تتناول الحلقة الرابعة من سلسة تحقيقات «الشرق الأوسط» عن تطورات الأوضاع في العاصمة الليبية، تفاصيل قضيتين لافتتين جرت وقائعهما في الأيام التالية لانتصارات الجيش الليبي ضد المتطرفين في بنغازي أواخر الشهر الماضي. الأولى تخص وقائع كان من بين أطرافها رعاة إبل تسببوا في فضح عملية إسقاط شحنات أسلحة من طائرات مجهولة لصالح «داعش» في غرب البلاد، وفقا لمحاضر تحقيقات وشهود عيان بشأن القضية.
والثانية تتناول «مفاوضات المشتل» التي جرت في العاصمة الليبية. تقول المصادر إنها جرت بإشراف شخصية إقليمية من دولة متهمة بالتعامل مع الجماعات المتطرفة بالمنطقة، وذلك في محاولة للتوفيق بين إخوان ليبيا وزعيم «داعش» في طرابلس، واتضح من هذه المفاوضات وجود أزمة تمر بها جماعة إخوان ليبيا بسبب انسداد الأفق السياسي، وازدياد قوة «داعش» في طرابلس وما حولها.
يأتي هذا بينما تستمر تحركات مجموعات المقاتلين المدججين بالأسلحة والمنتمين إلى فصائل مختلفة في العاصمة.. تتفق كلها على محاربة الجيش الوطني، لكن يبدو أن بعضها أصبح يتربص ببعض، مع اتجاه المجتمع الدولي لحسم أمره حيال الوضع المعقد في الدولة الغنية بالنفط والفوضى.. فوضى تحولت إلى كابوس لدول الجوار الليبي ولأوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
ظهر في عدة اجتماعات عقدت في العاصمة أن كل قائد مجموعة مسلحة ينظر إلى الأمور من زاوية خاصة، بينما يقوم «داعش» بتعزيز إمكانياته بطريقة مريبة. ويقول قائد عسكري في جيش القبائل الذي يرابط قرب الزنتان جنوب غربي طرابلس ويتعاون مع الجيش الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر: «نحن هنا لا نتحدث عن أسلحة خفيفة لدى التنظيمات المتطرفة، سواء (داعش) أو غيرها من ميليشيات، ولكن نتحدث عن مدرعات ودبابات وصواريخ ومطارات يصلح بعضها للاستخدام العسكري، مثل مطاري مصراتة وامعيتيقة».
حين اختلطت الأحداث بتقدم الجيش الوطني ضد المسلحين في بنغازي، في النصف الثاني من الشهر الماضي، توجهت مجموعة من قادة طرابلس لعقد مزيد من الاجتماعات واللقاءات، بحثا عن رد مناسب، سواء ضد حفتر أو ضد جيش القبائل، لكن الوضع العام يقول إن المتشددين اختاروا المشي في نفس طريق التطرف، حتى لو أدى ذلك إلى انشقاقات داخل جماعة الإخوان، وداخل الجماعة الليبية المقاتلة، لصالح «داعش»، الذي أصبح منافسا قويا في العاصمة، كما يقول القائد العسكري في جيش القبائل.
بينما خلافات قادة الميليشيات كانت منصوبة في فنادق وسط العاصمة، كان رعاة إبل قد عثروا على شحنات أسلحة بعد أن أسقطتها طائرات على سبيل الخطأ في مناطق الرعي في غرب طرابلس. لم تتمكن «الشرق الأوسط» من الحصول على معلومات عن هوية هذه الطائرات، إلا أنه أمكن التعرف، من مصادر عسكرية ليبية، على عدد من أنواع الأسلحة، ومنها قذائف «آر بي جي»، وبنادق قنص، ومناظير للرؤية الليلية، وذخيرة من عيار 23 ملليمتر مخصصة للمدافع المضادة للطائرات المنخفضة.
الكشف عن واقعة إنزال طائرات لأسلحة لتنظيم داعش تعد من الحوادث المثيرة لعلامات الاستفهام في طرابلس. في اليوم التالي جاءت تفاصيل جديدة. تقول معلومات المحققين الأمنيين في العاصمة إن العملية جرت كالتالي.. في يوم الاثنين، الثاني والعشرين من فبراير (شباط) الماضي، أي بعد ثلاثة أيام من الغارة الأميركية على صبراتة، كان أنصار للشيخ رشيد، الذي يقود جماعة تسمى «جند الحق» لها علاقات جيدة مع «داعش»، قد تركوا المدينة وانتشروا في منطقة الحرشة التي تبعد عن غرب صبراتة بنحو 25 كيلومترا، أي في نطاق مدينة الزاوية.
