أفروديت مليحة سيّدة الحبّ والجمال والغواية تمثالاً برونزياً

حضور نادر في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

أفروديت في تمثال من البرونز مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة
أفروديت في تمثال من البرونز مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

أفروديت مليحة سيّدة الحبّ والجمال والغواية تمثالاً برونزياً

أفروديت في تمثال من البرونز مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة
أفروديت في تمثال من البرونز مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة

يحتفظ مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة بتمثال برونزي من الحجم الصغير يمثل أفروديت، سيّدة الحب والجمال والغواية التي حظيت بشهرة واسعة في العالم اليوناني القديم، كما في العالم الهلنستي الشرقي، حيث تعدّدت صورها وفقاً لنماذج تقليدية ثابتة شكّلت قاموساً فنياً خاصاً بها. يتبع هذا التمثال الذي وصل بشكل غير كامل أحد هذه النماذج كما يبدو، ويشهد لحضور نادر لهذه المعبودة في هذه الناحية في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.

يحمل مركز مليحة للآثار اسم المنطقة الأثرية التي تقع في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، ويحوي القطع الأثرية المتعدّدة التي خرجت منها. برزت مليحة بين القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، حيث شكّلت قاعدة لمملكة عُمانية شاسعة عانت في نهاية القرن الثاني، وتضعضعت، ثم ازدهرت من جديد، واستعادت دورها المميّز في التجارة العالمية التي تربط بين أقطار الجزيرة العربية، وحوض البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الهندي، وبلاد الرافدين. توقف هذا الازدهار بشكل صادم خلال القرن الثالث للميلاد، بالتزامن مع صعود الدورة الساسانية وسعيها إلى بسط سلطتها على سائر طرق الخليج، وأدّى هذا التحوّل إلى غياب هذه المملكة عن الخريطة.

فرغت مليحة من سكانها، وطمرت معالمها، ودخلت في النسيان، وبعد زمن طويل، ظهرت من طريق المصادفة في مطلع ستينات القرن الماضي حين شرعت السلطة الحاكمة في الشارقة إلى إقامة جنائن من النخيل في أراضيها المهجورة. شكل هذا الاكتشاف نقطة انطلاق لعمليات المسح والتنقيب المتواصلة التي كشفت عن آثار مليحة وحددت مراحل تاريخها، واتّضح أن هذا الموقع يتميّز بتعدديته الثقافية الاستثنائية، كما تشهد اللقى المتعددة الأشكال والأنواع التي خرجت منه، ومنها تمثال أفروديت البرونزي الصغير الذي لا يتجاوز طوله 11 سنتيمتراً.

يمثّل هذا المجسم امرأة تقف منتصبة، وهي ترفع رأسها نحو الأعلى. الصدر عارٍ، والحوض ملتف برداء طويل ينعقد من حول الخصر، ويتساقط حتى أخمص الساقين، كاشفاً عن قدمين عاريتين. الأسلوب المتبع يوناني كلاسيكي بامتياز، ويتمثّل في محاكاة المثال الواقعي الحي، كما يشهد التجسيم المتقن الذي يتجلى في نحت ملامح الوجه النضر ومختلف أعضاء البدن الأنثوي، كما في نحت ثنايا الرداء الطويل التي تنسكب على مفاصل الساقين بدقة متناهية. الذراع اليمنى منبسطة، غير أنها مبتورة، وما بقي منها يتمثل بالجزء الأعلى منها فحسب. والذراع اليسرى مطوية، وتكشف حركة يدها عن أنها تمسك بأداة ما، ضاعت بشكل كامل. تحيل هذه الحركة على نموذج من النماذج الفنية التقليدية الخاصة بسيّدة الحسن، يُعرف بـ«أفروديت المسلحة»، وهذا السلاح ما هو إلا درع حربي جعلت منه مرآة تتراءى فيها.

بحسب الرواية التي نقلها هزيودوس بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، وُلدت أفروديت في زمن التكوين الأول، من زبد البحر الذي سقطت فيه الأعضاء المبتورة من جسد أورانوس، سيّد السماء في بدء الخليقة، ويشير اسمها إلى هذه الولادة، إذ تعني «أفروس» باليونانيّة الزبد. من هذا الزبد، خُلقت فتاة سبحت نحو جزيرة كيثيرا، ثم بلغت جزيرة قبرص، ومن هناك خرجت سيّدة «ذات بهاء وخفر، يسمّونها أفروديت». وبحسب الروايات المتناقلة التي استعادها كبار الأدباء والشعراء في العالم القديم، شقت أفروديت طريقها نحو جبل الأولمب، مقر أسياد الكون الكبار، وأسرت القلوب بحسنها. ورغب زيوس سيّد الأولمب بالاقتران بها فرفضت، فعاقبها وفرض عليها الزواج بابنه هيفيستوس الذي كان يعاني من عاهة العرج في كلتا قدميه، وكانت أصابع هاتين القدمين في الخلف وعقباهما في الأمام، فزاول مهنة الحدادة التي لا تتطلب تنقّلاً، معتمداً على قوّة ساعديه، فغدا سيّد الحدادة والنار والبراكين والصناعة والبرونز، وعُرف بصناعة الأدوات والأثاث والأسلحة لكبار الأبطال. هكذا تزوجت أفروديت من هيفيستوس، إلا أنّ هذا الزواج لم يمنعها من البحث عن المتع التي لم تجدها إلى جانب قرينها القبيح، فعشقت شقيقه الجميل آريس، سيّد الحرب والهلاك والخراب، فبادلها الحب، وأهدى إليها درعه النحاسي الرهيب، فجعلت منه مرآة لها، وبات هذا الدرع رمزاً من رموزها العديدة.

