة الحبّ والجمال والغواية تمثالاً برونزياً

حضور نادر في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

أفروديت في تمثال من البرونز مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة
أفروديت في تمثال من البرونز مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

أفروديت مليحة سيّدة الحبّ والجمال والغواية تمثالاً برونزياً

أفروديت في تمثال من البرونز مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة
أفروديت في تمثال من البرونز مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة

يحتفظ مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة بتمثال برونزي من الحجم الصغير يمثل أفروديت، سيّدة الحب والجمال والغواية التي حظيت بشهرة واسعة في العالم اليوناني القديم، كما في العالم الهلنستي الشرقي، حيث تعدّدت صورها وفقاً لنماذج تقليدية ثابتة شكّلت قاموساً فنياً خاصاً بها. يتبع هذا التمثال الذي وصل بشكل غير كامل أحد هذه النماذج كما يبدو، ويشهد لحضور نادر لهذه المعبودة في هذه الناحية في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.

يحمل مركز مليحة للآثار اسم المنطقة الأثرية التي تقع في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، ويحوي القطع الأثرية المتعدّدة التي خرجت منها. برزت مليحة بين القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، حيث شكّلت قاعدة لمملكة عُمانية شاسعة عانت في نهاية القرن الثاني، وتضعضعت، ثم ازدهرت من جديد، واستعادت دورها المميّز في التجارة العالمية التي تربط بين أقطار الجزيرة العربية، وحوض البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الهندي، وبلاد الرافدين. توقف هذا الازدهار بشكل صادم خلال القرن الثالث للميلاد، بالتزامن مع صعود الدورة الساسانية وسعيها إلى بسط سلطتها على سائر طرق الخليج، وأدّى هذا التحوّل إلى غياب هذه المملكة عن الخريطة.

فرغت مليحة من سكانها، وطمرت معالمها، ودخلت في النسيان، وبعد زمن طويل، ظهرت من طريق المصادفة في مطلع ستينات القرن الماضي حين شرعت السلطة الحاكمة في الشارقة إلى إقامة جنائن من النخيل في أراضيها المهجورة. شكل هذا الاكتشاف نقطة انطلاق لعمليات المسح والتنقيب المتواصلة التي كشفت عن آثار مليحة وحددت مراحل تاريخها، واتّضح أن هذا الموقع يتميّز بتعدديته الثقافية الاستثنائية، كما تشهد اللقى المتعددة الأشكال والأنواع التي خرجت منه، ومنها تمثال أفروديت البرونزي الصغير الذي لا يتجاوز طوله 11 سنتيمتراً.

يمثّل هذا المجسم امرأة تقف منتصبة، وهي ترفع رأسها نحو الأعلى. الصدر عارٍ، والحوض ملتف برداء طويل ينعقد من حول الخصر، ويتساقط حتى أخمص الساقين، كاشفاً عن قدمين عاريتين. الأسلوب المتبع يوناني كلاسيكي بامتياز، ويتمثّل في محاكاة المثال الواقعي الحي، كما يشهد التجسيم المتقن الذي يتجلى في نحت ملامح الوجه النضر ومختلف أعضاء البدن الأنثوي، كما في نحت ثنايا الرداء الطويل التي تنسكب على مفاصل الساقين بدقة متناهية. الذراع اليمنى منبسطة، غير أنها مبتورة، وما بقي منها يتمثل بالجزء الأعلى منها فحسب. والذراع اليسرى مطوية، وتكشف حركة يدها عن أنها تمسك بأداة ما، ضاعت بشكل كامل. تحيل هذه الحركة على نموذج من النماذج الفنية التقليدية الخاصة بسيّدة الحسن، يُعرف بـ«أفروديت المسلحة»، وهذا السلاح ما هو إلا درع حربي جعلت منه مرآة تتراءى فيها.

