أيام في جيبوتي (1 - 3) : خريطة القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي

أقدمها فرنسية وأكبرها أميركية وأصغرها يابانية... والصين والسعودية في الطريق

زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب
زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب
TT

أيام في جيبوتي (1 - 3) : خريطة القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي

زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب
زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب

غير مسموح للجنود والضباط العاملين في القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي الاختلاط بعامة الناس.
لديهم كل شيء داخل معسكراتهم وفنادقهم، مطاعم، مقاهٍ، نوادٍ وملاعب ترفيهية. لكن يمكن ارتداء ملابس مدنية والتجول في البلدة الفقيرة والهادئة، في بعض الأوقات، كما فعل المسؤول في الجيش الأميركي العقيد جون، الذي يدير فريقا متخصصا في إصلاح آليات في قواعد عسكرية تابعة لبلاده في المنطقة.
وتجولت {الشرق الأوسط} في أنحاء الدولة الأفريقية الواقعة في القرن الإفريقي.. وتساءلت عن القواعد والاستقرار والاستثمار وجاءت الإجابات في ثلاث حلقات تنشر تباعاً.
يتزايد عدد القواعد العسكرية في القرن الأفريقي بالقرب من مضيق باب المندب الذي تعبر منه سنويا نحو 12 مليون حاوية من البضائع، إضافة لناقلات النفط، ويعد أحد أهم منافذ التجارة الدولية. طلائع القادة العسكريين الذين حطوا هنا قبل 15 سنة، لم يكن اهتمامهم، في البداية، حماية التجارة، وإنما ملاحقة الإرهابيين ومراقبة بؤر التوتر في أفريقيا والشرق الأوسط. وتعد جيبوتي، متعددة العرقيات واللغات، واحدة من أكثر دول المنطقة استقرارا مقارنة بدول مجاورة مثل الصومال وجنوب السودان واليمن. وتقع ضمن القرن الأفريقي على الساحل الشرقي للقارة السمراء. وتتحكم، مع اليمن في الجهة الآسيوية المقابلة، بمضيق باب المندب. ومن هنا كانت تعبر، قبل مئات السنين، قوافل تجار جلود الحيوانات من أفريقيا إلى الصين، ومبادلتها بالأقمشة. اليوم تعود الأهمية التجارية إلى المنطقة باستثمارات تقدر بمئات المليارات من الدولارات.
يقول الرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر غيلة، لـ«الشرق الأوسط»: إن كل هذه الاستثمارات وحركة التجارة تحتاج إلى قوة تحميها، مشيرا إلى أن الأزمة الصومالية، والحرب في اليمن، والقرصنة البحرية، والإرهاب، والجفاف المتكرر، يعد من التحديات الرئيسية التي تعانيها هذه المنطقة الحيوية من العالم، على الصعيدين الأمني والتنموي. ويضيف الرئيس غيلة: إن بلاده تضطلع بدور طليعي في الجهود المبذولة لمواجهة هذه التحديات وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة؛ لينعكس ذلك إيجابا على التكامل والتضامن الاقتصادي، وتعزيز فرص العيش الكريم لشعوبها.
وتوجد قاعدة عسكرية فرنسية داخل أسوار ضخمة يعود معظمها إلى حقبة الاحتلال الفرنسي لجيبوتي قبل مائة سنة. وهي أكبر مساحة، لكنها، في الوقت الرهن، أقل عتادا وجنودا مما كانت عليه في الماضي، مقارنة بالقاعدة الأميركية المعروفة باسم «لامنيار (Lemonnier)» التي تدير علاقات مع عشرات الدول في المنطقة. وتتعاون مع الفرنسيين في تسيير دوريات في البحر.
بدأ التفكير في إقامة القاعدة الأميركية، الأكبر في أفريقيا داخل جيبوتي، عقب هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 بالولايات المتحدة؛ وذلك في محاولة للحد من نشاط الجماعات المتطرفة وتقديم الخدمات الإنسانية والعمل عن قرب مع الحكومات المحلية.