ينتمي تمثال مليحة إلى الفصيلة الفنية الخاصة بأفروديت والأرجح أنه وصل إلى هذه المقاطعة من الخارج

على مدى قرون من الزمن، تبارى المثّالون والرسامون في إبراز جمال أفروديت الخارق. واللافت أن أقدم ما وصلنا من هذه الصور جاء في صيغة الرمز المجرّد، وكأن هذا الجمال الأنثوي الذي لا يوصف، أكبر من أن يتّخذ صورة محسوسة. هكذا تحتجب أفروديت في هيكلها في مدينة بافوس القبرصية لتحضر سرّياً عبر هرم مخروطي الشكل تحيطه المشاعل، قبل أن تظهر ملتفّة برداء طويل ومتوّجة بإكليل في القرن الرابع قبل الميلاد. وتكشف الكثير من الأعمال الفنيّة التي وصلتنا من تلك المرحلة عن براعة المثالين في إبراز مفاتنها خلف ثنايا القماش الملتف حول جسدها البهي. شيئاً فشيئاً، تنزع الحسناء رداءها لتظهر جمال قوامها الفتان، وتكشف أولاً عن القسم الأعلى من جسدها وهي تلفّ ثوبها المتساقط حول أسفل حوضها وساقيها، ثمّ تخلع رداءها لتظهر عارية تماماً وهي ترخي ذراعها من أمامها.

في هذا السياق، يبرز نموذج «أفروديت المسلحة» التي تتراءى في الترس النحاسي الذي أهداه إليها معشوقها آريس، وقد أشار أبولونيوس الرودسي في القرن الثاني للميلاد إلى هذا النموذج، حيث وصف في الكتاب الأول من منظومته الشهيرة «آرغونيكا»، تمثالاً يجسّد أفروديت وهي تحمل بين يديها ترساً انطبعت فوق سطحه صورة وجهها المنعكسة عليه. نقع على تماثيل عدة تتبنى هذا النموذج، أشهرها تمثال محفوظ في متحف أنطاليا الأثري في تركيا، وآخر محفوظ في متحف كابوا في إيطاليا.

ينتمي تمثال مليحة إلى هذه الفصيلة الفنية الخاصة بأفروديت، والأرجح أنه وصل إلى هذه المقاطعة من الخارج، مشكّلاً حضوراً استثنائياً لهذه المعبودة في هذه الناحية البعيدة الواقعة في شمال شرقي جزيرة العرب.


مقالات ذات صلة

التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

كتب ديدرو

التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

يعتقد الناس أحياناً أن التنوير مجرد ترف فكري خطر على بال بعض المثقفين الأوروبيين أن يخترعوه ويتسلوا به لكي يخرجوا من الدين على سبيل المشاكسة ليس إلا.

هاشم صالح
ثقافة وفنون الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

إذا كان المكتوب يُقرأ في معظم الأحيان من عنوانه، كما تقول العرب، فإن أكثر ما شدّني إلى قراءة كتاب توم لوتز «تاريخ البكاء» هو عنوانه بالذات

شوقي بزيع
ثقافة وفنون مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.

مشهد مجلس الشراب في زمن دلمون

تتعدّد الشواهد الأثرية الخاصة بحضارة دلمون، وتتنوّع، وأبرزها مجموعات الأختام الدائرية التي عُثر عليها خلال مواسم التنقيب المتواصلة في جزيرة فيلكا الكويتية

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون إلياس خوري في صورة من عام 2007 (أ.ب)

صاحب «باب الشمس»... رحيل الروائي اللبناني إلياس خوري

نعت الأوساط الثقافية الروائي والكاتب اللبناني إلياس خوري الذي رحل، صباح الأحد، عن 76 عاماً، مخلّفاً عدداً كبيراً من الروايات، خصوصاً حول مأساة فلسطين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات
TT

