خيانة ستالين.. وفرحة ترومان بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما

أطول يوم في تاريخ اليابان (2 من 3)

مظاهر الدمار والخراب على هيروشيما بعد إلقاء القنبة الذرية
مظاهر الدمار والخراب على هيروشيما بعد إلقاء القنبة الذرية
TT

خيانة ستالين.. وفرحة ترومان بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما

مظاهر الدمار والخراب على هيروشيما بعد إلقاء القنبة الذرية
مظاهر الدمار والخراب على هيروشيما بعد إلقاء القنبة الذرية

تناولت الحلقة الأولى دعوة الحكومة الأميركية لحكومة اليابان أن تعلن بشكل واضح وصريح التنازل غير المشروط، وأن تقدم التعهدات الصحيحة والملائمة لإثبات حسن النيات، وإلا سيكون الدمار السريع والشامل هو البديل. كان أمام الحكومة اليابانية أن تختار، في وقت قصير جدا، أن تبقى مرهونة لإرادة العسكريين المتشبثين برأيهم، الذين أوصلت استنتاجاتهم غير الذكية إمبراطورية اليابان إلى حافة الهلاك، أم أنها ستتبع طريق المنطق، خصوصا بعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، ثم ناغازاكي.
في حلقة اليوم وأمام هذه اللحظات المصيرية، كان لابد من اللجوء إلى الإمبراطور لحسم الأمر، وهو أمر يحصل للمرة الأولى في تاريخ البلد.
مرة أخرى أخذ الجنرال توجو القيادة. الرجل المتعجرف ذو الثانية والستين، الميال إلى احتقار آراء الآخرين، كان أكثر انطلاقًا في الكلام حتى من رئيسه (رئيس الوزراء) كانتارو سوزوكي الذي تجاوز السابعة والسبعين من عمره، المتناعس، ثقيل السمع، يقول شيئا اليوم وعكسه غدًا، مرحبًّا بتسليط الأضواء على الآخرين بينما هو يتخذ طريقه في كسل إلى الاجتماعات التي لا تبدو لها نهاية ولا ينتج عنها شيء.
أكد توكو أنه طالما كان إعلان بوتسدام القاعدة الأساسية الوحيدة لمحادثات السلام، فمن المؤمل ألا يُعلن شيء منه للشعب إلى أن تكون الحكومة قادرة على اتخاذ موقف ثابت بطريقة أو بأخرى.
وزير الشؤون الاجتماعية تاداهيكو أوكادا قال إن البيان قد أذيع حول العالم، فلن يكون من الصعب على شعب اليابان أن يسمع عنه، وقبل أن يحدث هذا يجب أن يطلعوا عليه رسميًا عن طريق حكومتهم.
مدير دائرة المعلومات، هيروشي شيمومورا، وافق، مضيفًا أن التأجيل قد يعتبر في الخارج دليلا على خوف اليابان المفرط من الموقف. ثم اتجهت كل العيون إلى وزير الحرب الجنرال كوريتشيكا أنامي، الذي تحدث إلى الجيش وهو لا يزال يتمتع بأكبر نفوذ في البلد، رغم افتقاره لحماسة أسلافه.
إنه في السابعة والخمسين، وما زال يحتفظ بهيئة مهيبة، مزدانًا بنياشين الرماية والمبارزة، وبالنسبة للضباط الشباب يبدو بمظهر الشخص الموثوق به، والأبوي. كانوا واثقين من الاعتماد عليه لدى ذهابهم إلى الحرب، وفي الاجتماع أصرّ بعناد عزز من صورته هذه لديهم، على أن انتشار أخبار البيان الآن، يوجب على الحكومة أن تقرر شيئين: اعتراضها على صيغته، والموقف الذي تريد أن يتبناه الشعب الياباني إزاءه. أُثني على أنامي من قبل رؤساء الجيش والبحرية في الاجتماع.
في النهاية توصلوا إلى تسوية مفادها: بما أن الحكومة غير قادرة عمليًا على تجاهل الإعلان، ولا على نشره مع الاحتجاج عليه، إلى أن تعرف أين تقف، وافق المجلس في النهاية على إطلاق الأخبار بشكل ينطوي على بعض الغموض، بحيث يبدو كأنه قادم من أرض الأحلام وليس من بوتسدام. فموقف الحكومة من الإعلان يجب ألا يكون واضحا عند النشر، وعلى الصحف أن تقلل من شأن الموضوع قدر الإمكان، إذ كان مسموحًا بنشره معدلاً، لكن من دون أي تعليق عليه.
لقد عزمت الحكومة اليابانية على «تجاهل» الإعلان. ورغم إصرار أنامي على الاحتجاج عليه بلهجة قوية، فإن رئيس الوزراء سوزوكي اتفق مع وزير الخارجية توكو على ما أسماه «قتل الإعلان بصمت»، قال، وبهذه الكلمة التراجيدية المشهورة: «موكو ساتسو» وهي تعني أيضًا ابقَ هادئًا، حكيمًا، وبلا حركة. وهذا بلا شك كان المنطق الذي يفكر به سوزوكي، لكن لسوء الحظ بدا المعنى الآخر أكثر إثارة وإقناعًا، وعندما ظهرت الكلمة على الصفحات الأولى من صحف طوكيو في الصباح التالي، فُهمت على أن الحكومة تحتقر البيان، وفي الحقيقة ترفضه. وفسرت «موكو ساتسو» في واشنطن وبريطانيا وبقية أوروبا والدوائر الدبلوماسية الأميركية على أنها تعني «إنتاج أكبر الضرر».
جريدة أساهي شيمبون، وهي أكبر صحف طوكيو، فسرت إعلان بوتسدام في صباح ذلك السبت على أنه «ليس بذي قيمة». الشعب الياباني أُعلم بالبيان وأكد له في الوقت نفسه أن الحكومة وجدته غير مقبول، الأمر الذي كان مجلس الوزراء قد توصل إليه بصعوبة كبيرة ظهيرة ذلك اليوم. إلا أن الناس لم يعرفوا بهذا أكثر مما كانوا يعرفون ما كان يجري خلف الأبواب المغلقة للوزارات والدوائر الحكومية وخنادق القصر، وبهذا تعاملوا مع البيان باحتقار صامت، كما أخبرتهم الحكومة أن هذا أقصى ما يستحقه.
اليوم التالي، السبت، الـ28 من يوليو (تموز)، وافق رئيس الوزراء على لقاء صحافي في الساعة السابعة لمناقشة إعلان الحلفاء. وعلى كل الأسئلة المتوقعة والمهمة، ردّ سوزوكي أن إعلان بوتسدام لم يكن إلا الفكرة القديمة لإعلان القاهرة، ووضعت في قالب جديد. والحكومة اعتبرته «شيئا لا قيمة له». بعد ذلك أضاف فجأة: «نحن ببساطة سوف موكو ساتسو الإعلان» ثم أعلن أن الحكومة مصرّة على الاستمرار في الحرب حتى إحراز النصر.
