«ثاج» السعودية... موطن كنوز الذهب تبهر العلماء حول العالم

توقعات بأن تكون عاصمة مملكة الجرهاء الشهيرة

جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية
جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية
TT

«ثاج» السعودية... موطن كنوز الذهب تبهر العلماء حول العالم

جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية
جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية

تعد مدينة ثاج من أهم المواقع الأثرية في المنطقة الشرقية من السعودية، وسميت بكنز الآثار، لما وجد فيها من قطع أثرية ذهبية فريدة، خصوصاً قطع الحلي والجواهر والذهب التي عثر عليها في أحد مدافن ثاج، التي تعود لأكثر من ألفي عام.
وحظي هذا الاكتشاف بأصداء واسعة في الأوساط المهتمة بالآثار على مستوى العالم، كما أن الموقع الذي يرجح عدد من علماء الآثار السعوديين أن يكون عاصمة مملكة الجرهاء التي ملأت بشهرتها أسماع الممالك والدول القديمة، وكان قاطنوها ينعمون بغنى واسع، كما كانت المحرك الاقتصادي لمنطقة الخليج العربي قبل نحو 300 سنة قبل الميلاد.
وتشير المعلومات التاريخية والأثرية إلى أن الاستيطان في منطقة ثاج، على بعد 95 كم تقريبًا عن مدينة الجبيل، يعود إلى العصور الحجرية. وازدهر الاستيطان في ثاج خلال الفترة الهللنستية التي تمتد من ظهور الإسكندر الأكبر في الشرق عام 332 ق.م تقريبًا حتى القرن الأول الميلادي، واستمر الاستيطان خلال الفترة البارثية المتأخرة والساسانية التي تمتد من القرن الأول الميلادي تقريبًا حتى القضاء على الدولة الساسانية عام 640 ميلادي.
وأجرى عالم الآثار السعودي الدكتور عوض الزهراني بحثاً ميدانياً وعلمياً موسعاً عن موقع ثاج، أشار فيه إلى أن مساحة المنطقة السكنية الواقعة داخل السور الأثري وخارجه، وكذلك المساحة الكبيرة التي تشغلها تلال المدافن، إلى جانب الآبار الكثيرة، تدل على أن تجمعاً سكانياً كبيراً كان في ثاج، مما يشير إلى أن سكانه امتهنوا إلى جانب التجارة، بعض النشاطات الأخرى، ومنها الزراعة، إذ حفروا بعض الآبار خارج المنطقة السكنية المسورة، ولم يكن النشاط التجاري هو المهنة الوحيدة لسكان ثاج، بل إن بعضهم عمل في الصناعة، كصناعة الأواني الفخارية التي راجت تجارتها في ذلك الوقت.
وتمثل معثورات التنقيبات الأثرية من علماء الآثار السعوديين مزيجاً حضارياً ناتجاً عن تأثيرات الحضارات المجاورة لها، التي تربطها معها علاقات تجارية، كحضارات جنوب الجزيرة العربية، ووسطها، وشمالها الغربي، وجنوبها الشرقي، والحضارة السلوقية، والساسانية، وغيرها.
وتقع المدينة داخل سور بطول 2535 مترًا، وعرض المتبقي من هذا السور يصل إلى مترين و30 سم. ويقع داخل هذا السور ما يُسمى بـ«التلال السكنية»، يفصل بينها ممرّات يتراوح عرضها بين الخمسة والستة أمتار. وكشفت الحفريات التي أجريت في الموقع الأثري عن أقدم فرن للفخار في المنطقة الشرقية، كما كشف عن طفلة بكامل مرافقاتها الجنائزية تعود إلى القرن الأول الميلادي.
* مدفن كنوز ثاج
في صيف 1998، باشر فريق من علماء الآثار السعوديين من المتحف الإقليمي في الدمام التنقيب في جُثوة كبيرة في موقع ثاج، خارج أسوار المدينة القديمة. وسرعان ما ظهرت فتحة في الخندق، فكشفت عن وجود حجرة جنائزية كانت بلاطات غطائها مكسورة. وظن الفريق أن هذا القبر نُهب على غرار معظم القبور الأخرى، فاعترتهم خيبة أمل، لكن الباحثين الذين سحبوا قطع البلاطة المكسورة، عثروا على قناع من الذهب اللماع، ثم على عقود، وعلى لآلئ من الذهب وتلبيسات من الذهب وقطع أخرى ثمينة.
