إدارة ترمب والمواجهة مع «داعش»

شهادة الخبير والسفير السابق جيمس جيفري

قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)
قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)
TT

إدارة ترمب والمواجهة مع «داعش»

قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)
قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)

أكد الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب في الأول من مارس (آذار) الحالي في خطابه الأول أمام الكونغرس ما ذهب إليه كثيرون من الخبراء والمختصين في قضايا الإرهاب والشرق الأوسط؛ إذ كشف عن البدء في صياغة سياسة واستراتيجية جديدة تخص مواجهة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف، وتكفلت وزارة الدفاع (البنتاغون) بهذه المهمة المرتبطة بالأمن القومي الأميركي. كذلك أكدت كلمة ترمب على استمرار العمل مع الحلفاء التقليديين من العالم الإسلامي، من أجل إلحاق الهزيمة بتنظيم «أبو بكر البغدادي» في الشرق الأوسط ومحوه من الوجود. وتأتي هذه المستجدات في أقل من شهر من عودة جيمس جيفري، الخبير في «معهد واشنطن» والسفير السابق لدى العراق وتركيا، لتقديم شهادة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي يوم 7 فبراير (شباط) 2017 بخصوص مواجهة تنظيم داعش، بعنوان «خطة لهزيمة تنظيم داعش: قرارات واعتبارات رئيسية». وكان الخبير نفسه قد قدم يوم 12 فبراير من عام 2015 شهادة سابقة للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي.
يبدو أن صناعة الاستراتيجية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وبالأخص في مجال مكافحة الإرهاب، من أولويات الإدارة الأميركية الجمهورية الجديدة. وواضح أن توجهات الكونغرس تستحضر بقوة ضرورة تغيير السياسة القديمة التي أشرف عليها الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، وهي السياسة التي أدت إلى مزيد من التوسع الإيراني في المنطقة، رغم النجاحات النسبية التي تحققت في مواجهة «داعش»، خصوصا على أرض العراق.
وفي هذا السياق، استهل جيمس جيفري، الخبير في «معهد واشنطن» والسفير الأميركي السابق لدى العراق وتركيا، ورقته المقدمة أمام النواب، بالتأكيد على أن تنظيم داعش المتطرف «تهديد مطروح على الولايات المتحدة وشركائها وحلفائها بالشرق الأوسط مواجهته، ضماناً للاستقرار». وأن النجاح في تنفيذ هذه المهمة يتطلب اليوم الانتقال إلى مرحلة جديدة، وتفعيل استراتيجية تقوم على بذل جهود فورية ومكثفة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية «لتدمير هذه الآفة الإرهابية باعتبارها الأولوية الأكثر إلحاحاً في المنطقة» حسب قوله. ولقد أشارت تقارير منشورة وتصريحات للإدارة الأميركية إلى أن إدارة الرئيس الجديد دونالد ترمب تؤيد هذا الهدف تأييداً كاملاً.
بيد أن هذه الخطورة التي يمثلها تنظيم «أبو بكر البغدادي»، لا تنسي الولايات المتحدة أن هناك خطراً يتربص بالمصالح الأميركية العليا أولا، وباستقرار الشرق الأوسط ثانياً، وبتدفق الغاز والنفط ثالثاً. ذلك أن إيران وأنشطتها الحربية التوسّعية، تجد لها شريكاً حقق بدوره عودة قوية إلى المنطقة يتمثل في روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين؛ وبالتالي، يجب النظر إلى الشراكة الإيرانية - الروسية على أنها تشكل تهديداً مباشراً للمصالح القومية للولايات المتحدة.
ومن هنا يغدو «لجم إيران» هدفاً استراتيجياً أميركياً، خصوصاً أن ثمة مؤشرات تؤكد أن النفوذ الإيراني في العراق وصل إلى درجة من الحدة يمكن القول معها إنه بات «بنيوياً» و«مؤسساتياً» بحيث يصعب تجاوزه.
