48 ساعة لاستكشاف أسرار حدائق لندن

مائتا ساحة خضراء مسكونة بتاريخ عريق.. بعيدًا عن ضوضاء المدينة

(تصوير: جيمس حنا)
(تصوير: جيمس حنا)
TT

48 ساعة لاستكشاف أسرار حدائق لندن

(تصوير: جيمس حنا)
(تصوير: جيمس حنا)

بعيدا عن متنزهي هايد بارك وغرين بارك المعروفين لسكان وزوار عاصمة الضباب، فتحت مائتا حديقة ساحرة أبوابها لاستكشاف بقع خضراء مفعمة بالتاريخ والحكايات والأسرار وإشباع فضول عشاقها. فمن خلال مهرجان «الساحات والحدائق المفتوحة» الذي أقيم على مدار يومي السبت والأحد الماضيين، استطاع نحو 18 ألف شخص من عشاق الحدائق الهروب من زحمة الشوارع وضوضاء المدينة ليروا لندن بحلة جديدة، مخملية وملكية تارة، وشعبية تضج بالموسيقى والحياة تارة أخرى. وفي دورة المهرجان التاسعة عشرة، افتتحت ساحات الحدائق أبوابها أمام الزوار وسنحت لهم الفرصة لزيارة أكثر الساحات الفاتنة والحدائق والمساحات الخضراء خلال عطلة نهاية أسبوع واحدة. وتميز المهرجان بأن الحدائق التي تشارك في هذا الحدث تتراوح ما بين حدائق تاريخية وتقليدية وأخرى حديثة وتجريبية، متضمنة حدائق الأسطح والحدائق الخاصة وأحواض الزرع الموجودة على أرصفة السكك الحديدية والحدائق العائمة ومعظمها غير مفتوح للزوار في الأيام العادية. وصاحب المهرجان فعاليات تضمنت عروضا فنية وموسيقية ومسرحية.
والمثير للانتباه أن هذا الحدث يديره متطوعون بشكل شبه كامل. ومعظم من يشاركون في فتح حدائقهم يقومون بذلك تطوعًا. وفيما يلي أبرز الحدائق التي استكشفتها «الشرق الأوسط».
* مارلبورو هاوس
شيد السير كريستوفر رين «مارلبورو هاوس» عام 1711. ولهذا المبنى عراقة متأصلة بأمجاد الإمبراطورية البريطانية. ولذلك، أضحى اليوم المقر الرئيسي لرابطة الشعوب البريطانيّة المعروفة بـدول الكومنولث.
ويحيط بالمبنى العريق حديقة ضخمة بمساحات شاسعة من العشب الأخضر على مدى النظر. وتترفرف أعلام دول الرابطة الـ53 على مدار الحديقة الخاصة التي لا يستطيع عامة الشعب دخولها.
ويذكر أن الملكة ماري كانت آخر قاطن من العائلة المالكة لهذا المبنى الضخم، واختارت الملكة الراحلة آنذاك تشييد منزل للضيوف في الحديقة.
* سيفستاي لندن هولاند بارك
كان المنزل الهولندي الأصلي عبارة عن قصر من الطراز اليعقوبي، شُيد عام 1607 للسير والتر كوب، المستشار المالي للملك جيمس الأول. وفي أوائل القرن التاسع عشر، تحول هذا المبنى إلى «صالون» يرتاده المشاهير والمثقفون من أمثال الكاتب البريطاني الشهير تشارلز ديكينز .وخلال الحرب العالمية الثانية، تعرض القصر للقصف ودمرته النيران. وعقب انتهاء الحرب تم ترميم جناح واحد من القصر وشُيدت مبان جديدة من تصميم السير هيو كاسون ونفيل كوندور وهي ما أضحت حاليًا نزلا.
وتتميز حديقة هذا المبنى الذي يحمل تاريخا حافلا بمروجها الخضراء الكثيفة، وتحيط بها المزاهر التي تحتوي على الشجيرات والنباتات المعمرة مع بعض النباتات الحولية التي تضفي على المكان ألوانا خلابة. وثمة بركة كبيرة يطل عليها طيور من البط البري ودجاج الماء وطيور مالك الحزين والطاووس.
