وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

إضاءة على مداولات القوى الكبرى لضبط الوضع اللبناني في مطلع 1976

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
TT

وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976

في حلقة اليوم من وثائق الاستخبارات الأميركية نتناول وثائق عائدة لمرحلة حاسمة من تاريخ لبنان السياسي المعاصر. هذه المرحلة هي تحديدًا مفصل «تكليف» القوى الكبرى النظام السوري في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، بالتدخل عسكريًا في لبنان، لإنهاء القتال الدائر يومذاك بين «القوات المشتركة» لما كان يُعرف بـ«الحركة الوطنية اللبنانية» وحركات المقاومة الفلسطينية المتحالفة معها من جهة، وقوات الأحزاب المسيحية اللبنانية من الجهة المقابلة.
في تلك المرحلة، تفاقم الوضع في لبنان - إبان رئاسة الرئيس الأسبق الراحل سليمان فرنجية - ورجّحت الكفة الميدانية لـ«القوات المشتركة» بمكوّنيها اللبناني والفلسطيني، ما هدّد بخروج الصراع عن نطاقه المحلي والتحول إلى أزمة إقليمية ودولية، في ظل استعانة المكوّنات المحلية اللبنانية باللاعبين الإقليميين. وتشير الوثائق البريطانية - الأميركية المتبادلة التي ننشرها اليوم إلى المداولات التي أخذت في الاعتبار عام 1976 قطع الطريق على تدخل إسرائيلي مباشر لمنع الفلسطينيين وحلفائهم اليساريين والقوميين من اللبنانيين من الغلبة العسكرية، وإلى الدور الموكل لدمشق لوقفهم. وبين أهم الوثائق برقية لوزير الخارجية البريطاني يومذاك جيمس كالاهان (رئيس الوزراء فيما بعد) عن بحثه في الأمر مع وزير الخارجية السوفياتي آندريه غروميكو (رئيس الاتحاد السوفياتي لاحقًا) والتواصل والتشاور مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في حينه. أيضًا من الوثائق المهمة رسالة للسفير البريطاني في بيروت السير بيتر ويكفيلد حول الوضع، وما يمكن فعله، والدور الذي يمكن للرئيس الأسد فعله لتبريد الأجواء واحتواء التفجر.
نعلم أن عددًا من العسكريين النظاميين السوريين موجودون بالفعل داخل لبنان. ويعلم الإسرائيليون أيضًا هذا الأمر، إلا أنهم لم يبدوا اعتراضهم حتى الآن.
ربما يظن السوريون أنهم نجحوا في إخفاء وجود جنودهم في صورة فلسطينيين، إلا أنهم حال إقدامهم على استخدامهم سيصبح وجودهم أمرًا معروفًا. وسيشعرون حينذاك بالقلق حيال رد الفعل الإسرائيلي.
وربما تنوي سوريا إرسال مزيد من القوات النظامية. وهنا سيكون السؤال هل سيسمح الإسرائيليون بهذا الأمر تبعًا لشروط معينة - تحديدًا أن يجري البقاء عليهم بعيدًا عن الجنوب؟
تفيد أنباء بأن (الرئيس اللبناني سليمان) فرنجية اتصل هاتفيًا بالرئيس (السوري) حافظ الأسد بالأمس، وأعرب عن غضبه وهدد باللجوء إلى إجراءات أخرى في حال إحجام سوريا عن التدخل العسكري المباشر لإنهاء الاقتتال. ويعكس هذا الأمر حدوث انتكاسات عسكرية للمسيحيين. وبالأمس تلقيت مناشدة عاجلة للحصول على مساعدة غربية من شارل مالك (عضو «جماعة الكسليك» ووزير الخارجية السابق). الواضح أن الذخائر بدأت تنفد، في الوقت الذي حانت الساعة الأخيرة للبنان. ويبدو أن (الرئيس حافظ) الأسد استجاب عبر ممارسة ضغوط على (الزعيم الفلسطيني ياسر) عرفات للمساعدة في إقرار وقف إطلاق نار والوساطة لدى (الزعيم الاشتراكي كمال) جنبلاط. و«أبو إياد» (القيادي الفلسطيني في «فتح» صلاح خلف) توجه صباحا إلى سوريا.
تشير تقديراتنا إلى أن قوات (منظمة) «الصاعقة» (الفدائية الفلسطينية التابعة لجناح سوريا في حزب البعث العربي الاشتراكي) ومنظمة التحرير الفلسطينية والقوات النظامية السورية كافية لفرض وقف إطلاق نار في حال تعاونت منظمة فتح، الأمر الذي تبدو المنظمة مستعدة للقيام به في الوقت الراهن. أما إذا كانت لدى السوريين خطط أبعد من ذلك، مثل تشكيل جبهة لجماعات الممانعة هنا، فسيكون من الواضح أنه ليس بإمكانهم التعويل كثيرًا على تعاون «فتح».
لقد كان من شأن تشجيع مصر منظمة فتح على إقصاء نفسها عن التسوية السياسية السورية زيادة تعقيد الموقف هنا. وربما أدى هذا الأمر، علاوة على الجهود العراقية القوية لتخريب محاولات التسوية، إلى إقناع السوريين بحاجتهم للدفع بمزيد من القوات النظامية للاضطلاع بالمهمة.
هل ينبغي أن تفكر حكومتنا، وربما نحن، في كبح جماح الجهود المصرية على أساس أن ما يقومون به سيخلق إما مزيدًا من الفرص أمام القوى اليسارية داخل لبنان لتعزيز موقفها وإما تدخلاً سوريًا عسكريًا أقوى؟