كان وزير الخارجية توكو غاضبًا عندما سمع بيان رئيس الوزراء. احتج على أن البيان جاء متناقضًا بشكل فاضح مع القرار الذي وصل من مجلس الوزراء، وفي الوقت نفسه أدرك أنه لا يمكن عمل أي شيء: «من المستحيل الآن حمل رئيس الوزراء على التراجع عن تصريحه». كان الضرر قد وقع وانتهى الأمر.
تصريح سوزوكي نشر في صحف اليابان يوم 30 يوليو، وتناولته الصحافة في كل أرجاء العالم على أن اليابان غير مهتمة أصلاً حتى بمجرد رفض إعلان بوتسدام. ولوصف هذه اللحظة لاحقًا، قال سكرتير وزارة الحرب الأميركية هنري ستمسون: «إن الولايات المتحدة يمكنها فقط المباشرة لإثبات أن الإنذار الذي حمله إعلان بوتسدام يعني تمامًا ما أشار إليه، وهو إذا استمرت اليابان في الحرب فإن جميع قواتنا المسلحة، مؤَيدة بإصرارنا، سوف تعني الدمار الشامل لقوات الجيش الياباني، وفقط الدمار الشامل لأرض اليابان».
من الواضح أن القنبلة الذرية ستكون أبرز سلاح مناسب لمثل هذه الحالات. لكن اليابان ظلّت تنتظر خلال ذلك ردّ الاتحاد السوفياتي.
عندما أبرق السفير الياباني لدى الكرملين إلى توكو بأنه «لا مجال بأي حال» لإقناع الروس بدعم اليابان، ردّ عليه وزير الخارجية: «رغم رأيك، فعليك مواصلة تنفيذ التعليمات، محاولا الحصول على مساعي السوفيات الحميدة - في إنهاء الحرب - لتقتصر على الاستسلام غير المشروط». وكان توكو قد خدم لفترة سفيرا لدى موسكو، لذا لم يكن يجهل الذهنية التي يفكر بها السوفيات. كانت أسبابه الإصرار على متابعة هذه الجهود أنها قد تلقي بحفنة من القش على مستنقع محاولات إنهاء الحرب، التي ربما لخصت فيما قاله ذلك الوقت: «بغض النظر عن صعوبة ما يمكن أن ألاقيه في محاولة إقناع الجيش الياباني لإجراء محادثات مباشرة مع الأميركان أو البريطانيين، فليس لدي شكّ، حتى لو أنهم رفضوا الإصغاء، يجب أن نحاول التفاوض من خلال موسكو، إذ ليس ثمة مجال آخر لإنهاء الحرب».
لم يكن الجيش واثقا من إمكانية التوصل إلى تفاهم مع السوفيات. في منتصف يونيو (حزيران) توقّع أنامي أن الروس «سيهاجمون اليابان، تمامًا كما يستعد الأميركان لإنزال قواتهم على جزرنا»، وقد استمر في هذه النقطة إلى النهاية. قبل الاستسلام بأيام قليلة أخبر أنامي وزارة الداخلية بأن اليابان لو تأخرت فترة أطول لتشغل القوات الأميركية في كيوشو جنوب اليابان، فإن واشنطن ستكون خائفة من أن يحتل الروس أجزاء مهمة من شمال اليابان، مما يبقيها مترقبة للتوصل إلى معاهدة سلام، لذلك سوف تعرض امتيازات لصالحنا.
لكن القوات البحرية اليابانية كان رأيها أن السوفيات سوف يدخلون الحرب بعد معركة أوكيناوا، وهذا أحد الأسباب التي جعلت البحرية تطلب من القوات اليابانية اتخاذ موقف متشدّد، ينزل خسائر كبيرة في قوات العدو. لذلك، رغم أن الروس قد أعلنوا أنهم ما عادوا مهتمين باتفاقية الحياد بين الدولتين (اليابان والاتحاد السوفياتي) إضافة إلى ردّ موسكو لليابان الذي تضمن بشكل رئيسي العبارات المائعة والصمت، فإن مجلس الستة الكبار والإمبراطور نفسه ظلوا معلقين آمالهم على المساعي «الحميدة السوفياتية». كانت الأيام تمرّ، واليابان تنتظر ردّ ستالين.
في تلك اللحظة كان البلد يبدو كما لو أنه بأكمله مرتبكًا وذاهلاً. اليابانيون فهموا أنهم لن يخسروا الحرب، لذلك بدا التنازل أمرًا خسيسًا، والبديل الوحيد الشريف للانتصار هو الموت.
كان صعبًا ومستحيلاً التصديق بأن ما حدث قد حدث فعلاً: «كان خرابًا تامًا، وأمرًا لا يمكن تلافيه». الضريبة التي دُفعت ربما كان موقف الإمبراطور أكبر ثقلاً منها في حالة الصدمة التي عاشوها، لأن اليابانيين يؤمنون أنه ليس فقط منحدرا من سلالة مقدسة، إنما هو القدسية ذاتها، حيث يعتبر وجود اليابان من وجوده هو، مثلما استمر هذا الاعتقاد منذ زمن سحيق.
من الصعب التكهن عما يمكن أن يحدث لو أن قوات الحلفاء عرضت في تلك اللحظة تعهدات على النظام الياباني في شخص الإمبراطور، مؤكدة «إنهاء الحرب، وتنازل الجيش، ولن يُعطى الروس فرصة لدخول منشوريا». لكن هذه التكهنات لا قيمة لها؛ ففي حالة ذهولها اتبعت اليابان فقط الطريق الوحيد الذي بدا مفتوحًا ومرّت الليلة الأولى من أغسطس (آب) بلا أهمية وبلا أمل، باستثناء الانتظار والترقب والحذر. في 6 أغسطس جاء الردّ.
في الساعة الثامنة التقطت محطة رادار هيروشيما اثنتين من طائرات B29. كان الإنذار قد أطلق في المحطة، والطائرات حلقت على مسافة مرتفعة جدًا؛ وقد أعلن الراديو أنها كانت في طلعات استطلاعية، بينما معظم سكان هيروشيما (ربع مليون) لم يبالوا ولم يتوجهوا إلى الملاجئ، ولم يتوقعوا قصفًا، وكثير منهم راح يحدق في السماء بينما الطائرتان تناوران.
من الطائرة القائدة انفتح باب حفظ القنابل.
في الساعة الثامنة والربع و17 ثانية شاهد كثير من الناس عناقيد من المظلات تنقذف من إحدى الطائرتين. في الثانية التالية تحوّل الجو إلى سطوع أبيض يعمي النظر... وأربع وستون ألف شخص بين ميت أو على وشك الموت.
هذا إذن كان الردّ على انتظار اليابان. لم يأتِ، كما كان متوقعًا من الاتحاد السوفياتي، إنما من الولايات المتحدة، حيث سدّدت القسط الأول من تهديدها: «الدمار الكلي الشامل» لليابان.
وصلت الرسالة الإخبارية الأولى لوكالة أنباء «دومي» إلى طوكيو تقريبًا عند الظهر، إلا أن التفاصيل عن حجم الكارثة وطبيعتها وصلت بعد ذلك في وقت متأخر، على شكل تقرير من مقر رئاسة الجيش الثاني، عبر قاعدة كورو البحرية، مع ذلك ظلت التفاصيل شحيحة، وكل ما علمته طوكيو أن عددًا قليلاً جدًا من طائرات العدو أحدث أضرارًا هائلة باستعمال قنابل من نوع مجهول.