بحسب الرواية التي نقلها هزيودوس بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، وُلدت أفروديت في زمن التكوين الأول، من زبد البحر الذي سقطت فيه الأعضاء المبتورة من جسد أورانوس، سيّد السماء في بدء الخليقة، ويشير اسمها إلى هذه الولادة، إذ تعني «أفروس» باليونانيّة الزبد. من هذا الزبد، خُلقت فتاة سبحت نحو جزيرة كيثيرا، ثم بلغت جزيرة قبرص، ومن هناك خرجت سيّدة «ذات بهاء وخفر، يسمّونها أفروديت». وبحسب الروايات المتناقلة التي استعادها كبار الأدباء والشعراء في العالم القديم، شقت أفروديت طريقها نحو جبل الأولمب، مقر أسياد الكون الكبار، وأسرت القلوب بحسنها. ورغب زيوس سيّد الأولمب بالاقتران بها فرفضت، فعاقبها وفرض عليها الزواج بابنه هيفيستوس الذي كان يعاني من عاهة العرج في كلتا قدميه، وكانت أصابع هاتين القدمين في الخلف وعقباهما في الأمام، فزاول مهنة الحدادة التي لا تتطلب تنقّلاً، معتمداً على قوّة ساعديه، فغدا سيّد الحدادة والنار والبراكين والصناعة والبرونز، وعُرف بصناعة الأدوات والأثاث والأسلحة لكبار الأبطال. هكذا تزوجت أفروديت من هيفيستوس، إلا أنّ هذا الزواج لم يمنعها من البحث عن المتع التي لم تجدها إلى جانب قرينها القبيح، فعشقت شقيقه الجميل آريس، سيّد الحرب والهلاك والخراب، فبادلها الحب، وأهدى إليها درعه النحاسي الرهيب، فجعلت منه مرآة لها، وبات هذا الدرع رمزاً من رموزها العديدة.

ينتمي تمثال مليحة إلى الفصيلة الفنية الخاصة بأفروديت والأرجح أنه وصل إلى هذه المقاطعة من الخارج

على مدى قرون من الزمن، تبارى المثّالون والرسامون في إبراز جمال أفروديت الخارق. واللافت أن أقدم ما وصلنا من هذه الصور جاء في صيغة الرمز المجرّد، وكأن هذا الجمال الأنثوي الذي لا يوصف، أكبر من أن يتّخذ صورة محسوسة. هكذا تحتجب أفروديت في هيكلها في مدينة بافوس القبرصية لتحضر سرّياً عبر هرم مخروطي الشكل تحيطه المشاعل، قبل أن تظهر ملتفّة برداء طويل ومتوّجة بإكليل في القرن الرابع قبل الميلاد. وتكشف الكثير من الأعمال الفنيّة التي وصلتنا من تلك المرحلة عن براعة المثالين في إبراز مفاتنها خلف ثنايا القماش الملتف حول جسدها البهي. شيئاً فشيئاً، تنزع الحسناء رداءها لتظهر جمال قوامها الفتان، وتكشف أولاً عن القسم الأعلى من جسدها وهي تلفّ ثوبها المتساقط حول أسفل حوضها وساقيها، ثمّ تخلع رداءها لتظهر عارية تماماً وهي ترخي ذراعها من أمامها.

في هذا السياق، يبرز نموذج «أفروديت المسلحة» التي تتراءى في الترس النحاسي الذي أهداه إليها معشوقها آريس، وقد أشار أبولونيوس الرودسي في القرن الثاني للميلاد إلى هذا النموذج، حيث وصف في الكتاب الأول من منظومته الشهيرة «آرغونيكا»، تمثالاً يجسّد أفروديت وهي تحمل بين يديها ترساً انطبعت فوق سطحه صورة وجهها المنعكسة عليه. نقع على تماثيل عدة تتبنى هذا النموذج، أشهرها تمثال محفوظ في متحف أنطاليا الأثري في تركيا، وآخر محفوظ في متحف كابوا في إيطاليا.

ينتمي تمثال مليحة إلى هذه الفصيلة الفنية الخاصة بأفروديت، والأرجح أنه وصل إلى هذه المقاطعة من الخارج، مشكّلاً حضوراً استثنائياً لهذه المعبودة في هذه الناحية البعيدة الواقعة في شمال شرقي جزيرة العرب.


