إدارة ترمب والمواجهة مع «داعش»

شهادة الخبير والسفير السابق جيمس جيفري

قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)
قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)
TT

إدارة ترمب والمواجهة مع «داعش»

قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)
قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)

أكد الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب في الأول من مارس (آذار) الحالي في خطابه الأول أمام الكونغرس ما ذهب إليه كثيرون من الخبراء والمختصين في قضايا الإرهاب والشرق الأوسط؛ إذ كشف عن البدء في صياغة سياسة واستراتيجية جديدة تخص مواجهة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف، وتكفلت وزارة الدفاع (البنتاغون) بهذه المهمة المرتبطة بالأمن القومي الأميركي. كذلك أكدت كلمة ترمب على استمرار العمل مع الحلفاء التقليديين من العالم الإسلامي، من أجل إلحاق الهزيمة بتنظيم «أبو بكر البغدادي» في الشرق الأوسط ومحوه من الوجود. وتأتي هذه المستجدات في أقل من شهر من عودة جيمس جيفري، الخبير في «معهد واشنطن» والسفير السابق لدى العراق وتركيا، لتقديم شهادة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي يوم 7 فبراير (شباط) 2017 بخصوص مواجهة تنظيم داعش، بعنوان «خطة لهزيمة تنظيم داعش: قرارات واعتبارات رئيسية». وكان الخبير نفسه قد قدم يوم 12 فبراير من عام 2015 شهادة سابقة للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي.
يبدو أن صناعة الاستراتيجية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وبالأخص في مجال مكافحة الإرهاب، من أولويات الإدارة الأميركية الجمهورية الجديدة. وواضح أن توجهات الكونغرس تستحضر بقوة ضرورة تغيير السياسة القديمة التي أشرف عليها الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، وهي السياسة التي أدت إلى مزيد من التوسع الإيراني في المنطقة، رغم النجاحات النسبية التي تحققت في مواجهة «داعش»، خصوصا على أرض العراق.
وفي هذا السياق، استهل جيمس جيفري، الخبير في «معهد واشنطن» والسفير الأميركي السابق لدى العراق وتركيا، ورقته المقدمة أمام النواب، بالتأكيد على أن تنظيم داعش المتطرف «تهديد مطروح على الولايات المتحدة وشركائها وحلفائها بالشرق الأوسط مواجهته، ضماناً للاستقرار». وأن النجاح في تنفيذ هذه المهمة يتطلب اليوم الانتقال إلى مرحلة جديدة، وتفعيل استراتيجية تقوم على بذل جهود فورية ومكثفة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية «لتدمير هذه الآفة الإرهابية باعتبارها الأولوية الأكثر إلحاحاً في المنطقة» حسب قوله. ولقد أشارت تقارير منشورة وتصريحات للإدارة الأميركية إلى أن إدارة الرئيس الجديد دونالد ترمب تؤيد هذا الهدف تأييداً كاملاً.
بيد أن هذه الخطورة التي يمثلها تنظيم «أبو بكر البغدادي»، لا تنسي الولايات المتحدة أن هناك خطراً يتربص بالمصالح الأميركية العليا أولا، وباستقرار الشرق الأوسط ثانياً، وبتدفق الغاز والنفط ثالثاً. ذلك أن إيران وأنشطتها الحربية التوسّعية، تجد لها شريكاً حقق بدوره عودة قوية إلى المنطقة يتمثل في روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين؛ وبالتالي، يجب النظر إلى الشراكة الإيرانية - الروسية على أنها تشكل تهديداً مباشراً للمصالح القومية للولايات المتحدة.
ومن هنا يغدو «لجم إيران» هدفاً استراتيجياً أميركياً، خصوصاً أن ثمة مؤشرات تؤكد أن النفوذ الإيراني في العراق وصل إلى درجة من الحدة يمكن القول معها إنه بات «بنيوياً» و«مؤسساتياً» بحيث يصعب تجاوزه.
