وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

إضاءة على مداولات القوى الكبرى لضبط الوضع اللبناني في مطلع 1976

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
TT

وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976

في حلقة اليوم من وثائق الاستخبارات الأميركية نتناول وثائق عائدة لمرحلة حاسمة من تاريخ لبنان السياسي المعاصر. هذه المرحلة هي تحديدًا مفصل «تكليف» القوى الكبرى النظام السوري في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، بالتدخل عسكريًا في لبنان، لإنهاء القتال الدائر يومذاك بين «القوات المشتركة» لما كان يُعرف بـ«الحركة الوطنية اللبنانية» وحركات المقاومة الفلسطينية المتحالفة معها من جهة، وقوات الأحزاب المسيحية اللبنانية من الجهة المقابلة.
في تلك المرحلة، تفاقم الوضع في لبنان - إبان رئاسة الرئيس الأسبق الراحل سليمان فرنجية - ورجّحت الكفة الميدانية لـ«القوات المشتركة» بمكوّنيها اللبناني والفلسطيني، ما هدّد بخروج الصراع عن نطاقه المحلي والتحول إلى أزمة إقليمية ودولية، في ظل استعانة المكوّنات المحلية اللبنانية باللاعبين الإقليميين. وتشير الوثائق البريطانية - الأميركية المتبادلة التي ننشرها اليوم إلى المداولات التي أخذت في الاعتبار عام 1976 قطع الطريق على تدخل إسرائيلي مباشر لمنع الفلسطينيين وحلفائهم اليساريين والقوميين من اللبنانيين من الغلبة العسكرية، وإلى الدور الموكل لدمشق لوقفهم. وبين أهم الوثائق برقية لوزير الخارجية البريطاني يومذاك جيمس كالاهان (رئيس الوزراء فيما بعد) عن بحثه في الأمر مع وزير الخارجية السوفياتي آندريه غروميكو (رئيس الاتحاد السوفياتي لاحقًا) والتواصل والتشاور مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في حينه. أيضًا من الوثائق المهمة رسالة للسفير البريطاني في بيروت السير بيتر ويكفيلد حول الوضع، وما يمكن فعله، والدور الذي يمكن للرئيس الأسد فعله لتبريد الأجواء واحتواء التفجر.
نعلم أن عددًا من العسكريين النظاميين السوريين موجودون بالفعل داخل لبنان. ويعلم الإسرائيليون أيضًا هذا الأمر، إلا أنهم لم يبدوا اعتراضهم حتى الآن.
ربما يظن السوريون أنهم نجحوا في إخفاء وجود جنودهم في صورة فلسطينيين، إلا أنهم حال إقدامهم على استخدامهم سيصبح وجودهم أمرًا معروفًا. وسيشعرون حينذاك بالقلق حيال رد الفعل الإسرائيلي.
وربما تنوي سوريا إرسال مزيد من القوات النظامية. وهنا سيكون السؤال هل سيسمح الإسرائيليون بهذا الأمر تبعًا لشروط معينة - تحديدًا أن يجري البقاء عليهم بعيدًا عن الجنوب؟
تفيد أنباء بأن (الرئيس اللبناني سليمان) فرنجية اتصل هاتفيًا بالرئيس (السوري) حافظ الأسد بالأمس، وأعرب عن غضبه وهدد باللجوء إلى إجراءات أخرى في حال إحجام سوريا عن التدخل العسكري المباشر لإنهاء الاقتتال. ويعكس هذا الأمر حدوث انتكاسات عسكرية للمسيحيين. وبالأمس تلقيت مناشدة عاجلة للحصول على مساعدة غربية من شارل مالك (عضو «جماعة الكسليك» ووزير الخارجية السابق). الواضح أن الذخائر بدأت تنفد، في الوقت الذي حانت الساعة الأخيرة للبنان. ويبدو أن (الرئيس حافظ) الأسد استجاب عبر ممارسة ضغوط على (الزعيم الفلسطيني ياسر) عرفات للمساعدة في إقرار وقف إطلاق نار والوساطة لدى (الزعيم الاشتراكي كمال) جنبلاط. و«أبو إياد» (القيادي الفلسطيني في «فتح» صلاح خلف) توجه صباحا إلى سوريا.
تشير تقديراتنا إلى أن قوات (منظمة) «الصاعقة» (الفدائية الفلسطينية التابعة لجناح سوريا في حزب البعث العربي الاشتراكي) ومنظمة التحرير الفلسطينية والقوات النظامية السورية كافية لفرض وقف إطلاق نار في حال تعاونت منظمة فتح، الأمر الذي تبدو المنظمة مستعدة للقيام به في الوقت الراهن. أما إذا كانت لدى السوريين خطط أبعد من ذلك، مثل تشكيل جبهة لجماعات الممانعة هنا، فسيكون من الواضح أنه ليس بإمكانهم التعويل كثيرًا على تعاون «فتح».
لقد كان من شأن تشجيع مصر منظمة فتح على إقصاء نفسها عن التسوية السياسية السورية زيادة تعقيد الموقف هنا. وربما أدى هذا الأمر، علاوة على الجهود العراقية القوية لتخريب محاولات التسوية، إلى إقناع السوريين بحاجتهم للدفع بمزيد من القوات النظامية للاضطلاع بالمهمة.
هل ينبغي أن تفكر حكومتنا، وربما نحن، في كبح جماح الجهود المصرية على أساس أن ما يقومون به سيخلق إما مزيدًا من الفرص أمام القوى اليسارية داخل لبنان لتعزيز موقفها وإما تدخلاً سوريًا عسكريًا أقوى؟