وبما أن الولايات المتحدة تواجه هذه الحقيقة على الأرض؛ فإن النظرة الاستراتيجية الجديدة لا يجب أن تنحصر بإلحاق الهزيمة بتنظيم داعش وأشباهه فحسب، بل يجب أن تشمل أيضا وضع خطة للتعاون مع الجهات التي يمكن أن تساعد في تحقيق الهدف الأوسع والأبعد. ومن هنا يرى محللون أن على الإدارة الجمهورية الجديدة أن تتعاون مع تركيا في سعيها «لاستعادة مدينة الرقّة في سوريا»، وفي المقابل على أنقرة أن تعي أن الأهداف الأميركية الخاصة بإلحاق الهزيمة بتنظيم «البغدادي» قد تقضي بمشاركة لاعبين فاعلين لا يحضون بقبول أنقرة التام.
الحقيقة أن إلحاق هزيمة ساحقة ونهائية بالتنظيم الإرهابي المتطرف هدف طويل المدى، ولذا يرى البعض أن على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان «تفهّم» مسألة إشراك ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، خصوصا بعد التصويت على الدستور في بداية أبريل (نيسان). وفي هذه المعركة بالضبط «وإذا رغبت الولايات المتحدة في تحقيق نصر سريع ضد (داعش) سيتوجب عليها على الأرجح إشراك قوات دعم إضافية وربما تشكيلات قتالية برية محدودة». وهذا بطبيعة الحال إن تم تنفيذه، سيمثل تحوّلاً مهماً في السياسة الأميركية ضد الإرهاب التي طبقها أوباما.
وعلى ما يبدو، فالواقع الحالي يفرض التسريع في تغيير الاستراتيجية القديمة، ذلك أن التحدي لا يكمن فقط في تدمير «داعش» وخلافته المزعومة في زمن «الهيمنة» الإيرانية والتوسّع الروسي في الشرق الأوسط، بل نلحظه كذلك في الصراع الجيو - سياسي القائم حول مَن سيقود عملية التحوّل المستقبلي المهم في الشرق الأوسط المنطقة بعد ضرب «داعش» وتصفيته. ذلك أننا في مرحلة انتقالية شبيهة بتلك التي حصلت بدخول أميركا إلى العراق، وقبلها، نشوب الثورة الإيرانية، والتحولات التي أنتجتها حرب 1973.
وبناءً عليه، من الطبيعي أن الصراع مع الإرهاب وإيران صراع جيو - سياسي، يضع المصالح الكبرى لأميركا على المحك. ومن هنا ثمة ضرورة للتفكير بوضع المنطقة في مرحلة ما بعد «داعش».
بكلام آخر، على الإدارة الأميركية الجديدة اختيار استراتيجيتها السياسية - العسكرية لضرب التنظيم وتصفيته ليس من وجهة نظر عسكرية فقط، بل أيضاً من وجهة نظر سياسية تشمل هدف وضع سيناريو «اليوم التالي» الذي يُبقي الولايات المتحدة في المنطقة، ويبعد الطموحات الإيرانية، ويتعامل بصورة صحيحة مع «الوجود الروسي الذي لا مفر منه».
* ضرب «داعش»
في هذا الإطار ينبه الخبير جيمس جيفري، لطبيعة تنظيم داعش باعتباره «خلافة» مزعومة، تدّعي الاستناد إلى أسس دينية، في جغرافية لها سكان واقتصاد وجيش وحكومة. وفي الوقت نفسه، ترتبط بتنظيم «أبو بكر البغدادي» فروع عدة، تستفيد من ضعف سيطرة بعض البلدان الإسلامية على كامل ترابها الوطني. ومن هنا، وجب التوجه رأسا إلى سحق «داعش» في «عاصمتيه» (الموصل والرقّة) في العراق وسوريا، لضمان تقليص التهديدات الإرهابية وتأثيرها على الولايات المتحدة والشرق الأوسط؛ إذ إن استعادة الرقّة والموصل تعني حتما القضاء على التنظيم الإرهابي المتطرف في صورته الحالية التي ظهر بها منذ 2012.