في الصباح التالي، عند الفجر، كان اللفتنانت جنرال توراشيرو كاوابي، نائب رئيس الجيش العام، أول من استقبل الرسالة الموجزة، التي أعملته أن هيروشيما قد مُسحت خلال لحظة انفجار خاطف بقنبلة واحدة. فيما بعد قال كوابي إنه يشك بأنها قنبلة ذرية. رفاقه الضباط لم يكونوا في شك من هذا.
الحكومة في طوكيو التقطت بثًّا من واشنطن أكد شكوك كوابي. «أنفقنا بليوني دولار» قال الرئيس ترومان: «حصلنا على أعظم إنجاز علمي في التاريخ وانتصرنا».
أضاف: «إذا كان اليابانيون لم يقبلوا إنذارنا فليتوقعوا أن تمطر عليهم السماء دمارًا لم تشهده الأرض من قبل أبدًا».
لم يعد لدى طوكيو أي سؤال حول ما حدث في هيروشيما.
«لقد أصبح مصدر القوة من الغرب وليس من الشرق». كما قال ترومان، وتستطيع هذه القوة أن تخسف الأرض في المشرق فوق الجالسين على عرش سليل أماتيراسوا وكيكامي، إله الشمس. بيدَ أن طوكيو كانت غير مكترثة بشكل يثير الاستهجان. لقد تطلّب الموقف ردًّا عنيفًا، ولا تزال البلادة الغريبة التي سيطرت على العاصمة اليابانية مستمرة في شلّ حركة الرجال الذين يتوجب عليهم صنع القرار.
في اليوم التالي، 7 أغسطس، أصدر الجيش بلاغًا رسميًا جاء فيه أن الهجوم على هيروشيما من قبل «عدد صغير» من طائرات B29 سبب «أضرارًا بالغة» وقد استخدم في القصف «نوع جديد» من القنابل. «التفاصيل»، قال الجيش: «الآن تحت التحري..».
في 8 أغسطس، نصح وزير الخارجية الإمبراطور بأن على اليابان أن تقبل إعلان بوتسدام بأسرع وقت ممكن، عندئذ أصدر الإمبراطور أمرًا له ليخبر رئيس الوزراء بأنه على ضوء السلاح الجديد الذي استخدمه الحلفاء، فإن اليابان الآن بلا قوة للاستمرار في الحرب، ويجب بذل كل جهد لإنهاء هذه الحرب من دون تأخير. على اليابان أن تتقبل هذا الأمر الصعب.
بناء على ما قاله الماركيز كيدو، كاتم أسرار الإمبراطور، إن صاحب الجلالة قال إن أمنه الخاص يأتي في الدرجة الثانية من مسألة وقف الحرب حالاً. وأصرّ على أن مأساة هيروشيما يجب ألا تتكرر. عندئذ دعا سوزوكي إلى اجتماع طارئ للمجلس الأعلى للحرب، لكن الاجتماع أجل لأن أحد أعضائه كان محجوزًا في مهمة بمكان ما.
خلال ذلك، حاول الجيش التعتيم على إذاعة العدو في مانيللا وأوكيناوا، كما حاول إحباط جهود العدو لقذف منشورات فوق طوكيو تعّبر عن رغبة الحلفاء في إنهاء الحرب من دون تدمير اليابان. في كل الأحوال، ادعى الجيش أنه ليس من الممكن عمليًا، حتى بالنسبة للأميركيين، تصنيع واستخدام السلاح الذري، لأنه أمر مستبعد وخطير. في الوقت نفسه سجلت الحكومة ملف احتجاج رسمي لدى سويسرا ضد حكومة الولايات المتحدة.
بعد ظهر اليوم نفسه، طُلب من السفير الياباني في موسكو المثول في مكتب مولوتوف. اختصر مولوتوف الطريق أمام محاولات السفير ساتو جعل اللقاء وديًا، بأن قرأ عليه الموجز الذي ينتهي بالكلمات التالية: «...حكومة الاتحاد السوفياتي ستعتبر نفسها في حالة حرب مع اليابان».
خلال ساعتين دخل الجيش الأحمر منشوريا، وبدأ هجومًا منظّمًا لإبادة جيش اليابان الـ(كوانتوك). لقد اعتبر اليابانيون تصرف السوفيات غير شرعي ولا يغتفر، لأن الاتحاد السوفياتي واليابان ما زالا ضمن اتفاقية الحياد التي تنتهي في أبريل (نيسان) 1946. إلا أن ستالين جعل تصرفه مشروعًا بمساعدة ترومان، وعلمت حكومة سوزوكي الآن أن البديل للاستسلام غير المشروط هو فعلاً وبلا أدنى شكّ الدمار. وبدا أن فرصة هذا الدمار الشامل هو تمامًا ما أراده الجيش. إن هدوء صبيحة ذلك الخميس الحار، الرطب والمتقد من التاسع من أغسطس، بدت لوزير الخارجية توكو مثل ماء بارد يراه من بعيد رجال عطشى يموتون في الصحراء.
في الساعة الثامنة صباح 9 أغسطس، كان توكو في بيت رئيس الوزراء سوزوكي في كويشيكاوا شمال وسط طوكيو، حين طلب من رئيس الوزراء وبحدّة أن يُعقد المجلس الأعلى للحرب الذي أجل، وعلى الفور. لقد ضاع كثير من الوقت الثمين: «الحرب يجب أن تنتهي بأسرع وقت ممكن».
وافق سوزوكي، وقال لهيساتسون ساكوميزو، سكرتير رئيس الوزراء: «ليأخذ مجلس الوزراء مسؤولية قيادة البلد لإنهاء الحرب». في الظروف الطبيعية، وبعد الأخطاء المخزية لمحاولات حكومته في استخدام مساعي السوفيات الحميدة، كان المفروض أن يقدم استقالته هو وحكومته، لكن ظروف اليابان، وبأي شكل، كانت صبيحة ذاك الخميس أبعد من الطبيعي، وبدا سوزوكي مصرّا على تجنيب أكبر عدد من اليابانيين الموت.
بعد ذلك توجه توكو لرؤية وزير البحرية، الأدميرال يوناي، الذي وافق كما في السابق على أنْ ليس لليابان خيار غير استئناف محادثات السلام. وداخل الوزارة ظل توكو يتساءل عن موقف كابتن البحرية، الأمير تكاماتسو، الذي لم يكن ردّه مشجعًا، فقال وزير الخارجية إنه مقتنع بأن الوقت متأخر جدًا لمناقشة حقيقة أفضل مما طُرح في إعلان بوتسدام، وبينما هو يفعل كل ما باستطاعته شعر أن اليابان لا يمكنها الإصرار على شيء يصون الدولة الوطنية.
خلال ذلك، كان الإمبراطور، رمز الدولة، والرجل الذي أعطى لها الوجود والمعنى، قد تشاور مع اللورد كيوتو كاتم الأسرار، وطلب منه أن يحاول التأثير من جديد على رئيس الوزراء سوزوكي، مؤكدًا رغبة جلالته في التعجيل بإنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. كان سوزوكي قد دخل منذ حين للقصر، فوافق على استدعاء مجلس الحرب الأعلى ومجلس الوزراء لعقد اجتماع طارئ ومشترك، بحضور رئيس الوزراء السابق الذي يُدعى (جوشن) أي كبير رجال الدولة، حيث يُعتبر جزء من واجباته تقديمَ المشورة للعرش من وقت لآخر.