وبما أن الولايات المتحدة تواجه هذه الحقيقة على الأرض؛ فإن النظرة الاستراتيجية الجديدة لا يجب أن تنحصر بإلحاق الهزيمة بتنظيم داعش وأشباهه فحسب، بل يجب أن تشمل أيضا وضع خطة للتعاون مع الجهات التي يمكن أن تساعد في تحقيق الهدف الأوسع والأبعد. ومن هنا يرى محللون أن على الإدارة الجمهورية الجديدة أن تتعاون مع تركيا في سعيها «لاستعادة مدينة الرقّة في سوريا»، وفي المقابل على أنقرة أن تعي أن الأهداف الأميركية الخاصة بإلحاق الهزيمة بتنظيم «البغدادي» قد تقضي بمشاركة لاعبين فاعلين لا يحضون بقبول أنقرة التام.
الحقيقة أن إلحاق هزيمة ساحقة ونهائية بالتنظيم الإرهابي المتطرف هدف طويل المدى، ولذا يرى البعض أن على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان «تفهّم» مسألة إشراك ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، خصوصا بعد التصويت على الدستور في بداية أبريل (نيسان). وفي هذه المعركة بالضبط «وإذا رغبت الولايات المتحدة في تحقيق نصر سريع ضد (داعش) سيتوجب عليها على الأرجح إشراك قوات دعم إضافية وربما تشكيلات قتالية برية محدودة». وهذا بطبيعة الحال إن تم تنفيذه، سيمثل تحوّلاً مهماً في السياسة الأميركية ضد الإرهاب التي طبقها أوباما.
وعلى ما يبدو، فالواقع الحالي يفرض التسريع في تغيير الاستراتيجية القديمة، ذلك أن التحدي لا يكمن فقط في تدمير «داعش» وخلافته المزعومة في زمن «الهيمنة» الإيرانية والتوسّع الروسي في الشرق الأوسط، بل نلحظه كذلك في الصراع الجيو - سياسي القائم حول مَن سيقود عملية التحوّل المستقبلي المهم في الشرق الأوسط المنطقة بعد ضرب «داعش» وتصفيته. ذلك أننا في مرحلة انتقالية شبيهة بتلك التي حصلت بدخول أميركا إلى العراق، وقبلها، نشوب الثورة الإيرانية، والتحولات التي أنتجتها حرب 1973.
وبناءً عليه، من الطبيعي أن الصراع مع الإرهاب وإيران صراع جيو - سياسي، يضع المصالح الكبرى لأميركا على المحك. ومن هنا ثمة ضرورة للتفكير بوضع المنطقة في مرحلة ما بعد «داعش».
بكلام آخر، على الإدارة الأميركية الجديدة اختيار استراتيجيتها السياسية - العسكرية لضرب التنظيم وتصفيته ليس من وجهة نظر عسكرية فقط، بل أيضاً من وجهة نظر سياسية تشمل هدف وضع سيناريو «اليوم التالي» الذي يُبقي الولايات المتحدة في المنطقة، ويبعد الطموحات الإيرانية، ويتعامل بصورة صحيحة مع «الوجود الروسي الذي لا مفر منه».
* ضرب «داعش»
في هذا الإطار ينبه الخبير جيمس جيفري، لطبيعة تنظيم داعش باعتباره «خلافة» مزعومة، تدّعي الاستناد إلى أسس دينية، في جغرافية لها سكان واقتصاد وجيش وحكومة. وفي الوقت نفسه، ترتبط بتنظيم «أبو بكر البغدادي» فروع عدة، تستفيد من ضعف سيطرة بعض البلدان الإسلامية على كامل ترابها الوطني. ومن هنا، وجب التوجه رأسا إلى سحق «داعش» في «عاصمتيه» (الموصل والرقّة) في العراق وسوريا، لضمان تقليص التهديدات الإرهابية وتأثيرها على الولايات المتحدة والشرق الأوسط؛ إذ إن استعادة الرقّة والموصل تعني حتما القضاء على التنظيم الإرهابي المتطرف في صورته الحالية التي ظهر بها منذ 2012.