لكن كيف يمكننا إدارة هذه المعركة الحاسمة؟
يقترح السفير الأميركي السابق لدى العراق وتركيا «خريطة» تجمع بين متناقضات عدة لكنها تشكل رؤية جديدة تراعي مصالح تركيا والولايات المتحدة، كما تدعو إدارة ترمب لإيجاد صيغة جديدة للتعايش مع الروس في المنطقة، وتحديداً في سوريا. ذلك أن المعركة ضد الإرهاب تتطلب تنسيقاً عسكرياً وسياسياً من جميع الأطراف الفاعلة على الأرض، سواء تعلق الأمر بمعركة الرقّة أو معركة الموصل وما سيتبعهما.
في العراق، يبدو أن استعادة غرب الموصل قد تستغرق بعض الوقت رغم الجهود والتنسيق القائم بين التحالف الدولي والقوات العراقية. وفي حالة نجاح الخطة العسكرية سيتمركز تنظيم «البغدادي» في الحويجة قرب مدينة كركوك. ورغم أن هذه الأخيرة هدف سهل على ما يبدو، فإن الولايات المتحدة بحاجة «للمناورات الميدانية» التي ستنفذها على وجه الخصوص ميليشيات «البيشمركة» الكردية وميليشيات «وحدات الحشد الشعبي» الشيعية إلى حد كبير. وبالتالي، ستتطلب مشاركة حذرة من قبل الولايات المتحدة لتجنب المواجهات وتعزيز مصالح واشنطن في العراق على المدى الطويل.
* المشهد السوري
على المستوى السوري، يبدو الأمر أكثر تعقيدا وتشابكا. فرغم أن تقارير عدة تفيد بأن أميركا تجري استعداداتها الأخيرة للدخول في معركة الرقّة؛ فإن «داعش» ما زال يستفيد هناك من قوته في مناطق متفرقة، ومن تناقضات عسكرية وسياسية محيطة بأرض المعركة. وفي ظل هذا الوضع، يضع جيمس جيفري الولايات المتحدة أمام خمسة خيارات عسكرية لا تخلو من بعد سياسي:
- الخيار الأول: يعتمد على ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (التي يشكل الأكراد عمودها الفقري) وتضم 27 وحدة عسكرية بقيادة ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية. وهذا الخيار رفضته إدارة ترمب الجديدة. وأيضا من الناحية العسكرية لا يملك هذا الخليط من الميليشيات أسلحة ثقيلة ولا تقنيات «حرب المدن»، الشيء الذي يعني تقديم مزيد من تسليح «وحدات حماية الشعب» من طرف واشنطن. وهذا يعرقل التعاون والتنسيق الاستعلاماتي - الاستخباراتي مع أنقرة، ويحد من حركة أي قوات أميركية في سوريا لحاجتها الأساسية لاستعمال الأراضي، القواعد العسكرية التركية. بالإضافة إلى ذلك، يشير جيفري إلى مسألة مهمة أخرى، حيث يذكر في شهادته أمام الكونغرس، أنه «وفقاً لمسودة تقرير من قبل (معهد واشنطن)، فجميع القبائل العربية الرئيسية الأربع المنتشرة حول الرقّة على خلاف تتفاوت حدته مع الأكراد، ما يثير تساؤلات حول (اليوم التالي) في الرقّة إذا تم تحرير المدينة من قبل ميليشيات الأكراد أو (العناصر العربية التابعة لسيطرتهم). وهو يطرح بقوة إمكانية تعاون (وحدات حماية الشعب) مع إيران والنظام السوري الحالي».