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

إذا كان المكتوب يُقرأ في معظم الأحيان من عنوانه، كما تقول العرب، فإن أكثر ما شدّني إلى قراءة كتاب توم لوتز «تاريخ البكاء» هو عنوانه بالذات، خصوصاً وأن المؤلف أضاف إليه عنواناً فرعياً أكثر إثارة للفضول، هو «تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي». ورغم أن موضوع البكاء، بتعبيراته المرئية وغير المرئية، لم يكن بعيداً عن متناول الباحثين في علوم الطب والاجتماع والنفس، فإن ما أكسب الموضوع جاذبيته الخاصة هو تعقب الكاتب الدؤوب لما يظنه القارئ، لشدة بديهيته واتساع رقعته الزمنية، عصياً على التدوين.

وفي تقديمه للكتاب، الصادر عن دار «صفحة 7»، الذي نقله إلى العربية عبد المنعم محجوب، يشير لوتز إلى أن دافعه للكتابة كان سؤال أستاذه رولان بارت في إحدى المحاضرات عمن من تلامذته سيكتب تاريخ الدموع. وبعد أن انبرى العديد من تلامذته للقول بشكل تلقائي «كلنا سيفعل ذلك»، أحس لوتز برغبته العميقة في عدم خذلان أستاذه، وبأن واجبه الأخلاقي أن يتصدى لهذه المهمة، مهما كان حجم الصعاب التي تعترض طريقه. لكن هذا الدافع المباشر كان مقروناً بدافعين آخرين، يتعلق أولهما بتبرم لوتز من التنظير الفلسفي المحض الذي يسميه «تواتر اللامعنى»، وبنزوعه الملح إلى المواءمة التامة بين الفلسفة التطبيقية والعلوم الحديثة.

أما ثانيهما فيرتبط بتكوين المؤلف النفسي والعاطفي. فهو إذ يصنف البشر بين بكائين و«جفافين»، أي الذين جفت مدامعهم، يعلن انحيازه بصورة واضحة إلى الصنف الأول، مستعيناً على مهمته بالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وبعلم وظائف الأعضاء والفيزيولوجيا العصبية والكيمياء والحيوية. لكن كل تلك العلوم لم تكن لتكسب الكتاب أهميته، لولا الخلطة السحرية التي وفرها لوتز لكتابه، جامعاً على طريقة أستاذه بارت، بين المعرفة الموسوعية الجامعة، ودقة التصويب إلى التفاصيل، والأسلوب الشاعري المتوهج.

وإذ يستهل المؤلف كتابه بمجموعة من التساؤلات المتتالية عن أسباب البكاء، وعن الطبيعة الملتبسة للدموع التي اعتدنا على ذرفها في مناسبات متناقضة، كتعبير عن الفرح أو الحزن، الربح أو الخسارة، عن متعة الحب وآلام الفراق، وعن الاحتفال بقريبٍ عائد أو الحداد على عزيزٍ راحل، لا يتوانى عن العودة بعيداً إلى الوراء، ليتقصى جذور الدموع الأم في الميثولوجيا والدين والشعر والسحر والطقوس الجمعية المختلفة.

وقد بدت الدموع في حضارات الشرق القديمة، كما لو أنها الخمرة المسكرة، أو الماء الذي يحتاجه المكلومون لإرواء غليلهم. فالآلهة العذراء «عناة»، ظلت تذرف الدموع إثر وفاة أخيها «بعل» إلى أن «أتخمت نفسها بكاءً وصارت تشرب الدموع كما الخمر»، وفق النصوص التي اكتشفت في أوغاريت في مطالع القرن الفائت. لا بل إن للدموع في الأساطير، بخاصة دموع النساء، أثرها البالغ على عتاة «الصفوف الأولى» من الآلهة، الذين عمدوا بتأثير من بكاء «عناة» إلى إعادة «بعل» إلى الحياة لشهور عدة. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع بكاء عشتروت على أدونيس، وإنانا على ديموزي، وإيزيس على أوزيريس.

وفي «العهد القديم» تبدو الدموع بمثابة التماس للغفران وتطهر من الإثم، حيث يقول الرب لحزقيال «لقد رأيت دموعك وها أنا أشفيك». كما أن داود في المزامير يستخدم دموعه لاستدرار عطف الخالق، مفترضاً أن دموع الصلاة غالباً ما يُستجاب لها، ومردداً بحرقة بالغة «اسمع صلاتي يا رب، واصغِ إلى بكائي، ولا تسكت عن دموعي». ويعدُّ المؤلف أن العبريين الذين أقاموا حائطاً للدموع سموه «حائط المبكى»، لم يتركوا وسيلة من وسائل العويل وشق الثياب والتلطخ بالرماد إلا واستخدموها للتأثير على إلههم «يهوه»، الذي كان يعاقبهم على جحودهم وإيغالهم في العقوق وارتكاب الفواحش، قبل أن يشفق عليهم في نهاية الأمر. وبعد أن حل بهم وباء الجراد، وشرعوا بشق الثياب كالعادة، ينقل نبيهم يوئيل عن «يهوه» قوله لهم «اذهبوا الآن وارجعوا إليَّ بالصوم والصلاة والبكاء والنواح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم».