الساعة 11 من صباح اليوم نفسه، سقطت ثاني قنبلة ذرية في العالم فوق ناغازاكي، وهي إحدى مدن أقصى الشرق في اليابان وفوق جزيرة كيوشو، وقد حدث الانفجار قبل نصف ساعة فقط من دعوة المجلس الأعلى للحرب من جديد لمتابعة مناقشاته غير المتروية والبطيئة التي كانت تجري في القصر الإمبراطوري بطوكيو، وهو يبعد نحو 600 ميل عن المكان الذي تحلق فيه الطائرات.
افتتح رئيس الوزراء الاجتماع بالقول إنه على ضوء مستجدات هيروشيما، واحتلال الاتحاد السوفياتي لمنشوريا، يبدو واضحًا استحالة مواصلة اليابان للحرب. «إنني أعتقد...». قال سوزوكي: «ليس لدينا بديل سوى قبول إعلان بوتسدام، وأنا أحبّ الآن الاستماع إلى آرائكم».
مجلس الحرب الأعلى ظلّ صامتًا.
أخيرًا كسر الأدميرال ميتسوماسا يوناي السحر الذي كان مخيمًا على المجلس. كان يوناي رجلا هادئًا، دمثًا وله ابتسامة لطيفة، وقد كان رئيسًا للوزراء عام 1940 ثم أرغم على الاستقالة بسبب معارضته التحالف مع ألمانيا وإيطاليا. كان واعيًا مثل سوزوكي وتوكو للخطر الجسيم من وراء مقتل الضباط الشبان الذين تلتهمهم نيران الحرب.
«لن ننجز شيئا». قال يوناي: «ما لم نتحدث. هل نتقبل إنذار العدو غير المشروط؟ هل لدينا ما نطرحه من شروط؟ إذا كان كذلك، فمن الأفضل مناقشتها الآن».
بدأ الأعضاء الآخرون في المجلس بإيضاح مواقفهم، وقد ظهرت بسرعة موافقتهم الإجماعية على نقطة واحدة: «صيانة الكيان الإمبراطوري للبلد». بعد ذلك ظهر انقسام حاد، أصبح مألوفًا وأكثر حدّة بمرور الأيام.
سوزوكي، وتوكو، ويوناي فضلوا قبول إنذار الحلفاء مع شرط واحد يتعلق بالدولة الإمبراطورية، الثلاثة الآخرون - وزير الحرب أنامي واثنان من رؤساء الأجهزة، أوميزو للجيش، وتويودا للبحرية - أرادوا طرح شروط أخرى وهي: تقديم أقل عدد من القوات اليابانية التي تحتل بلدانا أخرى لمحاكمتهم بوصفهم مجرمي حرب من قبل اليابانيين أنفسهم وليس العدو، ويقوم بعض الضباط اليابانيين بتسريح عدد من الجنود. أنامي ورئيسا الأجهزة كانوا غير قادرين كما يبدو على قبول فكرة الهزيمة أو الاستسلام، لأنها ضد قناعتهم، لذلك انتهى هذا الطرح إلى رفض حقيقة الهزيمة والاستسلام.
ردّ توكو بقوة: إن موقف اليابان في غاية الخطر، وحتى لو حاولت اليابان طرح عدد من الشروط، فإن الحلفاء وفي كل الاحتمالات سيرفضون مناقشتها. فردّ الجنرال أوميزو رئيس جهاز القوات المسلحة هو الآخر بقوة قائلاً إن اليابان لم تفقد الحرب بعد، وإذا غزا العدو أرضنا فإن الجنود اليابانيين ما زالوا قادرين على منعه، وربما حتى إلحاق الخيبة به، والثمن في خسائر العدو سيكون هائلاً. عندها قال توكو، حتى إذا فشلت أول محاولة، فإن قوة اليابان في الدفاع عن نفسها ستكون أكثر ضعفًا، والهجوم الثاني للعدو بالتأكيد لن يفشل، ثم أضاف: «يجب أن يُقبل إعلان بوتسدام الآن، ومطالبنا لن تكون أكثر من صيانة البيت الإمبراطوري».
في الساعة الواحدة عقد المجلس الأعلى جلسة لمدة ساعتين، وكانت أخبار قصف ناغازاكي قد وصلت، ثم وصلت الحقيقة الأخرى عن سقوط منشوريا بأيدي السوفيات، بينما ظلّ المجلس غير قادر على الوصول إلى اتفاق. وضح الخط الفاصل بين الفريقين، إذ وقف كل ثلاثة في جانب، فعرض سوزوكي أن يُفضّ الاجتماع ليعاد عقده لاحقًا بعد انعقاد مجلس الوزراء بعد ظهر اليوم نفسه، وبذلك، وعلى هذه الصورة انتهت جلسات الخميس التي عقدها مجلس الستة الكبار لاتخاذ قرار بشأن الحرب.
في واشنطن تحدث الرئيس ترومان في الراديو معلنًا: «سوف نستمر باستخدامها حتى تدمير قوة اليابان نهائيًا وإنهاء قدرتها على الاستمرار في الحرب. ولن يوقفنا غير استسلام اليابان».
في الوقت الذي فضّ فيه الستة الكبار اجتماعهم، دُعي هيروشي شيموورا، مدير دائرة المعلومات، إلى مقابلة رسمية مع الإمبراطور. وكانت المقابلة بناءً على طلب قدمه سكرتير شيمومورا إلى وزارة شؤون القصر الإمبراطوري. استمرت المقابلة ساعتين كاملتين، مع أن العادة ألا تأخذ المقابلات مع الإمبراطور أكثر من 30 دقيقة فقط، وبانتهاء اللقاء قال شيمومورا لسكرتيره مع ابتسامة ارتياح: «كل شيء جرى على ما يرام. وافق الإمبراطور على إذاعة بيان يخبر فيه الأمّة فيما إذا كنا سنحارب أو نسالم».
إذا كان الإمبراطور سيذيع هذا البيان فعلاً، ستكون تلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها اليابانيون صوت الإمبراطور.
إذا عدنا إلى اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد بعد ظهر الخميس الساعة 2:30 في المقر الرسمي لرئيس الوزراء، فقد افتتحه وزير الخارجية توكو بتناول موضوع إعلان السوفيات الحرب على اليابان، متضمنًا محاولات الحكومة اليابانية لإقناع موسكو بالتوسط. بعد ذلك وصف توكو طبيعة الكارثة بأنها تجاوزت حدود هيروشيما وناغازاكي. أما وزير البحرية ووزير الحرب فحين سألهما رئيس الوزراء عن رأيهما كررا ما قالاه نفسه: «نحن ربما نكسب أول معركة لليابان...». قال الأدميرال يوناي: «إلا أننا لن نكسب الثانية. الحرب خُسرت بالنسبة لنا، لذلك يجب نسيان مسألة حفظ ماء الوجه، علينا أن نستسلم بأقصى سرعة ممكنة، ومنذ هذه اللحظة يجب التفكير بأهمية إنقاذ بلدنا».



فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

TT

فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)
فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

لا يتمنى الفلسطينيون في الضفة الغربية، ربما بخلافهم في قطاع غزة، حرباً مفتوحة بين إسرائيل و«حزب الله» اللبناني. فهم يدركون بخبرة العارفين بعقلية إسرائيل ومن باب التجربة السابقة في الحروب والانتفاضات، بما في ذلك الحرب الحالية على القطاع، أنهم سيدفعون ثمناً كبيراً، سياسياً واقتصادياً يمسّ حياتهم وحقوقهم واحتياجاتهم اليومية الرئيسية. وبعد أن يتحولوا معتقلين في سجن الضفة الكبير، لا شيء قد يثني إسرائيل عن قتلهم واعتقالهم وملاحقتهم.

في السيناريو الأبسط لحرب محتملة بين إسرائيل و«حزب الله»، ستنعزل إسرائيل وتغلق حدودها غير المعروفة، وستكون في حاجة إلى عزل الفلسطينيين في الضفة بشكل تام، انطلاقاً من حاجتها إلى كبح جماح جبهة ثالثة محتملة. هذا يعني بلا شك، تقييد الحركة ومنع السفر وتوقف تدفق البضائع إلى أسواق الضفة، وسيشمل ذلك وقف إسرائيل إمداد الفلسطينيين بالكهرباء والماء والوقود، انطلاقاً من أنها ستحتفظ لنفسها بأي مقدرات كهذه، بعد أن يقصف «حزب الله» شركات الكهرباء والمياه والمطارات، مرسلاً إسرائيل إلى أزمة غير مسبوقة، سيدفع الفلسطينيون أيضاً ثمنها بلا شك.

لكن إذا كانت إسرائيل دولة يمكن لها التعامل مع أزمات من هذا النوع، وهذا ما زال غير واضح إلى أي حد، فالسلطة الفلسطينية غير قادرة على ذلك وهي التي تعيش أزمات عميقة اليوم، مالية واقتصادية وأمنية، وفي حقيقة الأمر وجودية.

وليس سراً أنهم في إسرائيل يستعدون لسيناريوهات تتعامل مع شلل كامل، سيتضمن ظلاماً دامساً وطويلاً في مطار بن غوريون، وانهيار مبانٍ وجسور وإصابة طرق رئيسية، وانقطاعاً في الكهرباء والماء الوقود، ونقصاً في المواد الأساسية.