- الخيار الثاني: التحالف التركي، ويقوده التحالف الدولي، باستخدام «الجيش السوري الحر» وقوات من مشاة الجيش التركي. ويبدو أن تركيا عاجزة بمفردها على تنفيذ هذا الخيار. إلا أن أهميته تكمن في قدرته القوية على النفاذ داخل محيط الرقّة الطائفي - العرقي المتكوّن من خليط من القوات السنّيّة ذات الغالبية العربية، ما يساعد بفعالية على سحب البساط من تحت تنظيم «الخلافة». ولأهمية هذا الاعتبار ينبه الخبير جيفري إلى التقرير المرتقب صدوره عن «معهد واشنطن» ويشير «إلى أن قبائل الرقّة ستكون أقل عدائية تجاه أي وجود تركي، إلا أن تنامي الدور العسكري التركي يمكن أن يمثّل مشكلة لكل من ميليشيا (وحدات حماية الشعب) الكردية وتحالف الأسد وإيران وروسيا».
- الخيار الثالث: الدمج بين الخيارين السابقين، وهو أفضل خيار مطروح بالنسبة لإدارة ترمب من طرف جيمس جيفري؛ ويهدف إلى امتصاص مخاوف الأتراك الخاصة بالميليشيات الكردية الانفصالية ويجعل من «الجيش السوري الحر» مشاركاً في عملية تحرير الرقّة. إلا أن دمج الخيارين الأول والثاني، يحتاج لجهود دبلوماسية كبيرة لتحقيق نتائج في غاية الأهمية لا تنحصر في هزيمة «داعش» وخلق نوع من الثقة المتبادلة بين الأتراك و«وحدات حماية الشعب» والولايات المتحدة والجيش الحر. وهو ما سيسهل من الجهود السياسية الأميركية بشأن تصوراتها لمستقبل المنطقة من دون «داعش».
- الخيار الرابع: الدعم الروسي - الإيراني - النظامي، إلا أنه يشكل مشكلة في حد ذاته؛ فلا القوات الروسية الجوية دقيقة في عملياتها، ولا الميليشيات الإيرانية وقوات الأسد يمكنها إحراز تقدم من دون مخاطر ناجمة عن رفض السكان السنة لمثل هذا التوغل في مناطقهم. ومن هنا يلزم تجنب اللجوء لمثل هذا الخيار، والاكتفاء بالتعاون الاستخباراتي؛ بالتنسيق في العمليات الجوية مع موسكو، ما يحقق مزيدا من التضييق على إيران.
- الخيار الخامس: استخدام قوات من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، ومعلوم أن الولايات المتحدة تمارس تساهلاً مهماً فيما يخص حركة السلاح والعتاد والخبراء في المنطقة. ويبدو أن وزارة الدفاع (البنتاغون) تسير في منحى يقوي هذه الاستراتيجية. «أما الخطوة الأكثر حسماً»، التي يطرحها جيفري فهي إشراك قوات من النخبة الأميركية تضمّ عدة آلاف من العناصر، أو من «ناتو»، في القتال المباشر ضد «داعش».
* ما بعد «داعش»
بعد استعادة الموصل والرقّة؛ ستجد المنطقة نفسها أمام تغيير مهم، ويجب على الولايات المتحدة ضمان مصالحها الطويلة الأمد في كل من سوريا والعراق؛ إذ إن تدمير دولة «الخلافة» المزعومة الذي أسسها «داعش» يتطلب العمل على تحقيق مصالح السكان، وترتيب الوضع بشكل يمنع أي عودة للمجموعات الإرهابية. هذا الهدف يتطلب تدخلاً أميركياً لضبط الوضع، وتجاوز التحديات التي تشكلها المجموعات المسلحة، والحفاظ على وحدة العراق، والحد من نفوذ إيران في كل من العراق وسوريا، ومواجهة التوسع الروسي وفصل روسيا عن إيران وسوريا.
كذلك يجب العمل على عقد مصالحة تاريخية بين ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية مع تركيا بقيادة رجب طيب إردوغان، والإبقاء على إمكانية «تسليح الجيش السوري الحر». وبالتالي، يلزم أن يكون للولايات المتحدة وجود عسكري على الأرض داخل سوريا والعراق لتدريب ميليشيا «البيشمركة» الكردية وجنود الجيش العراقي؛ ودعم إقامة «منطقة حرة» حول الرقّة، وكذلك دعم «المنطقة التركية» في شمال سوريا.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.