آدم حنين يطلق جائزة باسمه لشباب النحاتين في مصر والوطن العربي

قال إن فن النحت يحتاج إلى الصبر والتأني والعزلة أحيانًا

النحات المصري آدم حنين («الشرق الأوسط»)
النحات المصري آدم حنين («الشرق الأوسط»)
TT

آدم حنين يطلق جائزة باسمه لشباب النحاتين في مصر والوطن العربي

النحات المصري آدم حنين («الشرق الأوسط»)
النحات المصري آدم حنين («الشرق الأوسط»)

بعد رحلة عطاء خصبة مع الفن أطلق النحات المصري آدم حنين، 87 عاما، جائزة تحمل اسمه لشباب النحاتين في مصر والعالم العربي، الأقل من 35 عاما.
ووسط تماثيله وأعماله الفنية الرائدة بحديقة متحفه تحدث راهب فن النحت عن طبيعة هذه الجائزة، وأهميتها في الأخذ بيد الفنانين الشباب، وإلقاء الضوء على إبداعاتهم، وصقل مواهبهم، لافتا إلى أنه يأمل أن تضيف إلى المشهد الفني أسماء واعدة، وأفكارًا مبتكرة، وخيالاً جديدًا.
تأتي هذه الجائزة تتويجا لخطوات ومبادرات مهمة قام الفنان باتخاذها في السنوات الماضية، فقد شرع بتأسيس مؤسسة آدم حنين للفن التشكيلي عام 2007، للحفاظ على التراث، كما حول فيلته التي يقطن بها بمنطقة الحرانية أسفل أهرامات الجيزة، إلى متحف خاص يضم أكثر من 4 آلاف عمل فني، تعكس ثراء وتنوع رحلته مع فن النحت والرسم على مدى ما يقرب من 60 عاما، وافتتح المتحف وزير الثقافة المصري الأسبق صابر عرب في 18 يناير (كانون الثاني) 2014.
يحتوى المتحف على حديقة متحفية ومبنى يتكون من ثلاثة طوابق ارتفاعها 9 أمتار، وقد قام الفنان بتسليم ما يقرب من 4000 عمل فني للمؤسسة، كما يضم المتحف الآلاف من الأعمال النحتية لآدم حنين، كما وهب أمواله وأعماله والأرض المقام عليها المتحف للمؤسسة، بالإضافة لبنائه المتحف على نفقته الخاصة بعد حصوله على موافقة وزارة التضامن الاجتماعي، كما وهب 76 عملا من أعماله الفنية لمكتبة الإسكندرية، وتضم المؤسسة في مجلس إدارتها وزارة الثقافة كعضو مؤسس، بالإضافة لجمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين ممثلا عنها د. زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء المصري الأسبق.
تحدث آدم حنين في حفل إطلاق الجائزة عن الحكمة التي اكتسبها من فن النحت، ومجابهة خاماته وصخوره الصعبة قائلاً إن فن النحت يحتاج إلى «دعم من نوع خاص، فهو فن الصبر، والتأني، والعزلة في بعض الأحيان. ولكي يصبر الفنان، لا بد أن يكون له هدف، ولو بسيط، يمنحه طاقة تحفيزية على مواصلة الإبداع». مشيرا إلى أن كل هذا يشكل معنى هدف الجائزة، كما أنها ليست بمنأى عن أهمية الفن في وقتنا المعاصر، وخاصة في عالمنا العربي، الذي يموج بتحولات تاريخية.
وأكد حنين على أن مجلس أمناء المؤسسة برئاسته ارتأوا ضرورة ألا تقتصر الجائزة على شباب النحاتين المصريين، منوهًا بأن هناك دورا هاما على المستوى العربي، لا بد أن تتحمله المؤسسات المهتمة بالشأن الثقافي والفني. والذي أرجعه إلى ما عاناه وأبناء جيله في مقتبل حياتهم الفنية، فقال: «في أيام الشباب، كنت وأبناء جيلي، نحتفي بكل يد تمتد إلينا لتعيننا على مواصلة الطريق»، مشيرا إلى أن كثيرًا من المقومات لم تكن متاحة لديهم، خاصة المقومات المادية التي تعين النحات الشاب على إنتاج أعماله.