السير بيتر ويكفيلد
برقية من وزارة الخارجية إلى السفارات في بيروت ودمشق وتل أبيب وباريس والقاهرة وعمّان وموسكو وبعثة المملكة المتحدة لدى نيويورك
أطلعت (وزير خارجية الاتحاد السوفياتي آندريه) غروميكو باختصار على النيات السورية هذا الصباح، لمنحه فرصة لمراجعة الأمر مع موسكو. وعلق بقوله إنه نما إلى مسامعه شائعات تفيد الأمر ذاته. وقلت إنه رغم أن المعلومات المتاحة لدينا ليست مؤكدة، لكنها تعتمد على ما هو أكثر من مجرد شائعات، وأننا نشعر بضرورة التعامل معها بجدية. إننا نتفهم إمكانية وجود القليل من القوات السورية النظامية داخل لبنان بالفعل، لكن ما يثير قلقنا إمكانية أن ترسل سوريا تعزيزات كبيرة. في اعتقادنا، من الممكن أن يثير ذلك تحركًا إسرائيليًا إلى داخل الجنوب اللبناني. وسيكون من المتعذر التكهن بتداعيات مثل هذا التطور، لكنها ربما تتضمن صدامًا بين إسرائيل وسوريا، الأمر الذي قد يشعل صراعًا أوسع نطاقًا يحمل مخاطر كبرى على السلام الدولي ومصالح الأطراف الثالثة. وأكدت أننا سنعمل على استغلال نفوذنا لدى الإسرائيليين للحيلولة دون حدوث تصعيد، وعمدت إلى حث غروميكو إلى القيام بالمثل مع السوريين. كان هناك بالطبع خطر في الاتجاهين: فإذا تصدى السوريون لممارسات قوات الحركة الوطنية (اللبنانية) المتطرفة قد تفلت الأمور عن السيطرة، لكننا عمومًا ارتأينا أن هذا أفضل الشرّين، إذ سيكون أفضل من تدخل إسرائيلي حتمي ضد دخول سوري واسع.
من جانبه، قال غروميكو إنه لا يرغب في التشكيك في معلوماتي. بل إنه يود القول فحسب إن التقارير التي وصلت إليه لا يمكن التعامل معها على أنها تستحق الاعتماد عليها، وإنما تقوم على شائعات صادرة عن دوائر بعينها داخل العالم العربي، ونظرًا لأنه جرى تمريرها إليه من قبل حكومة موسكو فإنها ربما يكون قد عفا عليها الدهر. وأضاف أن الروس ما كانوا راضين عن الوضع السابق في لبنان والمنطقة المحيطة به، إلا أن الروس اتفقوا على أن الوضع محفوف بالمخاطر. وبالتالي، تعهد بأنه سيعمل على الاتصال بـ«بعض الأشخاص داخل دول عربية»، للحث على التزام سياسات معتدلة، لكن من الصعب تحديد التأثير الذي سيحققه ذلك. وأعرب عن أمله في أن نقوم من جانبنا باتخاذ خطوات لتحقيق بعض الاعتدال في الموقف.
