عازف البوق إبراهيم معلوف يؤدي التحية لأم كلثوم في باريس

قدم 3 حفلات وسط تغطية إعلامية واسعة بعدما أوقفه الأمن لملامحه «الشرق أوسطية»

عازف البوق اللبناني إبراهيم معلوف
عازف البوق اللبناني إبراهيم معلوف
TT

عازف البوق إبراهيم معلوف يؤدي التحية لأم كلثوم في باريس

عازف البوق اللبناني إبراهيم معلوف
عازف البوق اللبناني إبراهيم معلوف

بينما كان الموسيقي اللبناني الشاب إبراهيم معلوف يتأهب لركوب قطار «اليوروستار» من باريس في طريقه لإحياء حفلات في لندن، أوقفته الشرطة من غير سبب معروف ليفوته القطار قبل أن يطلق سراحه. واضطر لركوب قطار لاحق في المساء. وكان ذلك بعد الهجمات الدامية في العاصمة الفرنسية وفي إطار حالة الطوارئ السارية في البلد. وقد أثار الخبر الذي نشرته الصحف وتناقلته مواقع التواصل الاجتماعي دهشة الكثيرين من محبي عازف البوق «الساكسفون» الموهوب الذي يتقدم بخطوات واثقة من نجاح لآخر. وهناك من سخر من العقلية المحدودة لبعض المكلفين بالأمن لأن إبراهيم ينتمي إلى عائلة مسيحية معروفة وهو ابن أخ الكاتب اللبناني أمين معلوف، عضو الأكاديمية الفرنسية. لكن يبدو أن الملامح «الشرق أوسطية» للفنان ولحيته النابتة أوقعته في دائرة الشكوك.
وبمناسبة صدور أسطوانة جديدة له، وحفلاته الثلاث في صالة «فيلهارموني»، التي انتهت أمس، حل الفنان ضيفًا على برنامج «شاي أو قهوة» الشهير الذي تعرضه القناة الرسمية صباح الأحد. وعندما سألته مقدمة البرنامج عن حادثة توقيفه، رفض الإسهاب في الموضوع لكنه انتهز الفرصة لينتقد استهداف أي شخص لمجرد أنه ينتمي إلى فئة محددة. وبعد ذلك مضى إبراهيم معلوف يتحدث عن سبب اختياره تقديم حفلات لتكريم ذكرى كوكب الشرق، المطربة التي قال: إن صوتها كان أول صوت ينطبع في سمعه وهو طفل بحيث حفظ كلمات أغنياتها على ظهر قلب. وقد وجد نفسه يحلم، منذ كان في السابعة عشرة، بتقديم عمل يكرم به، بطريقته الخاصة، المغنية الكبيرة التي يسميها «فنانة الشعب» ويصفها بأنها «قمة إيفرست الموسيقى العربية». لكنه انتظر مرحلة النضوج قبل أن يستلهم موسيقاها، وبالذات أغنية ألف ليلة وليلة، في أسطوانته الجديدة المهداة لذكراها.
لماذا أم كلثوم بالذات، وليس فيروز مثلاً؟ إنه يرى أنها قدمت خدمة لقضية المرأة. فقد ولدت أم كلثوم لأسرة فقيرة في قرية من قرى دلتا النيل وصارت أشهر امرأة في بلدها وعنوانًا للحب وللأحلام وللحرية وللإنجاز. وفرضت نفسها واحترامها لدى كل العرب بفضل موهبتها. ولأجيال من الفرنسيين لا تعرف كوكب الشرق ولا موسيقاها، يروي معلوف حكاية تنقلها مع والدها بين القرى وتنكرها في زي رجال فلاحي لكي تقف أمام الرجال وتغني فتسحر بصوتها وتذيع شهرتها وتصبح، فيما بعد، مالكة لزمام حياتها. وهي لدى العرب بمقام «ماريا كالاس» لليونانيين أو «إديت بياف» للفرنسيين، وقد وقفت مع شعبها وأمتها وفي سبيل وجه حديث لمصر.
وفي البرنامج الذي يستضيف مشاهير الفنانين في فرنسا والعالم، قال معلوف: «أن تكون عربيًا، مهما كان مُعتقدك، فإن اسم أُم كلثوم لا بد أن يستوقفك بشكل من الأشكال». وردًا على سؤال حول كيفية تمكنها من بلوغ أعلى مراتب النجاح، وهي امرأة تعيش في مجتمع شرقي محافظ، أجاب معلوف بـ«أنها كانت قوية الشخصية وذات سطوة على جمهورها بحيث إن الرئيس عبد الناصر تقرب إليها لكي يستفيد من شعبيتها الساحقة».
يذكر أن معلوف نشأ في بيت مسكون بالموسيقى. ووالده عازف ومعلم نجح في تحوير آلة الساكسفون بحيث يمكن أن تؤدي ما يُسمى بـ«الربع تون» الموجود في الألحان الشرقية. أما والدته فهي عازفة بيانو، وقد وافقت على الظهور لبضع دقائق في البرنامج وعزفت مقطعًا قصيرًا كان كافيًا لتأكيد براعتها. وقد رأت أن ابنها بدأ العزف وهو طفل صغير، وكان يعزف بوجه جامد ومن دون انفعالات بحيث إن السامعين كانوا يتلفتون بحثًا عن آلة التسجيل في الغرفة غير مصدقين أن الصوت يصدر عنه، بل يظنون أنه يحرك يديه على الآلة بشكل تمثيلي. وفيما بعد، حين استقرت الأسرة في باريس وصار الولد الموهوب معلمًا للموسيقى في الكونسرفتوار، فإن الذين كانوا يصادفونه هناك يتصورونه طالبًا، لصغر سنه، وليس أُستاذًا.
وخصصت صحيفة «لومانيتيه» الفرنسية صفحة كاملة للفنان اللبناني الذي بات يشكل، مع زميله الموسيقي المصري الأصل ماتيو شديد، ثنائيًا جميلاً يعكس رحابة الفن حين يفسح المجال للمواهب مهما كان مصدرها. وكتبت الصحيفة أن إبراهيم معلوف يشهد بقوة على كونية الثقافة العربية التي يساء فهمها، أحيانًا، في الغرب. فمع صعود التطرف، بات من الملاحظ وجود خلط يتسبب في إطلاق أحكام غير منصفة. كما نقل المقال عنه قوله: «لست مسلمًا لكنني أعرف أنه لا علاقة للإرهاب بالإسلام ولا مع الثقافة العربية. فلا دين للإرهابيين ولا ثقافة ولا وطن لهم وهم يحمّلون الشعوب والأبرياء تبعات ثقيلة. ففي الحرب، يعرف المقاتل من هو خصمه. أما المتطرف فإنه يهاجم الجميع. وهو لا يخوض حربًا ولا يمارس فعل مقاومة بل يرتكب جرائم ضد الإنسانية. ومع هذا لا بد من التفكير في الملابسات التي تدفع هؤلاء الأفراد إلى هذه النظرة التدميرية للعالم، والحذر من الوقوع في فخ التفسيرات المبسطة».
يستشهد إبراهيم بمقطع من كتاب أمين معلوف «الهويات القاتلة» ويتمنى لو جرى تدريسه للتلاميذ في المدارس، ويضيف أنه نشأ على قراءة كتب هذا العم الذي يعتبره مرجعًا له في كثير من القضايا ويشاركه وجهات نظره.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)