وفيما بعد أدى تفاقم الفوضى على الساحل الصومالي واستهداف جماعات متشددة وقراصنة للسفن العابرة، إلى تزايد أهمية القرن الأفريقي. ثم زاد الاهتمام بالمنطقة عقب التمرد الذي قام به الانقلابيون الحوثيون في اليمن، ومحاولات إيران الداعمة للانقلابيين، التواجد في المضيق الذي تمر منه الناقلات عبر البحر الأحمر وقناة السويس إلى الدول الغربية.
وتمتد القاعدة الأميركية، ومركزها في ضاحية آمبولييه، بجوار سور مطار جيبوتي بطول نحو 4 آلاف متر. وفيها مدرج لانطلاق الطائرات من دون طيار والطائرات الحربية والمروحيات. ويبلغ عدد الجنود فيها نحو 2000 جندي وضابط، ويرتفع العدد إلى نحو 3700 بحساب العاملين المدنيين الأميركيين والمحليين. وتغص القاعدة بحظائر للطائرات وهناجر لتخزين الآليات والأسلحة. وتملأ أركانها بعدد من المطاعم والمقاهي ذات الماركات العالمية المعروفة، ومنها مطاعم البيتزا.
وتنتشر في القاعدة ملاعب كرة القدم والكرة الطائرة وصالات الاحتفالات وحمامات السباحة وصالات رفع الأثقال وغيرها. ويتردد عليها مسؤولون من جيش الولايات المتحدة بين حين وآخر، مثل العقيد جون الذي التقت به «الشرق الأوسط» أثناء رحلة بالطائرة في المنطقة. وهو مثل غالبية الأميركيين، تتملكه الغيرة كلما رأى لافتة من لافتات الشركات الصينية التي تعمل هنا.
ومن المقرر أن تبدأ الصين في إنشاء قاعدة عسكرية لها، هي الأخرى، على بعد كيلومترات عدة من القاعدة الأميركية خلال عام 2017. وبينما تسعى المملكة العربية السعودية إلى إقامة قاعدة في مكان مجاور، من المقترح أن يكون قرب العاصمة، تحاول إيران أن تجد لها موضع قدم، ليس في جيبوتي التي قطعت علاقتها مع طهران قبل أشهر عدة بسبب سياساتها المريبة، ولكن في مناطق أخرى لم تتضح بعد.
وفتحت جيبوتي التي تعد من أهم دول القرن الأفريقي، الباب لدول كبرى وصديقة لتأسيس قواعد عسكرية، لكن، كما يقول المسؤولون هنا، بشروط خاصة لا تتعارض مع الأمن القومي الجيبوتي، ولا مع توجهات الدولة. والهدف مواجهة الإرهاب وحماية التجارة الضخمة العابرة من باب المندب، إضافة إلى حماية الاستثمارات الكبيرة التي تستقطبها جيبوتي من دول العالم لخدمة باقي دول القارة الأفريقية، وبخاصة تجمع دول «الإيغاد» و«الكوميسا». وحين وافقت جيبوتي للصين على إقامة قاعدة عسكرية، سألهم الأميركيون عن أنه ربما لا ينبغي الموافقة للجيش الصيني على التواجد هنا، لكن الجيبوتيين ردوا قائلين إن الصين تريد أن تحمي معنا تجارتها، وبخاصة أن ثلث الحاويات التي تعبر من باب المندب قادمة أساسا من الصين.
في مطلع العام الماضي اعتقد الأميركيون أن القاعدة الصينية التي سيتم تأسيسها ستكون قرب مدينة «أُبخ» التاريخية والمطلة مباشرة على باب المندب، في شمال جيبوتي. وجاء هذا الظن، على ما يبدو، بسبب قيام طلائع من الجيش الصيني بالتدريب في صحراء «أُبخ» ذات الطابع الاستراتيجي. ويقول أحد المسؤولين في جيبوتي: إن كل من تقدموا بطلبات لإقامة قواعد عسكرية في «أُبخ» في السنوات الأخيرة تم رفضها لأسباب تتعلق بالأمن القومي الجيبوتي، و«لم نسمح بأي تواجد عسكري أجنبي في أُبخ». ويوضح قائلا: «إذا وافقنا على أي إقامة عسكرية دائمة في أُبخ، لأي دولة، فهذا يعني أننا ربما سنخسر، مستقبلا، مضيق باب المندب الذي يمثل حجر الزاوية في سيادة جيبوتي».
وفيما بعد اتضح أن قطعة الأرض، التي شرعت الصين في إقامة قاعدتها العسكرية عليها، تقع قرب منطقة تاجورة، جنوب مدينة جيبوتي، على مسافة تبلغ نحو 10 كيلومترات من مقر القاعدة الأميركية. أي في النطاق الصحراوي للعاصمة. وتبلغ مساحة القاعدة الصينية نحو 80 فدانا، وهي أقل من مساحة نظيرتها الأميركية بكثير.