وطلب غروميكو التعرف على وجهات نظرنا بخصوص كيف يمكن حل المشكلة، مشيرًا إلى اعتقاده أن ما بدا كشأن داخلي انتهى بتدويله بسبب التدخلات الأجنبية لصالح الجماعات اللبنانية المتناحرة. وأنا من جانبي لم أرفض هذا الرأي، إلا أنني أوضحت أن الجماعات اللبنانية ذاتها هي التي سعت إلى استدعاء دعم خارجي وجاءت النتيجة فوضوية ومربكة. في أي حال، نحن نعتقد أنه بصورة عامة، اضطلع السوريون بدور مسؤول، ونرى أنه لا تزال لديهم فرصة للتوصل إلى تسوية عبر التفاوض.
أيضًا بوجه عام، أعتقد أن رد فعل غروميكو جاء مرضيًا، وآمل أن يجده (وزير الخارجية الأميركي هنري) كيسنجر مفيدًا. ولقد اقترحت أن يتبادل الآراء مع الجانب الأميركي، وأيضا مع الفرنسيين بالنظر إلى اهتمامهم التقليدي بشؤون لبنان.
تشير أحدث التقارير الواردة من بيروت وتل أبيب إلى وجود قوات نظامية سوريا بالفعل داخل لبنان، وحسب تقديرنا فإن هذه القوات بجانب (فدائيي منظمة) «الصاعقة» ومنظمة التحرير الفلسطينية كافية لفرض وقف إطلاق نار بشرط تعاون «فتح».
ويبدو رد الفعل الإسرائيلي حيال التوجه السوري وتجاه الأميركيين مبالغا فيه بعض الشيء، وإن كان وضع الحكومة الإسرائيلية حاليًا متراجعًا للغاية إلى درجة قد تخلق لديها شعورًا بالحاجة إلى تقديم رد فعل أقوى إزاء ما يتطلبه الوضع على أرض الواقع حيال التدخل السوري الصريح.
وهنا أتساءل حول ما إذا كان من الممكن إقناع الإسرائيليين بأن تدخلاً عسكريًا أكبر من جانب سوريا في لبنان سيكون أقل خطرًا من استمرار الفوضى أو من ظهور سلطة في الجنوب حريصة على تشجيع شن الهجمات على إسرائيل، ولن تتأثر بعقوبات كتلك التي يمكن لإسرائيل فرضها على سوريا أو أي سلطة لبنانية يعاد تأسيسها؟ هل سيكون الإسرائيليون مستعدين للسماح بدخول قوات سورية إضافية إلى لبنان على أن تبقى بعيدة عن جنوبه؟
أما بالنسبة للوضع داخل لبنان فإنه يتقلب بين يوم وآخر، في وقت يعكف المبعوثون السوريون على محاولة اتخاذ الترتيبات اللازمة لإقرار وقف إطلاق نار. وأميل إلى الاعتقاد أنه في ظل هذا الوضع الشديد التعقيد والغموض، فإن المسار الأفضل أمامنا يكمن في محاولة كسب الوقت لفترة أطول عبر كبح ميل السوريين والإسرائيليين إلى اللجوء لإجراءات متطرفة.



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.