كانت طفلة صغيرة، يرجح أن تكون أميرة (تناهز السادسة من عمرها)، قد دُفنت وسُجّيت على سرير مأتمي من الخشب، مغطى بغلاف من الرصاص والبرونز، مزين بتزاويق ذات أسلوب متوسطي، وبجوارها 4 تماثيل صغيرة لامرأة مصنوعة بأسلوب كلاسيكي تشكّل أقدام هذا السرير. وكانت الطفلة المُمَدّدة محاطة بتلبيسات دائرية من الذهب. وعثر علماء الآثار على خاتمين من الذهب، مرصعين بياقوت أحمر محفور. ويظهر على إحداهما جانبٌ من وجه شخص يعتمر خوذة، ويغطي قناع من الذهب يمثل وجهاً بسيط الملامح وجه الفتاة الصغيرة. وهي تضع في أعلى الرأس 3 عُصابات من الذهب، وحول العنق عقدين مزينين بالياقوت واللآلئ والفيروز، وعقدًا يتألف من 18 حبة لؤلؤ من الذهب. في جانبي رأسها، قرطان من الذهب، وإلى يسارها سواران من الذهب المُصمت، وعلى صدرها قُفاز من الذهب، وعلى وسطها حزام من الذهب. وكانت محاطة بما يفوق المائتي زر محدب من الذهب، بحجمين مختلفين. وعُثر تحت الجثة على 3 آنية معدنية تشكل كتلة واحدة متآكلة، وإلى يمين الرأس، على قدح معدني صغير بلا غطاء.
وكشف العلماء أن هذا المدفن يرقى إلى نحو ألفي سنة، أي إلى الحقبة الهلينستية. وفي تلك الحقبة، كانت شبه الجزيرة العربية متصلة بالعالم المتوسطي، عبر الطرق التجارية. وكانت قوافل بخور جنوب الجزيرة العربية تعبر هذه الطرق التي كان أحدُها يمر بمدينة ثاج. وقد تكون هذه التجارة المزدهرة مصدر الثراء الذي أتاح وضع تُحَفٍ تتسم بهذا القدر من الترف في هذا المدفن.
ويؤكد هذا الاكتشاف المميز الاهتمام الكبير الذي أولته العائلة الثرية لهذه الطفلة لدى دفنها. وكانت تلك التقاليد والعادات متأثرة جدًا بمعتقدات العالم القديم ورموزه، وذلك حتى في الصحراء العربية.
* أهمية الجرهاء
تُصنف الجرهاء على أنها واحدة من مدن عدة مفقودة في جزيرة العرب، كإرم ذات العماد وعُبار، والعثور عليها أو على معالمها لا يزال طموح المهتمين والباحثين والمؤرخين، كما ذكر ونشر عنها من مواضيع مشوقة بأقلام الكتاب الكلاسيكيين. وبالبحث في النصوص التاريخية والكتابات القديمة، يتضح أن مملكة الجرهاء وجدت وسادت، بدءاً من القرن الثالث قبل الميلاد في منطقة الخليج العربي، ما بين شاطئ نصف القمر وميناء العقير جنوبًا، وأن مدينة الجرهاء كان لها أهمية استراتيجية قصوى، كمحطة تفريغ وإعادة شحن للبضائع المتجهة إلى بلاد الرافدين ومدن آسيا الصغرى، وأنها كانت مركزاً حضارياً على درجة كبيرة من الأهمية، ووصل تجارها الذين يعملون بتجارة البخور وغيرها من الكماليات حتى بابل والبتراء وبلاد العطور في جنوب الجزيرة العربية، وكانت ثرواتها تضارع ثروة تجارة السبئيين. ومن وصف المؤرخين، نجد أن الجرهائيين كانوا وسطاء التجارة بين السبئيين والهنود وبلاد الرافدين والغرب اليوناني، لأن مدينتهم كانت السوق الرئيسية في شرق الجزيرة العربية.
وسيطر الجرهائيون على تجارة اللبان والمر والعطور والتمور والبخور والأعشاب الطبية المنتجة من عمان وحضرموت. وكانت الجرهاء أيضًا محطة إعادة تصدير لمنتجات الهند، من توابل وعاج وبخور. وزيادةً على ذلك، الحرير الصيني المستورد من آسيا. فمن أبواب الجرهاء، خرجت القوافل متجهة إلى بلاد الشام، فكان خط سير القوافل المحملة بالسلع المترفة يتجه بعد الجرهاء إلى الجبيل، ثم إلى بلاد الرافدين، أو غربًا عبر الصمان إلى مدائن صالح، فبصرى، فالبتراء، ففلسطين، فمدن أوروبا. ومن دون منازع، استطاع الجرهائيون التحكم والسيطرة التامة على هذه الرحلات البرية.
ويتمتع الجرهائيون بخبرة فائقة ومعلومات جمة في فن الملاحة البحرية، وفهم لأسرار الرياح الموسمية، حيث شيدوا السفن الشراعية، ونقلوا بضائعهم عبر البحار من الهند والخليج العربي قاصدين بلاد الرافدين (بابل). كما استطاعوا اكتشاف أهم مغاصات اللؤلؤ في الخليج، فكانت بذلك مصدرًا آخر لرزقهم. وفرضوا المكوس والتعاريف الجمركية على التجارة التي تعبر من بلادهم، وتقدم لها الحماية والدلالة للوصول إلى مبتغاها. وبذلك، استطاع الجرهائيون أن يلعبوا دوراً مهماً في التبادل التجاري والنقل البري والبحري، فحققوا عائدات مالية ضخمة.
