روبرت دي نيرو يتحدث عن الدراما والكوميديا و«الناس المنسيين»

«هناك الكثير من القصص التي تستطيع هوليوود أن تحكيها»

روبرت دي نيرو.. أشعر بأنني ما زلت أقوم بما قررت القيام به قبل ستين سنة أو أكثر - روبرت دي نيرو في مشهد من فيلم «الكوميدي»
روبرت دي نيرو.. أشعر بأنني ما زلت أقوم بما قررت القيام به قبل ستين سنة أو أكثر - روبرت دي نيرو في مشهد من فيلم «الكوميدي»
TT

روبرت دي نيرو يتحدث عن الدراما والكوميديا و«الناس المنسيين»

روبرت دي نيرو.. أشعر بأنني ما زلت أقوم بما قررت القيام به قبل ستين سنة أو أكثر - روبرت دي نيرو في مشهد من فيلم «الكوميدي»
روبرت دي نيرو.. أشعر بأنني ما زلت أقوم بما قررت القيام به قبل ستين سنة أو أكثر - روبرت دي نيرو في مشهد من فيلم «الكوميدي»

حين يقف روبرت دي نيرو لتأدية دور ما، يفضل - بحسب شهود المخرجين الكثيرين الذين تعاملوا معه - القيام بتمارين مسبقة. هو، وليس المخرج، من يحدد إذا ما أعجبته الطريقة التي سيلقي فيها بجملته أو يمثّـل فيها موقفه.
«عليه هو أن يكون راضيًا»، قال لي المخرج هارولد راميس قبل عدة سنوات عندما انتهى من تصوير «حلل ذلك» (Analyze That) ثم أضاف: «حتى حين تقول له إن المشهد أعجبك وإن تمثيله له لا مشاكل فيه، ينظر بعيدًا عنك ويهز رأسه ثم يقول: صحيح. لكنني أريد أن أعيد المشهد».
دي نيرو يعتبر أن ما يقوم به هو حماية للفيلم وللمشاهد. من ناحية يريد الأفضل للفيلم الذي يشترك في تمثيله، ومن ناحية أخرى يريد الأفضل للجمهور الذي جاء يشاهده أو جاء يشاهد الفيلم من أجله. وفي الناحيتين يكسب دي نيرو النقاش.
له في المجال السينمائي 60 عاما، ظهر خلالها على الشاشة في نحو 120 فيلما ما عدا حفنة من الأفلام القصيرة وأخرى لم تكترث لذكر اسمه في مطلع مهنته عندما كانت أدواره عابرة. بدأ التمثيل لأول مرّة عام 1965 ولم يكن ذلك في فيلم أميركي، كما يُـعتقد اليوم، بل في فيلم فرنسي لمارسيل كارنيه بعنوان «ثلاث غرف في مانهاتن» من بطولة آني جيراردو وموريس رونيه. وعليك اليوم أن تتخيل كيف كان شكل ذلك الشاب، ابن الثانية والعشرين حينها، وأن تنتبه جيدًا لمشهد المطعم الصغير قبل أن تطرف عينك فتمضي اللقطة التي يظهر فيها دي نيرو وهو ينتظر طعامه من دون أن تنتبه.
ولد، كما هو معروف، في نيويورك (في السابع عشر من أغسطس (آب) 1943). ما هو غير معروف بأن الشاب ترك المدرسة وهو في سن السادسة عشرة مؤمنًا بأن ما ستوفره له مقاعد الدراسة ليس ما يريده لنفسه. في سن السابعة عشرة التحق بمعهد ستيلا أدلر للتمثيل. ستيلا أدلر كانت ممثلة ومدرّسة تمثيل تعلّـم المنتمين الأسلوب الدرامي المعروف بـ«المنهج»، ذاك الذي ابتدعه ستانيسلافسكي وهضمه مخرجون وممثلون كثيرون من مارلون براندو وإيليا كازان إلى كارل مالدن ومارتن شين وجيمس دين. رغبة دي نيرو في مجال التمثيل لم تكن وليدة فكرة طارئة. فوالده، واسمه روبرت دي نيرو أيضًا، كان رسامًا وشاعرًا. وأمه فرجينيا أدميرال، كانت أيضًا رسامة. وروبرت الأب كان يأخذ روبرت الابن، حين كان لا يزال في العاشرة من عمره، إلى صالات السينما عدة مرات في الأسبوع ليشاهدا معًا الأفلام.