السير بيتر ويكفيلد
برقية من وزارة الخارجية إلى السفارات في بيروت ودمشق وتل أبيب وباريس والقاهرة وعمّان وموسكو وبعثة المملكة المتحدة لدى نيويورك
أطلعت (وزير خارجية الاتحاد السوفياتي آندريه) غروميكو باختصار على النيات السورية هذا الصباح، لمنحه فرصة لمراجعة الأمر مع موسكو. وعلق بقوله إنه نما إلى مسامعه شائعات تفيد الأمر ذاته. وقلت إنه رغم أن المعلومات المتاحة لدينا ليست مؤكدة، لكنها تعتمد على ما هو أكثر من مجرد شائعات، وأننا نشعر بضرورة التعامل معها بجدية. إننا نتفهم إمكانية وجود القليل من القوات السورية النظامية داخل لبنان بالفعل، لكن ما يثير قلقنا إمكانية أن ترسل سوريا تعزيزات كبيرة. في اعتقادنا، من الممكن أن يثير ذلك تحركًا إسرائيليًا إلى داخل الجنوب اللبناني. وسيكون من المتعذر التكهن بتداعيات مثل هذا التطور، لكنها ربما تتضمن صدامًا بين إسرائيل وسوريا، الأمر الذي قد يشعل صراعًا أوسع نطاقًا يحمل مخاطر كبرى على السلام الدولي ومصالح الأطراف الثالثة. وأكدت أننا سنعمل على استغلال نفوذنا لدى الإسرائيليين للحيلولة دون حدوث تصعيد، وعمدت إلى حث غروميكو إلى القيام بالمثل مع السوريين. كان هناك بالطبع خطر في الاتجاهين: فإذا تصدى السوريون لممارسات قوات الحركة الوطنية (اللبنانية) المتطرفة قد تفلت الأمور عن السيطرة، لكننا عمومًا ارتأينا أن هذا أفضل الشرّين، إذ سيكون أفضل من تدخل إسرائيلي حتمي ضد دخول سوري واسع.
من جانبه، قال غروميكو إنه لا يرغب في التشكيك في معلوماتي. بل إنه يود القول فحسب إن التقارير التي وصلت إليه لا يمكن التعامل معها على أنها تستحق الاعتماد عليها، وإنما تقوم على شائعات صادرة عن دوائر بعينها داخل العالم العربي، ونظرًا لأنه جرى تمريرها إليه من قبل حكومة موسكو فإنها ربما يكون قد عفا عليها الدهر. وأضاف أن الروس ما كانوا راضين عن الوضع السابق في لبنان والمنطقة المحيطة به، إلا أن الروس اتفقوا على أن الوضع محفوف بالمخاطر. وبالتالي، تعهد بأنه سيعمل على الاتصال بـ«بعض الأشخاص داخل دول عربية»، للحث على التزام سياسات معتدلة، لكن من الصعب تحديد التأثير الذي سيحققه ذلك. وأعرب عن أمله في أن نقوم من جانبنا باتخاذ خطوات لتحقيق بعض الاعتدال في الموقف.