الغيرة الأميركية، والغربية عموما، من وجود الصينيين في جيبوتي، وهو الوجود العسكري الأول لها خارج أراضيها، لا يتعلق ببناء قاعدة لها في تاجورة فقط، ولكنه يتعلق كذلك بالاستثمارات الصينية الضخمة التي بدأت تتدفق على هذا البلد باعتباره منفذا بحريا مهما لدول وسط أفريقيا. ويقول مسؤول جيبوتي: «مع ذلك ستكون القاعدة الصينية أقل حجما من قاعدة ليمونييه، لكن قيمة تأجير أرض القاعدة الصينية، أكثر من القيمة التي تسددها القاعدة الأميركية».
ووفقا لمركز مقديشو للبحوث والدراسات، تجني جيبوتي نحو ربع مليار دولار سنويا مقابل تأجير أراض لقواعد عسكرية. وبحسب مصادر أخرى، تبلغ قيمة التأجير السنوية للولايات المتحدة نحو 70 مليونا، وللصين نحو 100 مليون، ولليابان ما يقارب من 35 مليونا، ولفرنسا (القاعدة الأقدم) نحو 30 مليونا، بالإضافة إلى مبالغ أخرى من دول لها تواجد عسكري محدود مثل ألمانيا وإسبانيا. هذا إلى جانب مساعدات ومشروعات تقوم بها هذه الدول لتنمية دول القرن الأفريقي وبلدان وسط القارة انطلاقا من جيبوتي.
الصين، على سبيل المثال، تعتزم ضخ استثمارات جديدة في هذه المنطقة تبلغ أكثر من 60 مليار دولار، بينما تسعى اليابان إلى افتتاح مشروعات إضافية تصل قيمتها إلى نحو 30 مليار دولار. وفي المقابل، يبدو أن العبء الأكبر في عملية بسط الاستقرار والأمن في المنطقة عموما، حتى الآن، يقع على عاتق القاعدة الأميركية التي تشمل عملياتها، حاليا، محاولة الحد من الاضطرابات في دولة جنوب السودان ومكافحة الإرهاب في الصومال والمشاركة في التصدي لمحاولات الحوثيين، ومن يدعمهم، تهديد الملاحة في البحر الأحمر.
ويعود تاريخ الوجود العسكري الياباني في جيبوتي إلى عام 2009، وهو أول وجود عسكري لليابان خارج حدودها منذ الحرب العالمية الثانية. وحين جاءوا إلى هنا قالوا: نريد أن يكون مكاننا قرب القاعدة الأميركية. والآن استقر الأمر إلى حد كبير. وفي كثير من الأحيان يقضي الجنود السهرات الليلية في النوادي التابعة للأميركيين.
وبينما يتزايد انتشار لافتات عليها كتابة باللغة الصينية، وتحمل أسماء لشركات قادمة من بكين إلى جيبوتي لتوسيع الموانئ البحرية، ومد خطوط السكك الحديدية إلى الداخل الأفريقي، بدأت اليابان في التخطيط لتوسيع قاعدتها العسكرية بالتزامن مع محاولة لزيادة استثماراتها في أفريقيا أيضا. وبدلا من الاعتماد على منشآت عدة مستأجرة من القوات الأميركية، تسعى اليابان إلى الحصول على مزيد من الأراضي للتوسع.
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، ارتفع عدد الجنود اليابانيين في جيبوتي، الذين يطلق عليهم اسم «قوات الدفاع المدني»، من نحو 150 عنصرا إلى 400 عنصر. ويقيمون في منشآت على مساحة تبلغ نحو 30 فدانا، ويتنقلون، عبر أربع طائرات من طراز «بي 3 سي» بين القاعدة، واثنتين على الأقل من المدمرات البحرية اليابانية التي تشارك في تأمين مئات السفن التجارية وتراقب نشاط القراصنة والعناصر المشبوهة في خليج عدن.
وتعد أقدم قاعدة عسكرية في جيبوتي هي القاعدة الفرنسية التي تحمل اسم «فورس فرانسيس جيبوتي (ffdj)». وهي محاطة بأسوار عتيقة عليها أسلاك شائكة. ويمكن رؤيتها من طريق «دودا» المتفرع من شارع المطار. والقاعدة تتكون من جزأين.. مقر الإدارة على اليمين، ومقر القوات والآليات الحربية على اليسار. ويقع بينهما ميدان صغير تعبر منه سيارات سكان المدينة. ولا يفصل القاعدة الفرنسية عن أختها الأميركية إلا قاعدة أخرى تابعة لجيبوتي. ولا توجد قواعد عسكرية ثابتة للإسبان والألمان، لكن لديهم مئات عدة من الجنود والضباط ممن يديرون سفنا حربية عدة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وهم يترددون على فنادق جيبوتي الكبيرة ويقيمون فيها أياما عدة في بعض الأحيان. وحين تكون لديهم حاجة إلى المساعدة من على الأرض؛ فهم يلجأون عادة لطلب العون من القاعدة الأميركية أو الفرنسية.