أمر آخر شاع من دون أن يكون واقعًا: المخرج الأول الذي عمل روبرت دي نيرو تحت إدارته أكثر من مرّة لم يكن مارتن سكورسيزي بل برايان دي بالما، الذي كان يجرّب خطواته في السينما سنة 1968 عندما التقى بدي نيرو وضمّـه إلى ممثلي فيلمه «تحيات». بعد خمس سنوات انتقل دي نيرو من عهدة دي بالما (الذي لاحقًا أخرج فيلمين من بطولة آل باتشينو هما «ذو الوجه المشوه» و«طريقة كارليتو») إلى عهدة سكورسيزي الذي كان يبحث عن نبض واقعي لعصابات نيويورك الإيطاليين عندما اختار دي نيرو للمشاركة في بطولة «شوارع منحطة» (1973).
من دي نيرو إلى «شيخ الشباب» فرنسيس فورد كوبولا الذي أسند إليه دورًا تمناه كثيرون هو دور مارلون براندو في شبابه، وذلك في الجزء الثاني من «العراب». بعده تبناه سكورسيزي في عدة أفلام بدءًا من «تاكسي درايفر» إلى «كازينو» (1995) مرورًا بأربعة أخرى هي «نيويورك، نيويورك» و«ملك الكوميديا» و«ثور هائج» و«صحبة طيبة».
بين هذه المجموعة من الأفلام تبرز أخرى مثلها دي نيرو تحت إدارة بعض أهم الأسماء الأخرى في السينما من بينهم برناردو برتولوتشي (في تحفته «1900») وسيرجيو ليوني («ذات مرة في أميركا») وآلان باركر («أنجل هارت» و«الرسالة») كما اختاره دي بالما لدور آل كابوني في «الشرفاء» (The Untouchables).
إنها الفترة التي غربت وغربت معها حقبة نيّـرة. بعدها ظهر دي نيرو ولا يزال في مجموعة كبيرة من الأفلام العابرة. وعلى الرغم من ظهوره في بعض الأفلام التي لا تتساوى مع خلفيته، فإنه نجا من الفشل. لم يسقط في حفرته بل تجاوزها وما زال بكل ثبات.
* التمثيل تعبير
أحد أفلامه الأخيرة، التي على أساسها تمّـت هذه المقابلة، هو «الكوميدي» (The Comedian) للمخرج تايلور هاكفورد ومع داني ديفيتو ولسلي مان وهاررفي كايتل من بين آخرين. هو سعيد بأن يلعب دور الأب وهي ليست المرّة الأولى في السنوات الأخيرة وسبق أن شاهدناه أبًا لجنيفر لورنس في «حبور» في العام الماضي.
* أنت الممثل الرئيسي في «الكوميدي»، هو عنك أولاً ثم عن باقي الشخصيات ثانيًا. كيف تشعر حيال حقيقة أنك لا زلت تجد أدوارًا أولى تقوم بها على الرغم من سنوات مهنتك الطويلة؟
- أشعر بأنني ما زلت أقوم بما قررت القيام به قبل ستين سنة أو أكثر عندما بادرت إلى تعلم التمثيل حبًا بالتمثيل. أن تجد أنك ما زلت مطلوبًا بعد كل هذه السنوات يدفعك لأن تدرك صحة خطواتك التي قمت بها حتى الآن. لا أقول: إن الطريق دائمًا سهل هكذا، لكن في اعتقادي أن الممثل عليه أن يجد الأسلوب والصورة التي يريدهما لنفسه وعليه أن ينجح فيهما إذا ما أراد الاستمرار.