مقالات ذات صلة

بيرسيفال إيفيريت يقلب رواية مارك توين

ثقافة وفنون بيرسيفال إيفيريت

بيرسيفال إيفيريت يقلب رواية مارك توين

بيرسيفال إيفيريت لم يقلبْ مارك توين رأساً على عقب، كما يدَّعِي العنوان، الذي لعبت دوراً في صياغته الرغبة في أن يكون لافتاً وجاذباً،

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون صافي ناز كاظم تمزج السيرة الذاتية بالنقد

صافي ناز كاظم تمزج السيرة الذاتية بالنقد

تتميز نصوص الكاتبة المصرية صافي ناز كاظم بمذاق خاص من الحيوية والصدق والحرارة ينبع من مزجها الدائم بين السيرة الذاتية والرؤى النقدية

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

لماذا تتكرّر ظاهرة تغييب أسماء المترجمين عن أغلفة الكتب وصفحاتها الداخلية، وهل يعكس هذا تجاهلاً لدور المترجم في إعادة صياغة النصوص؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون «وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

ثمة انتظام حكائي سردي موضوعاتي تحرص رواية «وادي الفراشات» لأزهر جرجيس («مسكيلياني»- تونس «الرافدين») على اقتفاء آثاره شبه الثابتة في روايتين سابقتين لأزهر جرجيس

حمزة عليوي
ثقافة وفنون إبراهيم فرغلي

إبراهيم فرغلي: عدت إلى القصة القصيرة لأتحرر من إرهاق الرواية

بعد رصيد من الأعمال الروائية، يعود الكاتب المصري إبراهيم فرغلي إلى القصة القصيرة من خلال مجموعته «حارسة الحكايات» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة

منى أبو النصر (القاهرة)

الغذامي: أعيش في «بيت من نساء» ولا أحملُ ضغينة لأدونيس

الدكتور عبد الله الغذامي خلال جلسة الحوار مع ألطاف المطيري ضمن فعاليات مهرجان القرين (كونا)
الدكتور عبد الله الغذامي خلال جلسة الحوار مع ألطاف المطيري ضمن فعاليات مهرجان القرين (كونا)
TT

الغذامي: أعيش في «بيت من نساء» ولا أحملُ ضغينة لأدونيس

الدكتور عبد الله الغذامي خلال جلسة الحوار مع ألطاف المطيري ضمن فعاليات مهرجان القرين (كونا)
الدكتور عبد الله الغذامي خلال جلسة الحوار مع ألطاف المطيري ضمن فعاليات مهرجان القرين (كونا)

تحدث المفكر السعودي الدكتور عبد الله الغذامي، خلال جلسة حوارية بمهرجان «القرين الثقافي» في الكويت، عن مسيرته في عالم النقد والأدب وبداياته في التعمق والبحث العلمي والأدبي.

وشهدت الجلسة التي أقيمت بالتعاون مع «مركز منار الثقافي»، وأدارتها ألطاف المطيري، استعراضاً للسيرة الفكرية والثقافية للناقد السعودي المعروف بإسهاماته المميزة التي أثرت الحقل الثقافي العربي لعقود، متطرقاً إلى علاقته بالمرأة، والتحولات الفكرية والثقافية التي مرّ بها، وخلافه مع الشاعر السوري أدونيس، والمواجهات مع «تيار الصحوة».

«بيت من نساء»

الغذامي، الذي اختُير ليكون «شخصية الدورة الـ30» من المهرجان، قال في استعراضه للتحولات الفكرية، إن مسيرته في ريعان الشباب تأثرت بمنهج الشكّ، لكنه وجد طريقه عبر الوجدان، مشيراً إلى تأثير رواية «دعاء الكروان» في تعزيز إيمانه، وهي الرواية التي كتبها عميد الأدب العربي طه حسين، ونشرت عام 1934، تمرّ عبر الأنثى، وتنتصر للمرأة ضد سلطة القهر الاجتماعي التي تفرض عليها وتضطهدها.