يوجد في الجهة القبلية من منطقة الحرشة طريق مرصوف بالقار يؤدي إلى منطقة بئر الغنم. من هناك يمكن أن تدخل في دروب ترابية تفضي إلى وادي الحي، حيث تكثر الأعشاب البرية، والرعاة، خاصة في فصل الربيع.
هذا الوادي يمتد بعيدا عن التجمعات السكانية المبعثرة في الأرجاء، وينتهي عند حدود بلدة الرابطة.. أي على المشارف الغربية من بلدة غريان. مع الساعات الأولى من كل يوم ترى مجموعات من النوق وهي تتحرك في بطن الوادي، بحثا عن الكلأ. حين شهد رعاة الإبل صناديق الأسلحة - التي أفادت التحقيقات فيما بعد أنها هبطت في الليل من السماء - أبلغوا أقرب مجموعة موجودة، وكانت من عناصر «جند الحق».
يقول أحد رعاة الإبل ويدعى حسين، إنه سمع صوت طائرات تحوم في السماء، خلال الليل، وذلك بعد أن جمع إبله لينام بجوارها في وادي الحي. أضاف أن هذا أمر معتاد منذ شهور.. «حيث إننا نرى بين وقت وآخر مثل هذه الطائرات تحوم مرة في النهار ومرة في الليل». في الصباح عثر حسين وعدد آخر من أصحابه الرعاة على نحو ثلاثين صندوقا مبعثرة في المنطقة، وكل صندوق مربوط بحبال موصولة بمظلة ذات لون بني. سقطت معظم الشحنة في «حمادة وادي الحي» بالتحديد.
يعد الوادي وما حوله، من خطوط المواجهات العسكرية التي دارت فيها معارك كثيرة في العامين الماضيين، بين ميليشيات «فجر ليبيا»، والوحدات التابعة للجيش (الفرع المحسوب على الموالين للقذافي، ويعمل بدرجة تنسيق محدودة تحت قيادة حفتر). كانت تلك الحروب الصغيرة تجري من أجل فرض السيطرة على المساحات الممتدة من هنا حتى حدود تونس. لكن تآكل تحالف «فجر ليبيا»، بخروج كتائب تابعة لمدينة مصراتة من قواتها، إضافة إلى انشغال الجيش بالحرب ضد المتطرفين في الشرق، جعل جبهة وادي الحي، هادئة منذ شهور.
مرت ساعات النهار، وأخذ خبر العثور على الصناديق ينتشر بين باقي الرعاة. يقول حسين: «في الحقيقة أصابنا الخوف. في البداية لم نعرف ماذا نفعل». ووفقا لشهادات من عدد من الرعاة، فقد كانت عناصر من جماعة «جند الحق»، قد وجدت قرب «حمادة وادي الحي»، قبل الواقعة بعدة أيام. وعليه ظن الرعاة أن الجماعة ما جاءت إلى هذه المنطقة إلا من أجل استقبال شحنات الأسلحة. يقول حسين: «لهذا قمنا بإخطارهم بالموضوع، فجمعوا الصناديق في سياراتهم ومضوا».
علم زعيم «داعش» في طرابلس، المدهوني، بالمصير الذي آلت إليه شحنات الأسلحة. ووفقًا لاجتماع عقده قادة التنظيم لبحث الأمر، وجرى رصده من جانب محققين في العاصمة، اتضح أن «داعش» هو من كان ينتظر هبوط صناديق السلاح، وتبين أن الرجل المسؤول عن إعطاء الإحداثيات للطائرة لإسقاط الأسلحة، أعطاها إحداثيات خطأ.
رجل الإحداثيات هذا، والذي جرى تعنيفه في اجتماع الدواعش، يدعى «أبو المهاجر»، وفقا لمحضر تحقيق بشأن الواقعة اطلعت عليه «الشرق الأوسط». قال له زعيم التنظيم إن «الشحنة سقطت في منطقة ليس لنا فيها سيطرة، ولا نريد أن نصطدم مع جماعة جند الحق». وعليه بدأ التشاور مع قائد الجماعة الشيخ رشيد الذي وافق على إعادة الشحنة لأصحابها.
راعي الإبل المحظوظ في هذه العملية هو من أعطى معلومات لمندوب من «داعش»، عن الشحنة ومن حملها بعيدا عن الوادي. وطلبت مصادر التحقيق في طرابلس عدم الإشارة لاسمه في الموضوع «حتى لا يتعرض لأذى من التنظيم». لقد كان شاهدا على قيام جماعة الشيخ رشد بجلب سبع سيارات دفع رباعي ونقل الأسلحة إلى مقراتهم في منطقة الحرشة، شمالا، أي قرب البحر.
