مجلة «داليدا» تصدر عدداً تذكارياً في الذكرى الـ30 لرحيل النجمة العالمية

إصدار فصلي يعنى بتفاصيل الحياة المصرية في الزمن الجميل

غلاف العدد
غلاف العدد
TT

مجلة «داليدا» تصدر عدداً تذكارياً في الذكرى الـ30 لرحيل النجمة العالمية

غلاف العدد
غلاف العدد

تجربة جديدة في عالم الصحافة المستقلة يخوضها فريق من شباب الصحافيين المصريين بإصدارهم مجلة «داليدا»، المعنية بالصحافة الشعبية، وهي تصدر خصيصاً لأهل شبرا ووسط القاهرة في محاولة لاستعادة الزمن الذهبي لمدينة القاهرة. وخصص العدد التذكاري الثالث منها والصادر تحت عنوان «داليدا زهر البنفسج»، عن النجمة المصرية الإيطالية التي رحلت عن عالمنا قبل 30 عاماً.
وقد أثارت المجلة ردود فعل قوية داخل ومصر خارجها، كونها تحمل طابعاً «نوستالجيا» إذ تركز المقالات والتقارير التي تحتويها على جرعة كبيرة من الحنين للزمن الجميل والطابع الكوزموبوليتاني للمجتمع المصري خلال القرن العشرين. يشرف على المجلة الزملاء مروة فودة، وسامح الكاشف، ومصطفى طاهر، ويموّلونها بجهودهم الذاتية. اختار القائمون على المجلة أن يطلقوا عليها اسم «داليدا» التي ولدت بهذا الحي؛ استلهاماً للروح التي كانت تسوده من تسامح وكوزموبوليتانية.
يحفل العدد بمجموعة صور فوتوغرافية نادرة للفنانة داليدا سواء بالألوان أو بالأبيض والأسود، تجسد مراحلها العمرية كافة، واحتفاء العالم بها كنجمة مصرية، وصور لإصدارات الطوابع التذكارية التي أصدرتها فرنسا لها تمجيداً وتخليداً لاسمها وعطائها للفن والموسيقى والغناء في العالم.
تقول رئيسة تحرير المجلة مروة فودة لـ«الشرق الأوسط»، إنّ هذا العدد مهدى لعشاق النجمة الراحلة، وهو يركز على تفاصيل حياتها وقصة انتحارها، كما يتضمن العدد مقالات خاصة لكل من الكاتب الصحافي أشرف عبد الشافي، وأمينة خيري، وريم عزمي، ومروة سلام، والروائية شهلا العجيلي، وحسام علوان، ومصطفى طاهر. ويشارك في العدد نخبة من الفنانين التشكيليين المصريين، منهم: محمد أبو طالب، وجورج بهجوري، وإسماعيل عزام، وحسن فداوي، وعلاء حجازي، وياسمين الخطيب، وريهام عفيفي، ومي حشمت، وأحمد حساني».
ولدت الفنانة داليدا يولاندا كريستينا جيجليوتي 17 يناير (كانون الثاني) 1933 - 3 مايو (أيار) 1987) في حي شبرا، لأسرة إيطالية عاشت مندمجة مع الطبقات المتوسطة المصرية، شاركت في مسابقة ملكة جمال مصر وفازت بها سنة 1954 خرجت من مصر إلى إيطاليا ثم فرنسا، لتثري عالم الطرب بثماني لغات مختلفة: العربية والإيطالية والعبرية والفرنسية واليونانية واليابانية والإنجليزية والإسبانية والألمانية. تركت إرثاً موسيقياً لا يزال حاضراً بين الأجيال الجديدة في مختلف أنحاء العالم.
صدر العدد في 128 صفحة، وتناول إلى جانب حياة داليدا، حياة فنانين مصريين لأسر فرنسية وإيطالية ويونانية ليروي الحياة والتراث شديد التنوع، من بينهم: ديميس روسوس الأيقونة الخالدة في الذاكرة السمعية للعالم، وكلود فرنسوا ابن الإسماعيلية، وجورج موستاكي اليهودي التائه الذي يبكي كراهية الناس، وبوب عزام صاحب الأغنية الشهيرة «يا مصطفى يا مصطفى»، كما يعرض العدد دراما اللحظات الأخيرة في حياتها، ويخوض في عالم سينما داليدا، وحلم التمثيل الذي طالما راودها، وحكاية التمثال الحجري الذي نُصب أمام قبرها في فرنسا.
صدر العدد التذكاري الأول من مجلة «داليدا» العام الماضي عن إحياء الذكرى المئوية لمذابح الأرمن.. أمّا العدد الثاني فكان عن مشايخ التلاوة في مصر.
توزع مؤسسة الأهرام المجلة، وينوي القائمون عليها أن تصدر شهرياً مع استعدادهم لإطلاق الموقع الإلكتروني نزولاً على طلبات القراء من مختلف أنحاء العالم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)