جثمان الطفل غسان غريب 13 عاماً محمولاً على الأكتاف وكان قتل برصاص إسرائيلي قرب رام الله في يوليو الحالي (أ.ف.ب)

وقف مقومات الحياة

ولم تكن تصريحات المدير العام لشركة إدارة الكهرباء الحكومية الإسرائيلية شاؤول غولدشتاين، الأخيرة حول إسقاط شبكة الكهرباء في إسرائيل في حالة حرب مع «حزب الله» مجرد جرس إنذار في إسرائيل، بل أيضاً في الضفة الغربية التي تشتري الكهرباء من إسرائيل.

وقال غولدشتاين: «نحن في وضع سيئ ولسنا مستعدين لحرب حقيقية (...) خلاصة القول هي أنه بعد 72 ساعة لن يمكنك العيش في إسرائيل. إسرائيل لن تكون قادرة على ضمان الكهرباء في حالة الحرب في الشمال بعد 72 ساعة»، مضيفاً: «لسنا مستعدين لحرب حقيقية».

وما ينسحب على الكهرباء ينسحب على المياه والوقود.

فحتى قبل حرب مفترضة مع بداية الصيف الحالي، بدأ الفلسطينيون يعانون العطش، بعدما أخذت شركة «ميكروت» الإسرائيلية قراراً بتقليص كمية المياه الواردة إلى مناطق الضفة، كنوع من عقاب تعوّد عليه الفلسطينيون.

مسنّ فلسطيني وأطفال يشربون من عبوات تبرعت بها جمعيات لبلدات في الضفة الغربية قطعت عنها إسرائيل مياه الشفة (غيتي)

وبحسب أرقام رسمية، فإن متوسط استهلاك الفرد اليومي من المياه في إسرائيل، بما في ذلك المستوطنات، يبلغ 247 لتراً، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف متوسط استهلاك الفرد الفلسطيني اليومي في الضفة الغربية، والذي يبلغ 82.4 لتر، وفي التجمعات الفلسطينية غير الموصولة بشبكة مياه، يصل إلى 26 لتراً، فقط.

تخزين طحين ودواء وسولار

لا يمكن تخيل وضع معظم الفلسطينيين في الضفة الذين يتلقون اليوم (أي قبل الحرب) مياهاً جارية أقل من 10 أيام في الشهر؛ لأن الحصة المتبقية من المياه ينعم بها الإسرائيليون.

وفي إحصائيات السنوات الماضية، وصل إجمالي استهلاك الإسرائيليين من المياه عشرة أضعاف إجماليّ ما استهلكه الفلسطينيون في الضفة الغربية، وهي أرقام ستتغير لصالح الإسرائيليين هذا العام.

ويفهم الفلسطينيون في الضفة أنهم لن يجدوا أي قطرة ماء مع اندلاع الحرب المفترضة، التي ستتركهم أيضاً بلا كهرباء ولا دواء ولا وقود، وهو ما يخلق قلقاً وإرباكاً الذي يتسلل إليهم اليوم، وحمل بعضهم على تخزين الكثير من الطحين والمعلبات والمياه المعدنية.

وقال سعيد أبو شرخ: «لم أود الانتظار أكثر. اشتريت بعض الطحين والمعلبات والمياه».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «بعد دقيقة واحدة من الحرب سيدبّ هلع كبير. ستصبح الأسعار جنونية، ثم سنفقد البضائع. وقد نعيش التجربة القاسية التي اختبرها الغزيون في القطاع».

وعانى قطاع غزة فقدان الكهرباء والمياه والدواء والمواد الأساسية، ووصل الأمر إلى حد مجاعة حقيقية أفقدت الناس حياتهم.

وبالنسبة إلى أبو شرخ، فإنه يفضّل أن يكون مستعداً، أسوة بالكثير من أصدقائه الذين لجأوا إلى شراء كميات أكبر من الطحين والمعلبات وصناديق المياه، وحتى كميات من البنزين أو السولار، كخطة احتياطية.

وفي اختبار قصير سابق، عندما انطلقت المسيّرات والصواريخ الإيرانية، تجاه إسرائيل، لم يكن ممكناً الوصول إلى البقالات بسهولة، وهرع الناس لشراء ما يجنبهم انقطاع الطعام الرئيسي، أما محطات الوقود ففقدت مخزونها لأيام عدة، في «بروفة» لما يمكن أن يحدث في حرب حقيقية.

ولا يريد عبد العظيم عواد، أن يضع نفسه في اختبار آخر.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لم أجد بعد ساعة واحدة من انطلاق المسيّرات الإيرانية الكثير من المواد الغذائية. لم أجد وقوداً لأيام عدة. وخفت أن تندلع الحرب فعلاً. لم يكن لدي أي استعدادات».

وعلى الرغم من ذلك، يُمنّي عواد النفس بألا يضطر إلى عيش التجربة مرة أخرى على نحو أصعب، ولا يريد أن يرى حرباً أخرى.

وأضاف: «تعبنا من الحرب. الوضع صعب. الأشغال تضررت، الاقتصاد منهار. لا توجد رواتب والعمال لا يذهبون إلى إسرائيل. والتجار يشكون. حرب أخرى طويلة مع لبنان ستعني دماراً حقيقياً هنا. أعتقد سيكون وضعاً كارثياً».

ضائقة اقتصادية غير مسبوقة

وعانت الضفة الغربية وضعاً اقتصادياً معقداً ستحتاج معه إلى فترة ليست قصيرة من أجل التعافي.

وقال وزير الاقتصاد الفلسطيني محمد العامور، إن الاقتصاد الفلسطيني يواجه صدمة اقتصادية «غير مسبوقة»، تصاعدت حدتها، بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

عمال مياومة فلسطينيون ينتظرون عند معبر إسرائيلي ليتم إدخالهم للعمل (غيتي)

وأكد العامور معقّباً على تقرير للبنك الدولي حذَّر فيه من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، وأن العدوان، والإبادة الجماعية والحصار المالي والاقتصادي والسياسة المتطرفة التي تنفّذها حكومة الاحتلال تتسبب في انكماش اقتصادي وتعطل الحركة التجارية.

وتوقع أن يصل الانكماش إلى 10 في المائة.

وبحسبه، فإن الاقتصاد يخسر يومياً نحو 20 مليون دولار في جزئية توقف الإنتاج بشكل كلي في قطاع غزة، وتعطله في الضفة الغربية، إلى جانب تعطل العمالة، والتراجع الحاد في النشاط الاقتصادي والقوة الشرائية.