وطلب غروميكو التعرف على وجهات نظرنا بخصوص كيف يمكن حل المشكلة، مشيرًا إلى اعتقاده أن ما بدا كشأن داخلي انتهى بتدويله بسبب التدخلات الأجنبية لصالح الجماعات اللبنانية المتناحرة. وأنا من جانبي لم أرفض هذا الرأي، إلا أنني أوضحت أن الجماعات اللبنانية ذاتها هي التي سعت إلى استدعاء دعم خارجي وجاءت النتيجة فوضوية ومربكة. في أي حال، نحن نعتقد أنه بصورة عامة، اضطلع السوريون بدور مسؤول، ونرى أنه لا تزال لديهم فرصة للتوصل إلى تسوية عبر التفاوض.
أيضًا بوجه عام، أعتقد أن رد فعل غروميكو جاء مرضيًا، وآمل أن يجده (وزير الخارجية الأميركي هنري) كيسنجر مفيدًا. ولقد اقترحت أن يتبادل الآراء مع الجانب الأميركي، وأيضا مع الفرنسيين بالنظر إلى اهتمامهم التقليدي بشؤون لبنان.
تشير أحدث التقارير الواردة من بيروت وتل أبيب إلى وجود قوات نظامية سوريا بالفعل داخل لبنان، وحسب تقديرنا فإن هذه القوات بجانب (فدائيي منظمة) «الصاعقة» ومنظمة التحرير الفلسطينية كافية لفرض وقف إطلاق نار بشرط تعاون «فتح».
ويبدو رد الفعل الإسرائيلي حيال التوجه السوري وتجاه الأميركيين مبالغا فيه بعض الشيء، وإن كان وضع الحكومة الإسرائيلية حاليًا متراجعًا للغاية إلى درجة قد تخلق لديها شعورًا بالحاجة إلى تقديم رد فعل أقوى إزاء ما يتطلبه الوضع على أرض الواقع حيال التدخل السوري الصريح.
وهنا أتساءل حول ما إذا كان من الممكن إقناع الإسرائيليين بأن تدخلاً عسكريًا أكبر من جانب سوريا في لبنان سيكون أقل خطرًا من استمرار الفوضى أو من ظهور سلطة في الجنوب حريصة على تشجيع شن الهجمات على إسرائيل، ولن تتأثر بعقوبات كتلك التي يمكن لإسرائيل فرضها على سوريا أو أي سلطة لبنانية يعاد تأسيسها؟ هل سيكون الإسرائيليون مستعدين للسماح بدخول قوات سورية إضافية إلى لبنان على أن تبقى بعيدة عن جنوبه؟
أما بالنسبة للوضع داخل لبنان فإنه يتقلب بين يوم وآخر، في وقت يعكف المبعوثون السوريون على محاولة اتخاذ الترتيبات اللازمة لإقرار وقف إطلاق نار. وأميل إلى الاعتقاد أنه في ظل هذا الوضع الشديد التعقيد والغموض، فإن المسار الأفضل أمامنا يكمن في محاولة كسب الوقت لفترة أطول عبر كبح ميل السوريين والإسرائيليين إلى اللجوء لإجراءات متطرفة.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».