«مهرجان أبوظبي» يخرج من الإمارات ليدعم الفن في الخارج

حفلاته تقام في عدد من المدن حول العالم

الملحن وعازف العود الإماراتي فيصل الساري وفرقة الملحنة
الملحن وعازف العود الإماراتي فيصل الساري وفرقة الملحنة
TT

«مهرجان أبوظبي» يخرج من الإمارات ليدعم الفن في الخارج

الملحن وعازف العود الإماراتي فيصل الساري وفرقة الملحنة
الملحن وعازف العود الإماراتي فيصل الساري وفرقة الملحنة

تعتزم «مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون» المشاركة في كثير من الفعاليات الموسيقية والثقافية حول العالم عبر سلسة من أعمال التكليف الحصرية بهدف تسليط الضوء على الدور المحوري الذي تلعبه دولة الإمارات في دعم الفنون والأعمال الفنية بالمشاركة مع مؤسسات عالمية، إذ سيتم عرض هذه الأعمال في كثير من المناسبات والفعاليات الكبرى عبر العالم في كل من دبي، لوس أنجليس، وباريس، وبيروت، ولندن، والدار البيضاء، وغيرها.
وفي هذا السياق، قدم مهرجان أبوظبي يوم السبت 6 فبراير (شباط) 2016 أول عرض عالمي تعاوني بين الملحن وعازف العود الإماراتي فيصل الساري وفرقة الملحنة وعازفة البيانو السويسرية لوزيا فون فيل، وذلك في مسرح مدينة جميرا في دبي، كما سيتم تقديم هذا العرض في حفل يقام في سويسرا في وقت لاحق من هذا العام بدعم من مهرجان أبوظبي.
ومن الإمارات إلى الولايات المتحدة، حيث سيقدم مهرجان أبوظبي أولى ثمار تعاونه مع الولايات المتحدة عبر عرض «الأم الأوزة» من أعمال موريس رافيل والذي سيقدم في قاعة والت ديزني بمدينة لوس أنجليس بتكليف من أوركسترا لوس أنجليس الفلهارمونية يومي 12 و14 الحالي، ويتضمن العرض خبرات تفاعلية من خلال الفيديو ورسومات الأبعاد الثلاثة ترافقها عروض الضوء والظلال التي تصنع صورًا تجريدية ولوحات متناغمة، ويجسد هذا العرض أول تعاون عربي من نوعه مع فرقة لوس أنجليس الفلهارمونية، وأول أعمال التكليف الحصري لمهرجان أبوظبي التي تعرض في الولايات المتحدة.
وإلى باريس، حيث يحيي أستاذ العود الشهير نصير شمة وفرقة الموسيقى العالمية عرض «القارات» على مسرح أوليمبيا في العاصمة باريس يوم 19 فبراير الحالي، حيث ينضم لنصير شمة نخبة من العازفين المشهورين من فرنسا والولايات المتحدة والبرازيل وتونس وتركيا والبارغواي ليقدموا معًا عرضًا يثبت قدرة الموسيقى على توحيد الشعوب، وبراعة الفنانين في تقديم عروض تخاطب جمهور العالم، حيث يدمج العرض بين موسيقى الجاز، والفيوجن والألحان العربية.
وخلال عام 2016 أيضًا، سيقدم مهرجان أبوظبي دعمه للجولة العالمية التي تقوم بها فرقة «مسرح بابل» التي تقدم مسرحية «حمام بغدادي» من تأليف وإخراج جواد الأسدي الحائز على عدة جوائز، وبطولة حيدر أبو حيدر، وعبود الحركاني، وهو العرض الذي سيزور بيروت، ولندن، ومراكش، وبروكسل، وتسرد الرواية قصة شقيقين يواجهان حقائق مرة عن نفسيهما وعن ماضيهما.
وفي مارس (آذار) 2016، ينضم مهرجان أبوظبي إلى «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» AMAR في تعاونهما الثالث لإطلاق أسطوانة موسيقية على مستوى العالم احتفاءً بالذكرى الخمسين للموسيقي والملحن المصري محمد القصبجي (1892 - 1966). كما يشهد مهرجان أبوظبي 2016 إطلاق «أرشيف الفن الإماراتي» بالتعاون بين «مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون» و«جمعية الإمارات للفنون»، ليكون مرجعية شاملة ومصدرًا تأريخيًا رسميًا لساحة الفنون التشكيلية الإماراتية، بما يقدمه من توثيق لأكثر من 10 آلاف عمل فني إماراتي.
ويتطلع مهرجان أبوظبي إلى عام 2017 عبر عمل تكليف لفرقة أفرو - طرب لعازف الجاز والملحن طارق يماني، وذلك لتنفيذ مشروع بحثي بعنوان «لوحات من الإيقاعات الخليجية والجاز»، ويعد طارق يماني الأميركي اللبناني الأصل أحد أشهر عازفي البيانو والجاز على مستوى العالم، وقد اشتهر عبر أعماله التي تستكشف العلاقة بين موسيقى الجاز الأميركية الأفريقية والموسيقى العربية الكلاسيكية.
وقد كلف مهرجان أبوظبي المؤلف الموسيقي الإماراتي - الأميركي محمد فيروز لتأليف سيمفونيته الخامسة، التي تستكشف قصة دولة الإمارات وعالمية قيمها، والذي سيقدم عرضه العالمي الأول في مهرجان أبوظبي 2020.
جدير بالذكر أن مهرجان أبوظبي 2016 في نسخته الثالثة عشرة سيستقبل أسماء عالمية لامعة، من بينهم السوبرانو العالمية «نتالي ديساي» والباريتون الشهير «لوران ناعوري» يوم 10 أبريل (نيسان)، وكذلك عازف البيانو الصيني العالمي لانغ لانغ يوم 14 أبريل، و«أوركسترا باريس» يومي 15 و17 أبريل، وعرض «الأمير الصغير» يومي 21 و22 أبريل وراقص الباليه العالمي الذي سيقدم عرض «كارلوس أكوستا والأصدقاء» يومي 25 و26 أبريل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)