وكان البنك الدولي، قد حذّر في تقرير الشهر الماضي، من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، مع «نضوب تدفقات الإيرادات» والانخفاض الكبير في النشاط على خلفية العدوان على قطاع غزة.

وأكد البنك الدولي أن «تدفقات الإيرادات نضبت إلى حد كبير؛ بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إسرائيل لإيرادات المُقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية، والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي».

وبحسب التقرير، فإن «الاقتصاد الفلسطيني فقد ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ 7 أكتوبر، يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية».

وأكد التقرير أيضاً ارتفاع معدل الفقر، موضحاً: «في الوقت الحاضر، يعيش جميع سكان غزة تقريباً في حالة فقر».

وبحسب تقارير دولية سابقة، فقد أدت الحرب في غزة إلى إغلاق الاقتصاد فعلياً هناك، بعدما تم تدمير الأساس الإنتاجي للاقتصاد في القطاع والذي انكمش بنسبة 81 في المائة في الربع الأخير من عام 2023.

وتضرر الاقتصاد أيضاً في الضفة الغربية وانكمش كذلك، بسبب الحصار السياسي والمالي للسلطة والفلسطينيين.

مأزق السلطة

تعاني السلطة في الضفة وضعاً مالياً حرجاً اضطرت معه منذ بدء الحرب إلى دفع نصف راتب فقط لموظفيها.

ومنذ عامين تدفع السلطة رواتب منقوصة للموظفين في القطاعين المدني والعسكري؛ بسبب اقتطاع إسرائيل نحو 50 مليون دولار من العوائد الضريبية، تساوي الأموال التي تدفعها السلطة لعوائل مقاتلين قضوا في مواجهات سابقة، وأسرى في السجون الإسرائيلية، إضافة إلى بدل أثمان كهرباء وخدمات طبية.

وعمّقت الحرب على غزة هذه الأزمة بعدما بدأت إسرائيل باقتطاع حصة غزة كذلك.

مظاهرات داعمة لغزة في رام الله نهاية مايو الماضي (غيتي)

وإضافة إلى موظفي السلطة، فقد أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني من الضفة مصدر دخلهم الوحيد منذ السابع من أكتوبر الماضي، بعدما جمّدت إسرائيل تصاريح دخولهم إلى أراضيها أسوة بنحو 20 ألف عامل من قطاع غزة أُلغيت تصاريحهم بالكامل.

وساعد منع العمال من دخول إسرائيل في تدهور أسرع في الاقتصاد في الضفة الغربية، مع الوضع في الحسبان أن أجورهم كانت تصل إلى نحو مليار شيقل شهرياً (الدولار 3.70) مقارنة بفاتورة رواتب موظفي السلطة الشهرية التي تبلغ نحو 560 مليون شيقل شهرياً.

وقال مروان العجوري، أحد العمال الذين فقدوا مصدر رزقهم الوحيد، لـ«الشرق الأوسط»: «منذ 9 أشهر لم يدخل لي شيقل واحد. لقد استنفدنا».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «ننتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب في غزة، هل تعرف ماذا يعني حرب جديدة مع «حزب الله»؟ يعني على الدنيا السلام. دمار دمار. ما ظل إلا الهجرة بعدها». وتابع: «لا إسرائيل بتتحمل ولا إحنا».

ويخشى الفلسطينيون فعلاً أن إسرائيل قد تستخدم أدوات ضغط كبيرة عليهم في الضفة الغربية من أجل حثّهم على الهجرة، مستغلة انشغال العالم في حرب كبيرة مع لبنان.

مصادرة أراضٍ ودفع للهجرة

وخلال الأشهر القليلة الماضية، فتكت إسرائيل بالضفة الغربية بكل الطرق، حصار مالي وقتل واعتقالات ودفعت خططاً لتغيير الوضع القائم باتجاه إحباط أي أمل لإقامة الدولة الفلسطينية.

وفي الرابع من الشهر الحالي صادقت إسرائيل على مصادرة 12.7 كيلومتر مربع من أراضي الضفة الغربية، في مصادرة وصفتها منظمة «السلام الآن» الإسرائيلية بأنها الأكبر منذ ثلاثة عقود وتمثل ضربة جديدة للسلام بين الجانبين.

وبحسب «السلام الآن»، فإن الأراضي التي حوّلتها إسرائيل «أراضي دولة» تقع في منطقة غور الأردن، وهي الأكبر منذ اتفاقيات أوسلو 1993.

وبهذه المصادرة، ترتفع مساحة الأراضي التي أعلنتها إسرائيل «أراضي دولة» منذ بداية العام إلى 23.7 كيلومتر مربع.

بعد ذلك بأيام عدة صادرت إسرائيل أراضي أخرى قرب مستوطنات في الضفة.

وتسيطر إسرائيل على الضفة الغربية منذ عام 1967، وأقامت الكثير من المستوطنات التي يعيش فيها من دون القدس الشرقية أكثر من 490 ألف إسرائيلي مقابل ثلاثة ملايين فلسطيني.

وهؤلاء المستوطنون بدأواً حرباً، خاصة في الضفة، مستغلين الحرب على قطاع، في محاولة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، فقتلوا فلسطينيين وهاجموا قرى وصادروا المزيد من الأراضي، تحت حماية الحكومة.

وقال مسؤول إسرائيلي كبير إن الحاكم الفعلي للضفة الغربية اليوم هم رؤساء المجالس المحلية للمستوطنات. متهماً رئيس المجالس الاستيطانية كافة، يوسي داغان، بقيادة الفوضى التي صاحبت حالة الحرب.

ولا ينحصر تأثير داعان في معرفته باعتداءات المستوطنين ودعمه توسعهم بكل الأشكال القانونية وغير القانونية، وإنما يمتد أيضاً إلى مجال إقناع السلطات الإسرائيلية والجيش برعاية هذه الاعتداءات أو غض النظر عنها.

وعملياً، ترعى الحكومة الإسرائيلية هؤلاء المستوطنين، ولا تخفي أنها في حرب على جبهة الضفة.

وقتلت إسرائيل نحو 600 فلسطيني منذ السابع من أكتوبر واعتقلت ما يقارب الـ10 آلاف ودمّرت بنى تحتية في طريقها لإضعاف السلطة الفلسطينية ومنعها من إقامة دولة.