يضيف أن صوت بطلة الرواية «آمنة» وهي تناجي الكروان بما يسميه طه حسين «دعاء الكروان» كان ملاذه من رحلة الشكّ، فـ«اكتشفت أن القيمة الوجدانية كعلاج أسمى من القيمة العلمية»، «فأنا مدين للحظات البكاء في أن أجد طريقي إلى الله»، وهو الطريق الذي لم يرسمه المهندسون، فهو طريق وجداني.

وتحدث المفكر السعودي عن علاقته بالمرأة، قائلاً: «أعيش في بيت من نساء»، مستذكراً تأثير زوجته وبناته. ويرى أن المرأة ليست مجرد موضوع للنقاش أو التحليل إنما هي جزء أساسي من الثقافة، سواء كاتبة أو قارئة، مشجعاً على الاعتراف بدورها الفاعل في تشكيل الفكر والأدب بعيداً عن الصور النمطية التقليدية.

تحدث الدكتور عبد الله الغذامي حول تجربته الكتابية في الدفاع عن قضية المرأة (الشرق الأوسط)

وعن تجربته الكتابية في الدفاع عن قضية المرأة، استذكر كتابه «الكتابة ضد الكتابة» الذي استعرض فيه بالتشريح نصوصاً لثلاثة شعراء سعوديين هم محمد حسين سرحان، وغازي القصيبي، ومحمد جبر الحربي، في تناولهم موضوع المرأة، مخصصاً فصلاً في استعراض ردود الشعراء على قراءته لنصوصهم.

وفي هذا الكتاب يستعرض الغذامي صورة المرأة في التراث العربيّ، منها قولهم: «البنت مالها إلا الستر أو القبر»، مستحضراً الصورة التي وجدها لدى الرحالة ابن بطوطة في رحلته للهند، واصفاً «إحراق المرأة بعد زوجها - بأنه - أمر مندوب عندهم»، فمن «أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفاً بذلك ونُسبوا إلى الوفاء».

كما يورِد معارضة الثعالبي في كتابه «ثمار القلوب»، قول أحدهم في ذمّ النساء: «إن النساء شياطينُ خلقن لنا/ فكلّنا يتقي شرّ الشياطين». وقول الثعالبي معارضاً: «إن النساء رياحينٌ خلقن لنا/ وكلنا يشتهي شمّ الرياحين» ويعلق المفكر السعودي: «وليس الأخير بأحسن من الأوّل؛ فالاثنان جعلاها متاعاً ومادّة ولسن مخلوقات بوجودٍ ذاتيّ خاصّ»!

وكذلك كتابه «المرأة واللغة» الصادر عن «المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء» 1996، الذي يرى فيه أن المرأة تعرضت للوأد المادي والوأد المعنوي معاً، كما تناول فيه قضايا المرأة العربية من منظور نقدي محللاً الصور النمطية التي رسختها الثقافة الذكورية في الأدب العربي، منتقداً الأنماط اللغوية التي ترسخ الهيمنة الذكورية، قائلاً إن اللغة ذاتها تستخدم وسيلةً لإقصاء المرأة أو حصرها في أدوار تقليدية.

وفي هذا الكتاب يستعرض الغذامي رأي ابن جني عن التذكير والتأنيث في اللغة، وقوله: «إن تذكير المؤنث واسع جداً لأنه رد إلى الأصل»، معتبراً هذا الرأي «سلباً صريحاً لحق المرأة الطبيعي في التأنيث، وتقليلاً من صفة جوهرية على اعتبار أنها ليست كائناً وذاتاً فاعلة وإنما مجموعة من الدلائل والصفات».

استعرضت الجلسة الحوارية السيرة الفكرية والثقافية للناقد السعودي (الشرق الأوسط)

وكتاب المفكر السعودي الآخر: «ثقافة الوهم، مقاربات عن المرأة واللغة والجسد»، «المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء» 1998، وهو يمثّل الجزء الثاني من كتاب «المرأة واللغة»، فالجزء الأول ركّز على علاقة المرأة باللغة كمنجز تعبيري بواسطة الحكي أو الكتابة، وفي هذا الكتاب، يقف المؤلف على الحكايات المأثورة التي تتعامل مع المؤنث وتجعل التأنيث مركز الحبكة.

في هذا الكتاب يتناول الغذامي ما يسميه «ثقافة الوهم»، وذلك «حينما تجرّ الثقافة إلى تصورات تنغرس في الذهن وتتحول إلى معتقد، أو صورة نمطية ثابتة»، وهو ما يسميه بـ«الجبروت الرمزي».

من أجل المرأة غادر «النقد الأدبي» إلى «النقد الثقافي»

المفكر السعودي قال خلال الندوة إن المرأة هي صاحبة الدور لمغادرته النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، التي تمكن من صياغتها كنظرية في عام 2000، داعياً لكسر هذه الصور النمطية، وإعادة قراءة النصوص من منظور نسوي يبرز دور المرأة كفرد مستقل ومؤثر، ومبيناً أن النقد النسوي لا يمكن عزله عن النقد الثقافي، لأن القضايا النسوية مرتبطة بالأنساق الثقافية التي تشكل بنية المجتمع.

لا ضغينة مع أدونيس

تحدّث الغذامي عن خلافه مع أدونيس، قائلاً إن الشاعر السوري «غضب حين صدر كتابي (النقد الثقافي)، وأعطى تصريحات قاسية، بعد أن استفزه وصف (الحداثي الرجعي)، وقول الغذامي أن أدونيس يمثّل الحداثة الرجعية».

وبرأي المفكر السعودي، فقد «بدأ أدونيس في اعتراضه على الكتاب هادئاً، ثم أخذ يتصاعد نقده تدريجياً حتى صار أسيراً لتصريحاته»، ويضيف: «تقابلنا في أبوظبي، وتعمدت أن أواجهه، فقابلني باحترام، وقلت له إنني وضعتك مع أبي تمام والمتنبي ونزار قباني في دراسة واحدة، فأبدى ارتياحه، وهذا دليل أنه لم يقرأ الكتاب».

الدكتور عبد الله الغذامي يتحدث خلال جلسة الحوار المفتوح (الشرق الأوسط)

ثم في زيارة أدونيس للرياض خلال مارس (آذار) 2023، عرضت «هيئة الأدب» أن تُجرى مناظرة بينه والغذامي، لكنّ الأول تراجع عن موافقته بعد أن أبداها مسبقاً.

وكانت أول مرة يكتب الغذامي عن أدونيس عام 1997 في مجلة «فصول» بطلب من الدكتور جابر عصفور: «ما بعد الأدونيسية»، وقال: «خلافي مع أدونيس ثقافي، ولا أحمل ضغينة له».

وتطرق المفكر السعودي خلال الجلسة إلى عدد من كتبه، وأوضح أنه قدم في كتابه «الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية» رؤيته النقدية التي جمعت بين البنيوية والتفكيك، وركّز على تحليل النصوص الأدبية العربية وفق آليات منهجية جديدة، مشيراً أيضاً إلى كتابه «النقد الثقافي... قراءة في الأنساق الثقافية العربية» الذي ناقش فيه الأنساق المالية في الثقافة العربية، وكيف تؤثر على تشكيل النصوص والقيم المجتمعية.

وأفاد بأنه تناول في كتاب «الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي» التحول الثقافي الذي أحدثته وسائل الإعلام الحديثة، خصوصاً التلفزيون، مستعرضاً كيفية إسهام الثقافة التلفزيونية في بروز الثقافة الشعبية على حساب الثقافة النخبوية.

شخصية العام

واختار «القرين الثقافي» هذا العام الدكتور الغذامي، شخصية المهرجان، وقالت عائشة المحمود، الأمين العام المساعد لقطاع الثقافة بـ«المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب»، إن الاحتفاء به جاء لكونه «شخصية علمية نقدية تنويرية عربية مرموقة»، و«حمل مهمة التنوير النقدي منذ منتصف الثمانينات الميلادية من القرن العشرين مستهلاً إياها بكتابه (الخطيئة والتكفير)، إذ يواصل منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم طروحاته العلمية والنقدية والفلسفية التي أحدثت نقلة نوعية في الخطاب النقدي العربي، وأسهمت أبحاثه في نقل وتوطين مناهج النقد الأدبي الحديث ترجمةً وتطبيقاً، وفتحت مجالات رحبة في قيادة الطرح النقدي العربي الأكاديمي».