* كيف تصف أسلوبك إذن؟
- لا أدري كيف يمكن وصفه. أعلم أنني أمثل كما أرتاح وكما اعتدت أن ألعب أدواري جميعًا. أعتقد أن جزءًا من الأسلوب يكمن في كيفية فهم دورك في الحياة. ماذا تريد أن تحقق ولماذا.
* قلت ذات مرّة إنك اتجهت للتمثيل لأن التمثيل هو الفرصة التي يستطيع الشخص فيها التعبير عن نفسه كما لا يمكن له أن يفعل في أي سبيل آخر. هل لا زلت تؤمن بذلك؟
- هناك وسائل تعبير كثيرة، لكنني لا بد أنني، حين قلت ذلك، كنت أقصد الحديث عن نفسي وخبرتي. البعض يعبر عن نفسه بالرسم أو بالموسيقى وهذا أيضًا تعبير مناسب. لكن في التمثيل قدرة مختلفة تجعلك قادرًا أن تدخل شخصية أخرى قد تكون بعيدة عنك تمامًا وتترجم ما فيها للآخرين. هذا لا يقع في أي سبيل تعبيري آخر.
* الكوميديا دوما ساخرة
* بدأت في أدوار درامية ثم اتجهت للكوميديا قليلاً في التسعينات ثم باتت اليوم قاسما مشتركًا لأفلامك. هل تحب الكوميديا أكثر من أي نوع تمثيلي آخر؟
- هناك حدود لما تستطيع أن تقوم به وهذه الحدود ترسمها سنوات عمرك. بالنسبة لي ملاحظتك صحيحة لكن دوافعي اليوم للكوميديا لم تعد من أجل التنويع. هي ما زالت تعبيرًا عن الذات بأسلوب مختلف ومطلوب أكثر. الممثل الكوميدي يتعلم من آلامه. دوري في هذا الفيلم هو دور الكوميدي الذي يقدم «نُـمَـرًا» منفردة على المسرح كل ليلة. يحاول البقاء على سدّة الحياة الفنية وأن يمارس عمله ككوميدي لفترة أطول بعد كل هذه السنين.
* هل في مقدور كل الممثلين الموهوبين أداء الأدوار الدرامية والكوميدية بالإجادة ذاتها؟
- لا أدري إذا كنت أعرف جوابا على هذا السؤال. بالنسبة لي أخذت دروسًا في الكوميديا لكي أؤدي أدوارا كوميدية.
* كوميدي المسرح يعتمد كثيرًا على رد فعل الجمهور. صحيح؟
- صحيح. إذا ألقى نكتة ولم يتجاوب معها الجمهور كان ذلك وبالاً عليه. سيحاول إنقاذ الوضع بإلقاء نكتة أخرى وعليها أن تنجح هذه المرّة وإلا أدرك أنه فشل فشلاً ذريعًا. إنها نهايته.
* هذه هي المرّة الثانية التي تلعب فيها دور «الستاند أب كوميدي»..
- نعم. «ملك الكوميديا» الأول.
* يخيل لي أن جدية الفيلم السابق، الذي أخرجه مارتن سكورسيزي، هي التي جعلته عملاً متميّـزًا لليوم. هل تعتقد أن «الكوميدي» يحمل الخصال ذاتها؟
- عندما قمنا بتقديم «ملك الكوميديا» سنة 1982 أو 1983 لم نكن نعلم مصير الفيلم ناهيك أنه سيكون عملاً متميزًا إلى اليوم كما تقول. هذا شيء متروك للزمن ولخبرة المخرج. أعتقد أن هذا الفيلم الجديد جيد كفيلم كوميدي وسعادتي فيه تنبع من أنني أمثل دورًا كوميديًا يحمل قلبًا إنسانيًا.