واعترف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأنه لا يفعل أي شيء سري، وإنما يعمل بوضوح من أجل منع إقامة «دولة إرهاب فلسطيني» و«تعزيز وتطوير الأمن والاستيطان».

وجاء تصريح سموتريتش تعقيباً على ما أوردته صحيفة «نيويورك تايمز»، حول خطة حكومية رسمية سرية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية دون الحاجة إلى الإعلان رسمياً عن ضمها.

خطة لتغيير حكم الضفة

وكان تسجيل مسرّب لسموتريتش فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية، بحسب تقرير نُشر في صحيفة «نيويورك تايمز».

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

ونقل عن سموتريتش: «أنا أقول لكم، إنه أمر دراماتيكي ضخم. مثل هذه الأمور تغير الحمض النووي للنظام».

وتحكم السلطة الفلسطينية اليوم المنطقة «أ» في الضفة الغربية وتشارك الحكم في المنطقة «ب» مع إسرائيل في حين تسيطر إسرائيل على المنطقة «ج» التي تشكل ثلثي مساحة الضفة.

وكان يفترض أن يكون هذا الإجراء مؤقتاً عند توقيع اتفاق أوسلو بداية التسعينات، حتى إقامة الدولة الفلسطينية خلال 5 سنوات، لكن تحول الوضع إلى دائم، قبل أن تتخذ إسرائيل خطوات ممنهجة ضد السلطة أدت إلى إضعافها بشكل كبير.

وفي خطوة مهمة وحاسمة ضمن خطة سموتريتش، صادق جنرال عسكري كبير على تحويل مجموعة من الصلاحيات في الضفة الغربية إلى مدير مدني هو هيليل روط، في مؤشر على أن الحكومة الإسرائيلية زادت من سيطرتها المدنية على المنطقة في خطوة أخرى نحو الضم الفعلي.

ووصف الناشط المناهض للاستيطان يهودا شاؤول هذه الخطوة بأنها «ضم قانوني»، مضيفاً أن «الحكم المدني الإسرائيلي امتد إلى الضفة الغربية» تحت إشراف سموتريتش.

وتشمل الصلاحيات المفوضة لروط السلطة على معاملات العقارات، والممتلكات الحكومية، وترتيبات الأراضي والمياه، وحماية الأماكن المقدسة (باستثناء الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل وقبر صموئيل)، والقوانين المتعلقة بالغابات، والسياحة، والحمامات العامة، وتخطيط المدن والقرى والبناء، وبعض عمليات تسجيل الأراضي، وإدارة المجالس الإقليمية، وغير ذلك الكثير.

واليوم على الأقل لا يوجد داخل الحكومة الإسرائيلية، أي خلاف بشأن ضم المناطق «ج»، حتى أن مسؤولين يرون أنه واحدة من الحلول للضغط على «حماس» نفسها في غزة.

واقترح النائب ألموج كوهين من «عوتسماه يهوديت» الذي يتزعمه وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير خلال مقابلة مع «i24NEW» ضم المناطق حتى يعود المحتجزون في غزة. وأضاف: «الأراضي مقابل المختطفين، الأمر بسيط للغاية».

وقال الخبير في الشأن الإسرائيلي كريم عساكرة إن اندلاع حرب بين «حزب الله» وإسرائيل، سيجلب تداعيات خطيرة على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، لا سيما من الناحيتين الإنسانية والسياسية.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «سيفتكون بالضفة بلا شك. حيث يتوقع أن يستغل اليمين في الحكومة الإسرائيلية الحرب، وانشغال العالم بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لتنفيذ مخططات الضم والتهويد التي ستجعل من الضفة الغربية ملحقاً لإسرائيل لا يمكن أن يكون مكاناً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة».

وتابع: «التحريض الإسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة الغربية، ووجود دعم إيراني لتحريك العمل العسكري في الضفة، ربما أيضاً يكون ذريعة لعقاب جماعي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، فتزيد من القمع والحصار والتنكيل بهم لدرجة يصل فيها الفلسطينيون إلى مرحلة لا يستطيعون العيش في ظل تلك الظروف، التي تسعى إسرائيل إلى أن تنتهي بترحيل قسم من الفلسطينيين إلى خارج وطنهم.»

أما على الجانب الإنساني، فيرى عساكرة «أن ارتباط الفلسطينيين في الضفة بإسرائيل في نواحي الحياة كافة، سيؤدي إلى تأثرهم بشكل كبير، خاصة في مجال الطاقة والمياه، وفقدان الاستقرار الغذائي نتيجة لتضرر الموانئ الإسرائيلية، وربما سيكون وضع الفلسطينيين أكثر صعوبة من الإسرائيليين؛ لعدم وجود سلطة قادرة على تقديم أي مساعدة طارئة للمواطنين، على عكس إسرائيل التي تدرس كل جوانب التأثير الإنساني للحرب لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين».

وهذا الوضع لا تغفله السلطة الفلسطينية التي تدرك حجم الضرر المتوقع، وتبدو آخر كيان يريد لهذه الحرب أن تشتعل.

وقال مسؤول فلسطيني لـ«الشرق الأوسط»: «حتى قبل حرب محتملة مع لبنان. إنهم يسعون لتفكيك السلطة وانهيارها، ولديهم مخطط واضح لدفع الفلسطينيين على الهجرة. ليس فقط في قطاع غزة وإنما الضفة. هذا اليمين المجنون لن يفوّت حرباً كهذه قبل أن يحقق حلمه بالسيطرة والاستيطان والتخلص من الكينونة الفلسطينية».

ويعترف المسؤول بأنه ليس لدى السلطة القدرة على مواجهة تداعيات حرب كهذه، وهي تواجه قبل ذلك خطر الانهيار.

باختصار شديد، خلف «حزب الله»، توجد إيران وفصائل في العراق وسوريا واليمن، وفي النهاية الدولة اللبنانية التي خلفها توجد دول، وخلف إسرائيل توجد الولايات المتحدة ودول وقوى أخرى عظمى. اما الفلسطينيون في الضفة الغربية فخلفهم سلطة محاصرة وضعيفة لا حول لها ولا قوة، وتقريباً لا بواكي لهم أو لها.