* نصوص أوردها المؤرخون في وصف «الجرهاء»
* كان أول وصف طوبغرافي للجرهاء ضمن فقرة أخرى من معجم سترابو الذي أخذ عن إراتوثينس (276 - 196 ق.م)، أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى الجرهاء بعد مسيرة 2400 ستيدياً (250 ميلاً)، على طول ساحل الجزيرة العربية، حيث تقع هذه المدينة على خليج عميق، ويسكنها الكلدانيون، وكذلك المنفيون من بابل. وبأرض هذه المدينة أملاح، كما يعيش الناس في منازل مشيدة من الملح، الأمر الذي يعرض ألواح الملح للذوبان نتيجة لاستمرار الحرارة المحرقة لأشعة الشمس، وبالتالي سقوط هذه المنازل.
ويعمد الناس إلى رش المنازل بالماء، لتظل الجدران متماسكة. وتبعد المدينة 200 ستيدياً عن ساحل البحر، وكانت تحركات الجرهائيين بطريق البر في معظم الأجزاء، وذلك أثناء اشتغالهم بتجارة العطور.
ومدينة الجرهاء، بخليجها، يمتد محيطها 5 أميال، وتضم أبراجاً مربعة من كتل الملح. وتوجد منطقة اتنة على بعد 50 ميلاً من الساحل. وفي الجهة المقابلة لها، وعلى البعد ذاته من الساحل، توجد جزيرة تيروس الشهيرة بلآلئها المتعددة.
كما ذكر استرابو (Strabo)، نقلاً عن المؤرخ اليوناني أرتيمدورس Artemidorus (276 – 190 ق.م)، أن الجرهاء مدينة تقع على ساحل الخليج العربي، على بعد ما يقارب 60 ميلاً إلى الغرب من جزيرة دلمون (البحرين). ويسكنها أقوام من الكلدانيين العرب، والمنفيين من بابل. وبأرض هذه المدينة أملاح (سباخ)، كما كان الناس يعيشون في منازل صنعت من أعمدة وجدران ملحية، ويعمد الناس إلى رش هذه الجدران بالماء، لتظل الجدران متماسكة، وقد أطلق عليها مدينة الجدران البيضاء. وقال إنهم أغنى العرب؛ يقتنون الرياش الفاخرة، ويتمتعون بكل أسباب الرخاء والترف، بما في ذلك آنية الذهب والفضة والفرش الثمينة، ويجمّلون جدران منازلهم بالذهب والعاج والجمان والأحجار الكريمة.
كما ذكر المؤرخ بليني معلومات مشابهه، وأضاف أن مدينة الجرهاء بلغت مساحتها ما يقارب 5 أميال، وأن بها أبراجاً مشيدة من الملح.
وحول موقع المدينة، ووفقاً لبحث الدكتور عوض الزهراني، لا تزال التكهنات والآراء المختلفة تحير الباحثين وعلماء الآثار حول تحديد المكان الذي قامت عليه مدينة الجرهاء، ويذكر الرحالة تشيزمان الذي أبدى اهتماماً واضحًا في البحث عن تلك المدينة المفقودة، في كتابه «شبه الجزيرة العربية المجهولة»، أن موقع الخرائب في أبي زهمول، بميناء العقير، هو تماماً موقع الجرهاء الذي أشار إليه بطليموس. وتعد جغرافية سترابو أغنى مصدر معلوماتي عن الجرهاء على الإطلاق. ويرد منها أن المدينة حين ذاك تقع على بعد 2400 استديم (276 - 336 ميلاً بالاستديوم اليوناني أو الرماني) من تريدون. ويذكر سترابو أيضاً أن الكلدانيين المنفيين استوطنوا الجرهاء، وأن المنازل مشيدة بالحجر الملحي، وأن المدينة بمساحة 200 استديم (23 - 28 ميلاً) من البحر، وهذا مثير للتساؤل، لأن سترابو هو الوحيد الذي يقول إن الجرهاء في اليابسة، كما أخبرنا بأن الجرهائيين كانوا يمارسون تجارة البحر، إضافة إلى تجارة القوافل، وكانت تزين منازلهم الجواهر، فكانوا أغنياء جداً.
وذكر سترابو عن أرتمدورس: «واتضح من تحركات السبئيين والجرهائيين أنهم كانوا من أغنى الولايات جميعاً، وكانت لديهم معدات وأدوات كثيرة من الذهب والفضة، مثل الأسرة والحوامل ثلاثية الأرجل والأوعية، فضلاً عن أواني الشراب، والمنازل باهظة التكاليف المطعمة أبوابها وأسقفها بالعاج والذهب والفضة، كما شوهدت مجموعة من الفضيات والأحجار الكريمة».
غير أن الأوصاف التي ذكرها سترابو في جغرافيته ترجح أن موقع ثاج الأثري هو الأقرب أن يكون الجرهاء المفقودة، وليس العقير.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)