وفي الأناجيل الأربعة لم تبتعد دلالة الدموع عن دلالاتها في التوراة. لا بل إن دموع مريم المجدلية التي ركعت باكية عند قدمي المسيح، وفق ما رواه لوقا، وأخذت تمسحهما بشعر رأسها وتدهنهما بالطيب، كانت واحدة من علامات توبتها وتطهرها من الخطايا، الأمر الذي أكدته مخاطبة المسيح لها بالقول «إن إيمانكِ قد خلّصك يا امرأة، اذهبي بسلام». وإذ تبدو الدموع في المسيحية جزءاً لا يتجزأ من طقوس البكاء على المسيح، يتساءل القديس أوغسطين عما إذا كانت الدموع تستمد حلاوتها من الاعتقاد بأنها مرئية من قبل الله، فيما يقر توما الأكويني بأن ذرفها بكثرة هو ما يخفف المعاناة ويتيح الحصول على النعمة.

ولم تكن الدموع بما تحمله من دلالات متداخلة لتغيب عن بال المبدعين في العصور القديمة والحديثة. وقد أثارت العلاقة بين الدموع والجمال اهتمام الكثير من الشعراء والفنانين، وفي طليعتهم فيرجيل الذي أشار في «الإنياذة» إلى الدموع التي تشبه الزخارف، كما يرد في أحد الأمثال القديمة بأن «المرأة ترتدي دموعها مثل المجوهرات». وحيث يعدُّ أوفيد أن الدموع تجرف الحزن بعيداً، وتضفي على المرأة قدراً غير قليل من الجاذبية والجمال، يتحدث يوروبيديس عن الدموع التي ترافق اللذة، فيما يعدها آخرون بمثابة العقوبة الطبيعية للمتعة.

إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرين من النظر إلى دموع المرأة بعين الريبة والتوجس، وفي طليعتهم وليم شكسبير الذي حذر في غير واحدة من مسرحياته، مما تخفيه الدموع وراءها من مكائد. فهو يقول بلسان عطيل، وقد استبدت به مشاعر الغيرة على ديسدمونا: «أيها الشيطان، إذا سالت دموع امرأة على الأرض، فكل قطرة تذرفها ستثبت أنها تمساح».

وفي إطار ما يسميه المؤلف «علم اجتماع الدموع»، يشير لوتز إلى العديد من ظواهر البكاء الحدادي في العالم. فهو إذ يبدو عند بعض الجماعات نوعاً من قطع الروابط الأخيرة مع الموتى، يتحول عند بعضها الآخر إلى مهنة للارتزاق، كما تفعل قبائل الولف السنغالية، حيث يتم استئجار النساء للندب على الموتى. وإذ تناط بالنساء مهمة البكاء بالأجرة في بعض مناطق الفيليبين، ما يلبث الطرف المستأجِر أن يقدِّم لهن حبوباً باعثة على الضحك، كنوع من التسرية عنهن بعد إنجاز المهمة.

فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي

على أن فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي، سواء تعلق الأمر بالبكاء على الأطلال، أو دموع الصوفيين كرابعة العدوية، أو دموع العشاق العذريين، أو بطقوس النواح الكربلائي، وصولاً إلى الدموع السخية التي ذرفها الأحياء على الموتى، في مسلسل الحروب الدموية التي لا تكف عن التوالد. وإذا لم يكن لباحثٍ أميركي أن يتنبه لهذا الأمر، فقد تكفل الشعراء العرب بهذه المهمة على أكمل وجه، بحيث بدا الشعر العربي في جانبه الأكبر، مدونة للرثاء والفقدان، بدءاً بمعلقة امرئ القيس الاستهلالية «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ»، وليس انتهاء بصرخة محمود درويش ذات مواجهة مماثلة مع الاحتلال:

تعب الرثاءُ من الضحايا

والضحايا جمَّدت أحزانها

أوَّاه مَن يرثي المراثي؟

في غزة اختلف المكانُ مع الزمان،

وكانت الصحراء جالسةً على جلدي،

وأول دمعةٍ في الأرض كانت دمعةً عربيةً،

هل تذكرون دموع هاجرَ،

أوّل امرأةٍ بكتْ في هجرةٍ لا تنتهي؟

عاجل نصرالله يقول إن «حزب الله» تعرض «لضربة كبيرة أمنيا وإنسانيا وغير مسبوقة»