جانب من الجلسة الحوارية للدكتور عبد الله الغذامي (الشرق الأوسط)

الغذامي الذي ولد في السعودية عام 1946 يعدُّ أحد أبرز النقاد والمفكرين العرب، وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة إكستر في المملكة المتحدة. ومنذ ذلك الحين قدم إسهامات كبيرة في مجالات النقد الأدبي، والفكر الثقافي، والتحليل السيميائي.

وتميّز بتبنيه منهجيات نقدية حديثة، من بينها النقد الثقافي، إذ قدم أطروحات عميقة حول العلاقة بين النصوص والأنساق الثقافية. ومن أشهر أعماله كتاب «النقد الثقافي... قراءة في الأنساق الثقافية العربية» الذي شكل نقلةً نوعيةً في فهم التقاليد الثقافية والاجتماعية في العالم العربي، كما كان له دور ريادي في تقديم النقد النسوي، إذ ناقش قضايا المرأة في الأدب العربي، وأثر التقاليد على تشكيل صور المرأة في النصوص الأدبية.

وأصدر المفكر السعودي مؤلفات عديدة أصبحت مرجعاً في الدراسات النقدية، بينها «الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية» و«الثقافة التلفزيونية» و«سقوط النخبة وبروز الشعبي» و«الكتابة ضد الكتابة». وإلى جانب مؤلفاته، شارك في مئات الندوات والمؤتمرات الثقافية على المستويين المحلي والدولي، مما جعله رمزاً للحوار الثقافي، وقدّم إنتاجاً علمياً غنياً ومتنوعاً أثرى به الساحة النقدية والفكرية العربية، يشمل كتباً وأبحاثاً تناولت مختلف قضايا الأدب والنقد الثقافي، والفكر المعاصر، والنسق الثقافي.

وتناول موضوع الحداثة بشكل واسع وعميق، واعتُبر من أبرز المفكرين العرب الذين ساهموا في تفكيك هذا المفهوم، وتحليل تطوراته في السياق العربي، خصوصاً في السعودية، وقدم رؤية نقدية تربط بين الحداثة كظاهرة فكرية وثقافية، وبيَّن التحولات الاجتماعية والسياسية التي أثرت في تبنيها أو مقاومتها. ومن أبرز أعماله التي تناولت هذا الموضوع كتاب «حكاية الحداثة في السعودية» الذي يعد وثيقة نقدية وتحليلية فريدة حول صراع الحداثة في المجتمعات المحافظة.

وعمل الدكتور الغذامي أستاذاً للأدب والنقد الحديث بجامعة الملك سعود في الرياض، وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت موضوعات النقد الحديث، وقدّم محاضرات ومداخلات في مؤتمرات أدبية وثقافية حول العالم. ومن مساهماته الإعلامية كتابة مقالات دورية في صحف عربية بارزة تناولت قضايا ثقافية وفكرية معاصرة، وكان لإنتاجه العلمي أثر كبير في تطور النقد الأدبي والثقافي العربي. وقد ساهم في نقل النقد من التحليل الأدبي والبحث إلى دراسة الثقافة ما أطلق عليه «النقد الثقافي».

الدكتور عبد الله الغذامي اختير ليكون «شخصية الدورة الـ30» من المهرجان (الشرق الأوسط)

ويعدُّ من أوائل المفكرين العرب الذين أولوا اهتماماً عميقاً بالنقد النسوي، إذ قدم أطروحات متميزة ساهمت في إعادة النظر في علاقة المرأة بالخطاب الأدبي والثقافي في العالم العربي. ولا يقتصر ذلك على الدفاع عن حقوق المرأة، بل يتعداه إلى تحليل جذور التحيزات الثقافية واللغوية التي تكرس الصورة النمطية للمرأة في الأدب والمجتمع.