وأضاف آدم حنين أن الحافز الأساسي في هذه الجائزة مركب، فعلاوة على أن قيمة الجائزة الأولى ماديا تبلغ 50 ألف جنيه، وهو رقم جيد بالنسبة للشباب، فإن الحافز المعنوي يكمن في الجائزة الثانية والمتمثلة في الإقامة والعمل لمدة أسبوعين في أتيلييه الفنان آدم حنين وتحت إشرافه.
وقال المعماري أكرم المجدوب أمين عام مؤسسة آدم حنين: «إن المؤسسة كانت تضع في خطتها عدة أهداف، على رأسها إنشاء متحف يضم أعمال الفنان الكبير، وهو ما تحقق بالفعل، ثم وضعت خطة ليؤدي المتحف دورًا تنويريًا في الارتفاع بالذائقة العامة من خلال زيارات مدرسية، لأبناء المدارس المحيطة، إلى جانب توافد طلاب الكليات الفنية لينهلوا من هذا الزخم الفني الكبير».
وحول الأنشطة المستقبلية لمؤسسة آدم حنين أوضح المجدوب أن المرحلة المقبلة ستشهد خروجا إلى مدن أخرى بعيدا عن العاصمة القاهرة، والانطلاق نحو الأقاليم، لتنظيم زيارات متحفية، أو عقد مسابقات وأنشطة تسهم في اكتشاف الموهوبين في الفن والتشكيلي، والعمل على رعايتهم فنيًا، وذلك بالتعاون مع الجهات الرسمية المعنية متمثلة في وزارة الثقافة، والجامعات، إلى جانب المؤسسات الأهلية الوطنية.
وشهدت الاحتفالية التي أقيمت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عرضا متحفيا ختاميا تضافرت فيه الموسيقى مع غلالات الضوء، المنسابة برقة على الأعمال النحتية، في تناغم جمالي، خير انتشل ضيوف الاحتفالية من عن صخب العاصمة وضوضاء الحياة.
وأعلنت المؤسسة جائزة آدم حنين لفن النحت، وفقًا للشروط التالية: ألا يزيد عمر المتقدم لنيل الجائزة على 35 عامًا، ألا يكون العمل المقدم قد حصل على جوائز أخرى، يحق للمتسابق التقدم بأكثر من عمل، ألا يزيد حجم العمل على نصف متر مكعب. لافتة إلى أن آخر موعد لاستقبال الأعمال المشاركة 31 يناير 2017.
وبالنسبة للجوائز، أوضحت أن الجائزة الأولى تبلغ قيمتها 50 ألف جنيه مصري. أما الجائزة الثانية، فهي عبارة عن منحة مجانية للإقامة لمدة أسبوعين والعمل بأتيليه الفنان آدم حنين وتحت إشرافه. وسوف تعرض الأعمال التي تخطت مرحلة الفرز في معرض يقام بمناسبة الإعلان عن الجوائز.
يذكر أن الفنان آدم حنين كان قد أسس مع وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني، سمبوزيوم أسوان الدولي لفن النحت، وذلك منذ ما يزيد على عشرين عامًا، وأصبح السمبوزيوم واحدًا من أهم الملتقيات العالمية في مجال النحت على الجرانيت، كما أسهم بدور رائد في عبور فن النحت المصري إلى آفاق امتزج فيها النحت المصري القديم برؤية معاصرة، مصرية الطابع، وهو ما انعكس على خروج جيل شاب من النحاتين المصريين، الذين أصبح لهم وجود على المستوى الإقليمي والدولي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)