وخلال الشهور القليلة الماضية، بدأت مشاورات وزيارات بين القيادتين العسكريتين في كل من جيبوتي والسعودية، تمخضت عن وضع مشروع مسودة اتفاق أمني وعسكري واستراتيجي، يتضمن استضافة جيبوتي لقاعدة عسكرية سعودية. ووفقا لوزير خارجية جيبوتي، محمود علي يوسف، فقد جرى تحديد بعض المواقع على الساحل الجيبوتي لهذا الغرض. ويضيف: وافقنا، بل شجعنا أن يكون للمملكة، ولأي دولة عربية، تواجد عسكري في جيبوتي؛ نظرا لما يحدث هنا في المنطقة.
وتسعى إيران منذ سنوات عدة إلى التواجد في باب المندب من خلال دعم الحوثيين في اليمن، ومحاولة إغراء دول في القرن الأفريقي بتقديم قروض ومساعدات، إلا أن الوزير يوسف يقول إن جيبوتي، عندما شعرت بأن التعاون مع إيران «كان دائما فيه كثير من اللبس، وفيه كثير من الأمور التي ربما تدخلنا في متاهات معها، ابتعدنا عنها شيئا فشيئا، إلى أن جاء الاعتداء على اليمن، وعلى المصالح العربية، فقررت جيبوتي أن تقطع علاقاتها مع إيران».
ومن جانبه، يبدو الرئيس غيلة من الزعماء الذين يسعون بجدية إلى مسايرة تغير المفاهيم في العالم فيما يتعلق بوجود قواعد عسكرية في بلاده التي لا تتعدى مساحتها 23 ألف كيلومتر مربع. فبعد أن كانت مسألة القواعد تثير الحساسية لدى بعض الدول، يرى الرئيس أن العالم تغير ويحتاج إلى تعاون أمني شامل من أجل التنمية.
ويقول غيلة إن «العالم شهد، خلال السنوات العشر الأخيرة، أزمات معقدة أدت إلى تبلور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية الحرجة التي تسود في الكثير من أنحاء العالم، في الظرف الراهن. وكجزء من هذه الانعكاسات الخطيرة للأوضاع الدولية، فإن الإرهاب والعنف والتطرف سجل انتشارا واسع النطاق على نحو لم يسبق له مثيل»، مشيرا إلى أن «المجتمع الدولي يبذل جهودا متواصلة لمحاربة هذه الظاهرة وتجفيف منابعها».
ويضيف أنه، في هذا السياق، من الأهمية بمكان الإشارة إلى التصدي بفاعلية للإرهاب والعنف والتطرف، وأن هذا يتطلب تعاونا دوليا وثيقا، كما يتطلب مقاربة شاملة لا تقتصر فقط على الجانب الأمني والعسكري، بل تتعامل أيضا مع الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسمح بتنامي الإرهاب.
وفي الماضي، وبخاصة في فترتي الستينات والسبعينات، ارتبط موضوع القواعد العسكرية الأجنبية بالاستعمار والهيمنة، لكن بعض الخبراء العسكريين في الوقت الراهن يقولون إن «الذراع العسكرية أصبحت أطول. ودون الحاجة إلى قاعدة عسكرية، من الممكن أن تطلق صاروخا من دولة إلى دولة أخرى على بعد آلاف الأميال. وبالتالي؛ فإن القواعد العسكرية أصبحت ترتبط بالأمن الدولي وحماية المصالح المشتركة للدول، وليس الاحتلال».
ويقول الوزير يوسف، إنه أصبحت توجد بالفعل «عولمة للأمن»، مشيرا إلى أن خليج عدن ومضيق باب المندب «هما عنق الزجاجة بالنسبة لهذا الأمن الجماعي». و«نحن نؤمن إيمانا راسخا بأن أمن مضيق باب المندب هو لمصلحة الجميع. وإذا كانت هناك قواعد عسكرية تستضيفها جيبوتي، فهي لحماية هذا الأمن الدولي»، مشددا على أنه لا علاقة لهذه المواقع أو القواعد العسكرية بالسياسة الداخلية لجيبوتي «لا من قريب ولا من بعيد».

غدًا في الحلقة الثانية:
* فتحت الباب لدخول استثمارات بمليارات الدولارات
* جيبوتي تسعى للتحول إلى «دبي اقتصاديًا» و«شرم الشيخ» سياحيًا



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.