تنظيم داعش من جانبه، أمر بمنح مكافأة قدرها خمسة آلاف دولار، للراعي الذي كشف عن مصير الصناديق. كما قرر إرسال شاحنة محملة بالطعام والعصائر والمياه، إلى جميع رعاة الإبل في الوادي.. «حتى يكونوا عيونا لنا، بحيث يمر عليهم أحد رجالنا كل يوم أو يومين، وهم يبلغونه عن كل المستجدات التي تحدث في المنطقة»، وفقا للتحقيق، الذي أشار أيضا إلى ابتعاد كثير من الرعاة عن الوادي بإبلهم، والبحث عن العشب في مواقع أخرى، تجنبا للدخول في مشكلات مع تنظيم داعش مستقبلا.
التنظيم لم يتوقف عند هذا الإجراء، ولكنه قرر أيضًا شراء خمسين ناقة واستئجار رعاة لها من الجنسيات الموريتانية «لأنهم يتحملون قسوة الصحراء»، لكي يقيموا في «حمادة وادي الحي»، مع باقي رعاة الإبل.. «على أن يتولى الراعي الرئيسي الذي تم تعيينه لهذا الموقع، وهو من داعش، مسؤولية غرفة المعلومات في المكان». وبلغت التكلفة المبدئية لتأسيس الغرفة بالرعاة والإبل نحو 700 ألف دولار، ويقول التحقيق إن المشرف على العملية تسلم، حتى أيام قليلة مضت، نحو مليون دولار لهذا الغرض.
ويقول ضابط مخابرات في طرابلس لـ«الشرق الأوسط» إن قصة إسقاط الأسلحة لـ«داعش» وصلت إلى مسؤولين في رئاسة أركان الجيش في العاصمة، لكن «لم نر تحركا يذكر لمنع تكرار مثل هذه الوقائع التي تؤدي إلى تقوية تنظيم داعش وتهدد الليبيين في نهاية الأمر».
تتبع رئاسة أركان الجيش التي ما زالت تعمل في طرابلس، ما يسمى بـ«حكومة الإنقاذ» غبر المعترف بها دوليا. وهي حكومة منبثقة عن المؤتمر الوطني المنتهية ولايته (البرلمان السابق). ويصر المؤتمر على الاستمرار في عقد جلساته في العاصمة ويرفض الاعتراف بشرعية البرلمان الآخر الذي يضطر منذ انتخابه في 2014 لعقد جلساته في طبرق. ويعتقد ضابط المخابرات المشار إليه أن قيادات طرابلس «التي تعاني من الارتباك في الظروف الراهنة»، تتحاشى الصدام مع زعيم داعش ليبيا.
أما القضية الثانية التي تتناول ما يطلق عليه بعض المحققين في العاصمة الليبية «مفاوضات المشتل»، بين الإخوان وتنظيم داعش، فبدأت وقائعها مساء يوم القصف الأميركي على صبراتة، وهي ما زالت مستمرة حتى الآن، رغم الخلافات التي وقعت بين اثنين من قيادات الجماعتين في الأيام الأخيرة من الشهر الماضي.
قبل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع، يتطلب الأمر الإشارة إلى ما كشفت عنه «الشرق الأوسط» في سلسلة تحقيقات «يوميات الفوضى في ليبيا» منذ نحو شهرين، عن حقيقة الدور الذي يقوم به الرجل الملقب بـ«المدهوني» كزعيم فعلي لـ«داعش» في ليبيا. في ذلك الوقت كانت هناك مشاورات بين زعيم في جماعة إخوان ليبيا، وآخرين في الجماعة الليبية المقاتلة (تابعة لتنظيم القاعدة) للاستفادة من قوة «داعش» والاندماج مع التنظيم في «مجلس شورى موحد» وفي هيكل تنسيقي واحد.
لكن آخر التطورات المتعلقة بهذا الشأن تقول إن زعيم «داعش»، وبعد أن تمكن من جمع عشرات القيادات العربية والأجنبية للعمل تحت إشرافه انطلاقا من طرابلس، يبدو أكثر قوة من السابق، حيث أبدى تحفظا على دمج الإخوان ضمن التنظيم، رغم تدخل أحد المنسقين الإقليميين لـ«الجماعات المتطرفة» بالمنطقة. وفي المقابل تلاحظ وجود رضوخ، من جانب قادة في الجماعة المقاتلة وفي مجالس عسكرية بالعاصمة، لتوجهات زعيم داعش.