لكن كيف يمكننا إدارة هذه المعركة الحاسمة؟
يقترح السفير الأميركي السابق لدى العراق وتركيا «خريطة» تجمع بين متناقضات عدة لكنها تشكل رؤية جديدة تراعي مصالح تركيا والولايات المتحدة، كما تدعو إدارة ترمب لإيجاد صيغة جديدة للتعايش مع الروس في المنطقة، وتحديداً في سوريا. ذلك أن المعركة ضد الإرهاب تتطلب تنسيقاً عسكرياً وسياسياً من جميع الأطراف الفاعلة على الأرض، سواء تعلق الأمر بمعركة الرقّة أو معركة الموصل وما سيتبعهما.
في العراق، يبدو أن استعادة غرب الموصل قد تستغرق بعض الوقت رغم الجهود والتنسيق القائم بين التحالف الدولي والقوات العراقية. وفي حالة نجاح الخطة العسكرية سيتمركز تنظيم «البغدادي» في الحويجة قرب مدينة كركوك. ورغم أن هذه الأخيرة هدف سهل على ما يبدو، فإن الولايات المتحدة بحاجة «للمناورات الميدانية» التي ستنفذها على وجه الخصوص ميليشيات «البيشمركة» الكردية وميليشيات «وحدات الحشد الشعبي» الشيعية إلى حد كبير. وبالتالي، ستتطلب مشاركة حذرة من قبل الولايات المتحدة لتجنب المواجهات وتعزيز مصالح واشنطن في العراق على المدى الطويل.
* المشهد السوري
على المستوى السوري، يبدو الأمر أكثر تعقيدا وتشابكا. فرغم أن تقارير عدة تفيد بأن أميركا تجري استعداداتها الأخيرة للدخول في معركة الرقّة؛ فإن «داعش» ما زال يستفيد هناك من قوته في مناطق متفرقة، ومن تناقضات عسكرية وسياسية محيطة بأرض المعركة. وفي ظل هذا الوضع، يضع جيمس جيفري الولايات المتحدة أمام خمسة خيارات عسكرية لا تخلو من بعد سياسي:
- الخيار الأول: يعتمد على ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (التي يشكل الأكراد عمودها الفقري) وتضم 27 وحدة عسكرية بقيادة ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية. وهذا الخيار رفضته إدارة ترمب الجديدة. وأيضا من الناحية العسكرية لا يملك هذا الخليط من الميليشيات أسلحة ثقيلة ولا تقنيات «حرب المدن»، الشيء الذي يعني تقديم مزيد من تسليح «وحدات حماية الشعب» من طرف واشنطن. وهذا يعرقل التعاون والتنسيق الاستعلاماتي - الاستخباراتي مع أنقرة، ويحد من حركة أي قوات أميركية في سوريا لحاجتها الأساسية لاستعمال الأراضي، القواعد العسكرية التركية. بالإضافة إلى ذلك، يشير جيفري إلى مسألة مهمة أخرى، حيث يذكر في شهادته أمام الكونغرس، أنه «وفقاً لمسودة تقرير من قبل (معهد واشنطن)، فجميع القبائل العربية الرئيسية الأربع المنتشرة حول الرقّة على خلاف تتفاوت حدته مع الأكراد، ما يثير تساؤلات حول (اليوم التالي) في الرقّة إذا تم تحرير المدينة من قبل ميليشيات الأكراد أو (العناصر العربية التابعة لسيطرتهم). وهو يطرح بقوة إمكانية تعاون (وحدات حماية الشعب) مع إيران والنظام السوري الحالي».
- الخيار الثاني: التحالف التركي، ويقوده التحالف الدولي، باستخدام «الجيش السوري الحر» وقوات من مشاة الجيش التركي. ويبدو أن تركيا عاجزة بمفردها على تنفيذ هذا الخيار. إلا أن أهميته تكمن في قدرته القوية على النفاذ داخل محيط الرقّة الطائفي - العرقي المتكوّن من خليط من القوات السنّيّة ذات الغالبية العربية، ما يساعد بفعالية على سحب البساط من تحت تنظيم «الخلافة». ولأهمية هذا الاعتبار ينبه الخبير جيفري إلى التقرير المرتقب صدوره عن «معهد واشنطن» ويشير «إلى أن قبائل الرقّة ستكون أقل عدائية تجاه أي وجود تركي، إلا أن تنامي الدور العسكري التركي يمكن أن يمثّل مشكلة لكل من ميليشيا (وحدات حماية الشعب) الكردية وتحالف الأسد وإيران وروسيا».
- الخيار الثالث: الدمج بين الخيارين السابقين، وهو أفضل خيار مطروح بالنسبة لإدارة ترمب من طرف جيمس جيفري؛ ويهدف إلى امتصاص مخاوف الأتراك الخاصة بالميليشيات الكردية الانفصالية ويجعل من «الجيش السوري الحر» مشاركاً في عملية تحرير الرقّة. إلا أن دمج الخيارين الأول والثاني، يحتاج لجهود دبلوماسية كبيرة لتحقيق نتائج في غاية الأهمية لا تنحصر في هزيمة «داعش» وخلق نوع من الثقة المتبادلة بين الأتراك و«وحدات حماية الشعب» والولايات المتحدة والجيش الحر. وهو ما سيسهل من الجهود السياسية الأميركية بشأن تصوراتها لمستقبل المنطقة من دون «داعش».
- الخيار الرابع: الدعم الروسي - الإيراني - النظامي، إلا أنه يشكل مشكلة في حد ذاته؛ فلا القوات الروسية الجوية دقيقة في عملياتها، ولا الميليشيات الإيرانية وقوات الأسد يمكنها إحراز تقدم من دون مخاطر ناجمة عن رفض السكان السنة لمثل هذا التوغل في مناطقهم. ومن هنا يلزم تجنب اللجوء لمثل هذا الخيار، والاكتفاء بالتعاون الاستخباراتي؛ بالتنسيق في العمليات الجوية مع موسكو، ما يحقق مزيدا من التضييق على إيران.
- الخيار الخامس: استخدام قوات من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، ومعلوم أن الولايات المتحدة تمارس تساهلاً مهماً فيما يخص حركة السلاح والعتاد والخبراء في المنطقة. ويبدو أن وزارة الدفاع (البنتاغون) تسير في منحى يقوي هذه الاستراتيجية. «أما الخطوة الأكثر حسماً»، التي يطرحها جيفري فهي إشراك قوات من النخبة الأميركية تضمّ عدة آلاف من العناصر، أو من «ناتو»، في القتال المباشر ضد «داعش».
* ما بعد «داعش»
بعد استعادة الموصل والرقّة؛ ستجد المنطقة نفسها أمام تغيير مهم، ويجب على الولايات المتحدة ضمان مصالحها الطويلة الأمد في كل من سوريا والعراق؛ إذ إن تدمير دولة «الخلافة» المزعومة الذي أسسها «داعش» يتطلب العمل على تحقيق مصالح السكان، وترتيب الوضع بشكل يمنع أي عودة للمجموعات الإرهابية. هذا الهدف يتطلب تدخلاً أميركياً لضبط الوضع، وتجاوز التحديات التي تشكلها المجموعات المسلحة، والحفاظ على وحدة العراق، والحد من نفوذ إيران في كل من العراق وسوريا، ومواجهة التوسع الروسي وفصل روسيا عن إيران وسوريا.
كذلك يجب العمل على عقد مصالحة تاريخية بين ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية مع تركيا بقيادة رجب طيب إردوغان، والإبقاء على إمكانية «تسليح الجيش السوري الحر». وبالتالي، يلزم أن يكون للولايات المتحدة وجود عسكري على الأرض داخل سوريا والعراق لتدريب ميليشيا «البيشمركة» الكردية وجنود الجيش العراقي؛ ودعم إقامة «منطقة حرة» حول الرقّة، وكذلك دعم «المنطقة التركية» في شمال سوريا.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».