* حديقة سطح مبنى «بلو فين»
يتميز الطابق العاشر لمبنى «بلو فين» في جنوب شرقي العاصمة، بحديقة علوية تطل على معالم لندن ونهر «التيمز». ومن أبرز المعالم التي من الممكن رؤيتها كاتدرائية سانت بولز الشهيرة وناطحات السحاب المختلفة كالشارد والغيركن وغيرها. جرى تصميم الحديقة بطابع معاصر وحديث لتوفير متنفس لموظفي المبنى للاسترخاء وتناول طعام الغداء.
زرع الحديقة بسيط ولكنه لافت للنظر؛ إذ يشابه طابع الخطوط القوية للمبنى حيث يتماشى طابعه المعماري مع منحنيات أوراق الشجر والزهور. وزرعت بالحديقة مجموعة من الكروم العنبية في عام 2007. وتعتبر هذه الحديقة اليوم أصغر كرم عنب في بريطانيا، ومع أن هذا المبنى غير مفتوح للزوار، إلا أنه خلال شهور الصيف، من الممكن حجزه لإقامة حفلات الزفاف والتصوير والأفلام.
* إيتون سكوير
يُعتبر إيتون سكوير أكثر ميادين لندن أصالة؛ إذ جرى ترسيم مخططه عام 1826. وسُميت الساحة تيمنا بإيتون هول في منطقة تشيسشير، مسقط رأس مالك الأرض، دوق ويستمنستر. وتحيط الحدائق الشارع من كلا الجانبين فيما كان في السابق الطريق الرئيسي المؤدي لقصر باكنغهام.
واليوم، تبقى حديقة الميدان ملاذا هادئًا من المروج الخضراء ذات الطابع الرسمي والممرات الظليلة ومناطق الجلوس الهادئة لقاطني البيوت التي تحيطه. وسكنها على مر السنين نخبة المجتمع البريطاني منهم رئيس الوزراء البريطاني الراحل نيفيل تشامبرلين والممثلة البريطانية الراحلة فيفيان لي، بطلة فيلم «غون ويذ ذا ويند». وقد تلقت تلك الحدائق جائزة أفضل الحدائق الصغرى للعام 2015.
* حدائق كناري وارف
تعتبر منطقة كناري وارف أحد أشهر مناطق المال والأعمال في لندن؛ إذ تضم أبراجا وناطحات سحاب لمقرات شركات كثيرة تعمل معظمها في القطاع المالي والمصرفي. ووسط زحمة المباني، شيدت في مايو (أيار) 2015 حدائق على سطح مشروع قطار «كروس ريل» المقرر افتتاحها عام 2018 لتكسر حدة ناطحات السحاب.
وتتميز الحديقة بوقوعها على خط الطول (في منتصف الكرة الأرضية) ما أوحى إلى المصممين بتقسيم الحديقة إلى منطقتين جغرافيتين: فالجانب الشرقي حافل بشجيرات الخيزران والقيقب الياباني، أما على الجانب الغربي فيوجد الصمغ الحلو وأشجار السرخس النيوزيلندي.
* حدائق بيتش في مجمع باربيكان
تعتبر حدائق بيتش في مجمع باربيكان الضخم شرق لندن واحدة من أحدث الحدائق المستوحاة من فن تصميم البساتين المعاصر.
وتقع الحدائق العالية على منصة وسط بنايات مجمع باربيكان من تصميم نايجل داننت مصمم المتنزه الأولمبي الملكي في لندن الأولمبية للملكة إليزابيث.
وتتميز الحديقة بالتنوع في ورودها رغم صعوبات موقع الحديقة التي لا تصل إلى بعض بقعها أشعة شمس كافية.
ومع ذلك، تضم هذه الحدائق أكثر من 22 ألف نبتة ونوافير مياه.
 



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)