* ما رأيك بالكوميديا الساخرة؟ هل هناك كوميديا غير ساخرة؟ هل تنجح الكوميديا بلا سخرية؟
- نعم هناك كوميديا غير ساخرة. هناك كوميديا الحركة المحضة. لكن حتى هذه محكوم عليها بأن تكون ساخرة. ما هو مثير في الكوميديا هو أنها تشمل مواقف جادة وعناصر دراماتيكية وكلما فعلت ذلك كلما نجحت أكثر.
* كوكب هوليوود
* لقد أخرجت حتى الآن فيلمين متباعدين. أولهما في سنة 1993 وهو «حكاية برونكس» والآخر سنة 2006 بعنوان «الراعي الصالح». هل تفكر بالإخراج مرّة ثالثة؟
- نعم.
* لكن أعمالك متباعدة جدًا في هذا النطاق…
- منذ البداية تخيلت أنني لن أنجز أكثر من خمسة أفلام في حياتي المهنية. إذا أنجزت ثلاثة فإن ذلك سيكون من حسن حظي.
* لكن لماذا حددت لنفسك خمسة أفلام فقط؟
- الإخراج يأخذ وقتًا طويلاً والمخرج عليه أن ينصرف كليًا لما سيقوم به ولأشهر أطول بكثير من الفترة التي يقضيها الممثل في تصوير فيلمه. ربما لسنوات وليس أشهر. أيضًا علي أن أجد المشروع الذي أقول لنفسي إنني أحب القيام به.
* ما الذي عليه أن يستهويك؟
- قائمة طويلة من الأمور كل منها عليه أن يتحدث إليك بنبرة شخصية. أقصد أن عليك أن تدرك أن مثل هذا المشروع من الفرادة بحيث لا يمكن لك تفويته.
* هل يعيش أهل هوليوود على كوكب آخر غير هذا الكوكب؟
- (يضحك). ربما. أنا أعيش في نيويورك.
* أسأل لأن العالم ستيفن هوكينز مؤخرًا ذكر أننا نعيش في زمن خطر وأن على النخبة فيه، بمن فيهم نخبة هوليوود، فعل شيء لردم الهوّة بينهم وبين الآخرين.
- هذا صحيح. أعتقد أن هناك الكثير من القصص التي يمكن لهوليوود أن تحكيها حول الناس المنسيين. هناك الكثير مما يقع حاليًا ما يجعل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية كبيرة. كثيرون يخسرون أعمالهم بسبب التكنولوجيا. التكنولوجيا هي التي تدير شؤوننا اليوم ما يفرض على الكثيرين منا أن يتعلموها ويعملون بمقتضاها وإلا لخسروا أعمالهم. هذا واحد من قضايا كثيرة اعتبرها ملحة وعلينا أن نتطرق إليها.
* في «الكوميدي» هناك رغبة في طرح مسائل مهمّـة. في أكثر من مشهد لك هناك طرح جاد لموضوع ربما لا يهم الحاضرين بقدر ما يهم الشخصية التي تقوم بها.
- تمامًا. هذا سؤال مهم. الكوميدي عليه أن يقترب من المواضيع التي تهم القطاع الأكبر من الناس وليس فقط من يحضره للضحك والترفيه. هذا ما يفعله الكوميديون التلفزيونيون مثل جون ستيوارت وجون أوليفر. هؤلاء يتحدثون في السياسة لأن السياسة مهمة.
* ما هو الفن الآخر الذي يستهويك اليوم لجانب التمثيل؟
- أستطيع أن أقول الموسيقى. أحب الموسيقى جدًا. لقد سألتني عن الفيلمين اللذين قمت بإخراجهما وهما بالمناسبة مليئان بالموسيقى. حاولت أن أجعل الموسيقى جزءًا من العناصر الرئيسية في هذين الفيلمين.
* هناك أفلام بلا موسيقى…
- نعم، لكن عندي الموسيقى هي كل شيء. مهمة جدًا لي وأنا أسمعها دائمًا.
* مؤخرًا حصلت على جنسية إيطالية. هل هذا مهم لك؟
- في هذه الأيام هذا مهم جدًا… إنها حصانة (يضحك)...



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)