وفي اليومين الماضيين حصلت «الشرق الأوسط» على تفاصيل «مفاوضات المشتل»، من مصادر أمنية تعمل في طرابلس. إجمالا يبدو أن تنظيم داعش ليبيا لديه شكوك تجاه قادة الإخوان في ليبيا لأن «ولاءهم للمرشد، بينما نحن ولاؤنا للخليفة أبو بكر البغدادي (في العراق)». واتخذت المفاوضات اسمها من المقر الذي جرت فيه، وهو «المشتل» الواقع في ضاحية عين زارة، في وسط العاصمة.
تبين من المصادر التي تمكنت «الشرق الأوسط» من التواصل معها في مقر «المشتل» أن الدولة المشار إليها - والتي ينتمي إليها الوسيط - أسست مركزا في عاصمتها خلال الفترة الأخيرة، من أجل «تقريب وجهات النظر بين تنظيم داعش وتنظيم الإخوان». وسبق «مفاوضات المشتل» عملية «جس نبض» من جانب الوسيط مع قائد من إخوان ليبيا موجود في طرابلس، ويتحرك ويتواصل تحت مسمى «سياسي حزبي»، ويطلق عليه أتباعه لقب «الحاج محمد».
بحسب ما دار بين «الحاج محمد»، والوسيط، يبدو أن جماعة الإخوان هي التي تريد من داعش الموافقة على العمل معها، خاصة وأن أحد كبار زعماء الإخوان الليبيين، والذي يشغل عضوية الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يقيم بشكل شبه دائم في نفس الدولة التي ينتمي إليها الوسيط، المشار إليه.
ووفقًا للمصادر، ومن بينها محاضر تحقيقات ليبية وأخرى غربية، فقد حصل الوسيط على ترحيب «الحاج محمد» وسعادته بـ«خلق تعاون وتواصل» مع زعيم «داعش» في طرابلس، وأن القيادي الإخواني على استعداد لمد يده للمدهوني لكي يتصافحا ولكي يتحدا. وحين بدأ الوسيط في فتح الموضوع مع زعيم «داعش» في «المشتل» استعرض كل هذا الترحيب الذي حصل عليه من الإخوان، وقال الوسيط للمدهوني، وفقًا للتحقيقات التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط»: «هذا التعاون المقترح بينكما، بإذن الله، ليس من أجل تنظيم دولة الخلافة، أو تنظيم الإخوان المسلمين، ولكن من أجل مواجهة حفتر ومواجهة القبائل الموالية للقذافي».
وفي معرض حديثه مع زعيم «داعش» ليبيا، تعهد الوسيط بإحالة «الاختناقات الآيديولوجية» بين «الفكر الإخواني» و«فكر تنظيم داعش»، للجنة يبدو أنه جرى تشكيلها في بلاده، من أجل الحصول على «وسطية الفكر». لكن الغريب أن رد المدهوني على هذا العرض، جاء بالرفض من جانبه، وطلب العودة بهذا المقترح إلى مكتب الخليفة المزعوم في العراق، البغدادي.
ويقول ضابط في جهاز المخابرات في طرابلس إن رفض زعيم «داعش» لمقترحات الوسيط، تعكس تنامي قوة التنظيم على الأرض الليبية، مقارنة بالميليشيات الإخوانية وغير الإخوانية التي كانت تهيمن على العاصمة وعلى عدة مدن أخرى، حتى منتصف العام الماضي، مشيرًا إلى أنه، مع ذلك، ما زالت مفاوضات «المشتل» مستمرة، على أمل إيجاد صيغة للتعاون تحول دون وقوع اشتباكات واقتتال بين الجماعات التي تهيمن على طرابلس.
ويضيف أنه، منذ الإطاحة بالقذافي، كان السند الرئيسي للإخوان في ليبيا، هو الجماعة الليبية المقاتلة، لكن «المقاتلة» أصبحت هي الأخرى تعاني من مشكلات داخلية، وبعض قادتها منقسمون في الوقت الحالي، بين موالاة «داعش» أو الاستمرار في التحالف مع الإخوان، أو الانخراط في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة.
طرابلس.. مدينة السلاح والميليشيات (4 من 7): رعاة إبل يفضحون عملية إسقاط شحنة أسلحة مجهولة لصالح «داعش»
تفاصيل مفاوضات «المشتل» بين الإخوان والتنظيم المتطرف في طرابلس
طرابلس.. مدينة السلاح والميليشيات (4 من 7): رعاة إبل يفضحون عملية إسقاط شحنة أسلحة مجهولة لصالح «داعش»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة