موقف الفقهاء من العلم والعلماء

مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي  بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
TT

موقف الفقهاء من العلم والعلماء

مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي  بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)

أشعر بشيء من غيظ مبرر ممن يكتب ليقرر أن موقف الفقهاء من العلم كان جيداً، لأن الأماني لا تفيد شيئاً أمام الحقائق، وهذه الحقائق ليست شيئاً سننبش عنه في بطون الكتب، بل هو موقف حي ظاهر يتجلى في الموقف من دوران الأرض حول الشمس، ورفض الحساب الفلكي لحساب دخول الشهور، وغيرها من القضايا التي نعيشها وتبرز على السطح في مواسمها.
هذا الموقف العدائي من العلم قديم، وللبرهنة على ذلك، سوف نستعرض هنا موقفين لاسمين من أكبر الأسماء في سماء الفقه الإسلامي: الغزالي، وابن تيمية. اسمان يكادان يكونان أكبر المؤثرين في عالمنا. أما الغزالي فينفي مبدأ السببية، ويعتقد أن كل حجر كسر زجاجاً فإنما كسره بإرادة حادثة لله، شيء جديد يخلقه الله في تلك اللحظة، وفي كل مكان وزمان، وهو لا يتوقف عن التدخل في كل لحظة لإحداث هذا الأثر. إنه يرفض قوانين الطبيعة كلها، ولا يصطف مع الذين يؤمنون بقوانين الطبيعة ويردونها إلى الله. لا يوجد قانون طبيعي، من وجهة نظره.
يعتقد عموم الناس اليوم أن قانون السببية صحيح، لكنهم لا يعرفون على وجه التحديد أهمية هذا القانون. والصحيح الذي لا شك فيه، أن العلم الطبيعي الحديث يعترف بكل أريحية أنه بكُلّه وكلكله، بقَضه وقضيضه، يقوم على مبدأ السببية، وحتى في تلك اللحظات التي ندرس فيها قوانين أخرى، كقوانين السرعة الثلاثة لنيوتن، أو قانون السقوط الحر عند غاليلي فمن تبعه، قانون السببية موجود ومستبطن ويعمل، إنه يدخل في كل شيء.
رفضُ الغزالي، وهو الإمام المجدد في القرن الخامس، لمبدأ السببية ومتابعة المسلمين له، هو سبب الخيبة الكبيرة التي عاش فيها المسلمون خلال قرونهم المتأخرة، حيث غاب العلم وساد التخلف والجهل. لقد أخذ الآخرون بأسباب العلم وصنعوا ثورتهم العلمية، التي صنعت علماً جديداً على أنقاض العلم الحديث، ثم أنتجوا التكنولوجيا التي جعلتهم يتحكمون بالعالم، ونحن من ضمنياته، وهكذا تأخرنا وصرنا من دول العالم الثالث، في قصة تعرفونها ولا حاجة لتكرارها.
أما ابن تيمية، فقد حيكت الأكاذيب الكثيرة حوله حتى كاد محبوه يجعلونه سابقاً لجون لوك مؤسس التجريبية، لمجرد أنه انتقد المنطق الأرسطي. إنه يؤمن حقاً بمبدأ السببية، لكن السببية التي تحدث عنها ليست سببية العلم وقوانين الطبيعة، وإنما هي سببية تُعلل أفعال الله وأفعال الإنسان، ولا تتجاوزهما. سببيته لا تدعم العلم التجريبي المادي الحديث بأي شيء، والواقع أنه يرفض طريقة العلم الحديث رفضاً قاطعاً. نرى هذا جلياً في نقده للمعارف الصاعدة، فالعلم نازل لا صاعد، حسب رأيه، أي ينزل من السماء عن طريق الوحي، ولا يصعد من الأرض إلى السماء على طريق دراسة الطبيعة. لا ضرر في التذكير هنا بأن العلم التجريبي كله قائم على دراسة الطبيعة عن طريق التجربة التي تعتمد على الحواس والعقل في دراسة الظواهر، وأنه كله صاعد، يبدأ من الطبيعة ويصعد إلى الأفلاك. هذا النوع من المعرفة القائم على الحواس والعقل هو بالنسبة لابن تيمية يدخل في وضع العقل فوق منزلة النص الديني.
لم يكن ابن تيمية قط تجريبياً وإنما كان يملك نزعة مادية حسيّة لا تجريبية، ومن علامات كونه فيلسوفاً حسياً أنه يفضل علم الطبيعة على علم الرياضيات الذي وصفه بأنه «مجرد تصور مقادير مجردة أو أعداد مجردة». وفي مكان آخر يصفه بأنه كثير التعب قليل الفائدة. وفي موضع ثالث يتكرر في علم الرياضيات ما سبق وقاله في علم المنطق «لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل»، أي أن الرياضيات تحتاج إلى دليل من القرآن والسنة، فإن لم تجد ولن تجد، فهي ظنون وأباطيل.
هل كان ابن تيمية عالِم رياضيات حتى يحق له أن يصفها بهذا الوصف المجحف؟ الجواب: هو لا، فهو لم يصنف في الرياضيات، بل لم يدرُسها، إنما هي تعليقات وانطباعات، ورجل الدين عندما يتكلم عن انطباعاته حول العلوم الدنيوية يكون في كلامه شطط كبير.
ولا تصمد دعوى من ينسبون ابن تيمية إلى نصرة العلم الحديث بمجرد نقده للمنطق القديم، فقد وجدناه يرفض علم الفلك، ويقرر أنه كثير التعب قليل الفائدة، ووجدناه يرفض معرفة دخول الشهر بواسطته لأننا أمة أمية، حسب رأيه. وفي موضع آخر، يحبذ للمسلم ألا يتعلم الكتابة والحساب إن أمكن تعلم القرآن والعلوم الدينية بدونهما ليكون حاله كحال النبي الأميّ، حسب تعبيره. هذا معناه أنه داعية للأميّة، وأنه لا يعترف إلا بتعلم العلوم الدينية فقط. ولو أنه كان حيّاً اليوم لكان ممن يشترطون الرؤية لدخول شهر رمضان والعيدين بحيث تصوم كل دولة عربية أو إسلامية حسب الرؤية الخاصة بها، رغم أنها فضيحة تتكرر في كل عام ثلاث مرات، تصوم دولة وتفطر دولة مجاورة. مع أنه لا توجد مسافة بينهما تسمح باختلاف دخول الشهر، مع سهولة الرجوع إلى الحساب الفلكي القطعي الذي يعتمد على العلم الحديث وحسابات الفيزياء الفلكية، ويستطيع تحديد بداية الشهور ونهايتها ومواعيد مواليد الأهلة لعشرات السنوات المقبلة بنسبة خطأ قدرها المختصون بواحد في مائة ألف.
أما علمه بالطب فحدث ولا حرج، فقد وجدته يقول في محاولة لتبرير مذهبه في أن لحم الإبل ينقض الوضوء، بأن الإبل فيها «قوة شيطانية»، وأن هذه القوة قد أضرّت من أدمنوا أكلها من الأعراب بحيث امتلأت قلوبهم بالحقد، ولم يُبرر كيف أن الصحابة وهم من ضمن من يأكلون لحمها لم يسرِ فيهم الحقد. وبقي هو وتلميذه ابن القيم دعاة لما أسموه خطأ بالطب النبوي، حتى جاء فقهاء أكثر وعياً، كالطاهر بن عاشور، فقرروا أنه لا يوجد طب نبوي، وأن ما ورد فيه من أحاديث لا ينطلق من كونه وحياً، بل هو من تجارب النبي الشخصية وحركة الطب في زمنه.
أما الكيمياء فقد أفتى ابن تيمية بأن تعاطيها وتعلمها حرام لأنها غش ومضاهاة لخلق الله. وقد حاول بعضهم أن ينفي هذا عنه فقال إنه يقصد «الخيمياء» لا «الكيمياء» ومن يُحول المعدن الرخيص إلى نفيس، وهذا الدفاع كله لا معنى له، فالكيمياء الحديثة المتفق على عظمتها وفائدتها الكبيرة للإنسانية هي علم التبديل والاستحالة، ويدخل في عملها تحويل المعادن من رخيص إلى نفيس. ولا يزال العلماء يهتمون بهذا الحقل المعرفي، وقد كانت لإسحاق نيوتن بحوثه الخاصة في هذا المضمار، وإلى يومنا هذا هو علم قائم يتطور. وتبدو هذه الفتوى الشاذة نتيجة لفكرة خاطئة لم يختبرها، فترسخت عنده بأن لا أحد على الحقيقة يستطيع أن يغيّر عنصراً ما فيحوله إلى عنصر آخر إلا الله. وهكذا تلج الكيمياء في مضاهاة قدرة الله على الخلق، أو هي من أعمال السحرة. ولذلك، وجدناه يشن هجوماً منكراً على عالم كبير ومفخرة لكل تاريخ الأمة العربية الإسلامية، ألا وهو جابر بن حيّان، أحد أكبر رواد علم الكيمياء على مستوى العالم، ويصفه بأنه رجل مجهول لم يُعرف بدين. هذا المجهول هو أبو موسى جابر بن حيان الذي ترجم آر. راسل عدداً من كتبه إلى الإنجليزية، ووصفه بأن أشهر علماء العرب وفلاسفتهم، وعد له زكي نجيب محمود 52 كتاباً في العلوم الطبيعية.
وقد أظهر ابن تيمية موقفه الحقيقي من العلماء والفلاسفة والأطباء والمهندسين والفلكيين في رسالة غاضبة يخاطب بها رجلاً مات قبله بقرون يقال له ابن سينا، قائلاً: «وكون الواحد منكم حاذقاً في طب، أو نجوم، أو غرس، أو بناء، هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته، وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب، الذي هو أجلّ المطالب، وأرفع المواهب، فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى، إما جهلاً أو تفريطاً». لقد أعدت قراءة هذا النص مرات عدة تعجباً، لأنه أحال الحذق في الطب والإبداع في العلوم إلى الجهل بالله، وكأن الحذق في الطب ومعرفة الله لا يجتمعان.
وبعد هذه، وجدته يكرّ على متخصص في علم الفلك والرياضيات والفلسفة هو نصير الدين الطوسي الذي كان الداعية لإنشاء مرصد مراغة في بلاد فارس، فيقول فيه: «وهل كان الطوسي وأمثاله يَنفُقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين، ومكايد المحتالين، المنافية للعقل والدين؟!». هذا السجع، وهذا الحسد لكل من نال حظوة عند الملوك لن يُنسينا أن الطوسي - بغض النظر عن مواقفه السياسية - هو واحد من أكبر علماء الفلك والرياضيات في زمانه على مستوى العالم، شاء من شاء وأبى من أبى. ترجمت كتبه إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوربية، وخلاصة القول فيه أنه كان من أعظم علماء الحضارة العربية، ومن أكبر الرياضيين، وقد أسهم بشكل كبير في تطوير العلوم، لا سيما الفلك والرياضيات، وبقيَت مؤلفاته مراجع عالمية لقرون عدة، ونالت شهرة كبيرة بفضل ما قدم مؤلفها من إسهامات غنية.
هذا هو موقف ابن تيمية من العلم التجريبي الحديث. وهو كما ترى موقف سلبي للغاية ولا يقارن بموقف من يكثر من النقل عنهم كالفارابي وابن سينا وابن رشد، فهؤلاء كانوا علماء على الحقيقة، وقد بقيت الجامعات الأوروبية تُدرس كتاب «القانون في الطب» لمدة ستة قرون، وبقي هو الكتاب الأساس الذي يقوم عليه علم الطب إلى زمن ليس بالبعيد، وتمت ترجمته لمعظم لغات العالم، وفي عام 1476 طُبع الكتاب في روما باللغة العربيّة ضمن أربع مُجلدات، وقد تقدّم ابن سينا فيه بالعديد من الابتكارات المُذهلة للبشرية، وكان رائداً في علم دراسة الطفيليات، وإليه يرجع الفضل في اكتشاف أمراض عديدة لا تزال منتشرة إلى الزمن الحالي.
هذا هو موقف الفقهاء المشاهير من العلم والعلماء، ولا يمكن لمن يحترم عقولنا أن يلوي أعناق الحقائق، بغير دليل.
* باحث سعودي



هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
TT

هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)

انطلق العام الدراسي الحالي في جامعة نورثويسترن، حيث كنت أدرّس حتى السنة الماضية، بإعلانات من قبل الإدارة عن قوانين وقواعد جامعية جديدة تم وضعها خلال عطلة الصيف، وتهدف إلى منع تكرار الاحتجاجات الطلابية التي حصلت في الربيع الماضي رفضاً للحرب الإسرائيلية على غزة. وجامعة نورثويسترن جامعة خاصة تقع في ولاية إلينوي وهي من الجامعات الأميركية العريقة. وقد افتتح رئيس الجامعة مايكل تشيل العام الدراسي برسالة إلكترونية إلى أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب كتب فيها أن حرية التعبير في الجامعات على أهميّتها «لا يمكن استخدامها حجة لتصرّفات تهدّد جوهر مهمة الجامعة وهو التنوير والمعرفة».

وأعلن الرئيس في رسالته عن تدريبات إلزامية لكل الطلاب، وكذلك الأساتذة والإداريين، حول موضوع «معاداة السامية وأشكال أخرى من الكراهية». ثم أرسلت عميدة الجامعة بدورها رسالة تفصّل فيها القواعد الجديدة، ومنها منع المظاهرات في أوقات انعقاد الصفوف والحلقات الدراسية الليلية، ومنع استعمال مكبّرات الصوت قبل الساعة الخامسة مساء، ومنع الخيم وحصر الملصقات بأماكن معيّنة من حرم الجامعة. وتم توسيع القوانين المتعلّقة بالملكية لتشمل أي مس بأملاك الجامعة. كذلك أدخلت الإدارة تعديلات على ما يعدُّ «تخويفاً أو ترهيباً» ليشمل أي تصرّفات «تؤثر بصورة كبيرة على قدرة أشخاص أو مجموعات على التعلّم، والعمل، أو العيش في بيئة الجامعة».

«كيف نحمي الطلاب من التشدّد في القوانين الجديدة التي تبنّتها جامعات أميركية مختلفة» كان موضع نقاش بين الأساتذة خلال المؤتمر السنوي للجمعية الأميركية للعلوم السياسية في سبتمبر (أيلول) الماضي في فيلادلفيا. واقترح زملاء في جامعة بارنارد في نيويورك مقاطعة تصحيح الامتحانات كنوع من المعارضة ضد التضييق على حرية الطلاب في التعبير.

ضباط شرطة نيويورك عند الأسوار خارج جامعة كولومبيا، السبت 27 أبريل 2024، في نيويورك. بينما يستمر الطلاب المحتجون على الحرب بين إسرائيل وحماس في مواصلة مظاهراتهم في حرم الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة ( ا.ب)

استجواب في الكونغرس

رئيس جامعة نورثويسترن هو واحد من ثلاثة رؤساء جامعات مثلوا في جلسة للكونغرس الأميركي دعتهم إليها لجنة التربية والقوى العاملة برئاسة فيرجينيا فوكس من الحزب الجمهوري عن ولاية كارولاينا الشمالية أواخر شهر مايو (أيار) الماضي. وتلك هي الجلسة الثالثة التي تعقدها اللجنة لاستجواب رؤساء جامعات أميركية حول ما عدته ارتفاعاً في موجة معاداة السامية في حرم الجامعات الأميركية وسوء تعامل هؤلاء الرؤساء معها.

«حصلتِ على علامة F» (أي راسب)، قالت عضوة الكونغرس الجمهورية إليز ستيفانيك التي تمثل ولاية نيويورك، لرئيس جامعة نورثويسترن وقتها. وسبق لرابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League)، وهي منظمة غير حكومية، مركزها نيويورك، تعنى بمحاربة المعاداة للسامية وتدعم إسرائيل أن منح علامة الرسوب لجامعة نورثويسترن في أبريل (نيسان) الماضي بسبب الاحتجاجات التي شهدتها الجامعة ضد الحرب على غزة، والتي عدتها المنظمة معادية للسامية لما فيها من شعارات تدعم الانتفاضة وتنتقد الصهيونية، وانتهت باتفاق بين إدارة الجامعة والطلاب، وهو ما عدته الرابطة بمثابة «مكافأة» للمحتجين.

ودعت اللجنة كذلك إلى إزالة الرئيس من منصبه. وقالت فوكس في جلسة الاستماع: «وردتنا تقارير عن أعمال عنف مروعة ومضايقات للطلاب اليهود في حرم جامعتكم». وكانت اللجنة بعثت برسالة إلى رئيس الجامعة ورئيس مجلس أمنائها تفصّل فيها الأحداث التي دفعتها إلى إرسال الدعوة للمثول أمامها، وعلى رأسها قبول إدارة الجامعة بتنازلات لإنهاء الاحتجاج بدلاً من استخدام القوة لنزع الخيم التي نصبها الطّلاب المعارضون. وحسب الاتهامات كان موقع الخيم، المعروف بـ«المنطقة المحرّرة»، مسرحاً لجرائم وأحداث معادية للسامية. وارتكزت الأدلّة في الرسالة على تقارير طلاب يهود أفراد عن مواقف عدوها معادية لهم كيهود. فضمن اللائحة مثلاً أن طالباً يهودياً تعرّض لمضايقات عند وقوفه أمام الخيم شارحاً لعميد الطلاب مخاوفه من الاحتجاج. فوقف طالب كان جالساً إلى جانبه وصار يقول له، حسب الرسالة نفسها: «أنت تقرفني. هل تظن أن انزعاجك الصغير من المظاهرة يهمّني؟ هذا هو هدف الاحتجاج، الهدف هو أن تنزعج قليلاً. ثمة آلاف من الناس يموتون في غزة وكل ما يهمك هو بعض من الأبواق في الصباح؟».

الرئيس السابق دونالد ترمب يتحدث عن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قبيل دخوله إلى قاعة محكمة مانهاتن الاثنين (رويترز)

وتتضمّن لائحة هذه الجرائم التي أوردتها الرسالة الرسمية أن امرأةً ذات شعر أبيض غير تابعة للجامعة حملت يافطة كتب عليها «المقاومة مسموحة حيث يكون احتلال»، مع هاشتاغ «فيضان الأقصى»، وأن أحد المتظاهرين سرق علماً إسرائيلياً وعلماً أميركياً، وأن رئيس الشرطة التابعة للجامعة رفض الدخول إلى الخيم لاستردادهما، إضافة إلى أن تعليمات أرسلت لمهندسي الجامعة بإطفاء نظام الري الآلي للمساحة الخضراء حيث نصبت الخيم، «في ما يبدو أنه حرص على عدم إزعاج المحتجين».

خيمة رمزية... ومساءلة للاستثمارات

وفي 19 أبريل (نيسان)، وبعد 5 أيام من الاحتجاج، أُبرم اتفاق بين الطلاب والإدارة في نورثويسترن ينص على أن الجامعة ستسمح بالاحتجاجات السلمية شرط أن تبقى خيمة واحدة لا غير. وينص الاتفاق أيضاً على إعادة تشكيل اللجنة الاستشارية حول المسؤولية في الاستثمارات لتجيب عن أسئلة حول استثماراتها الحالية، وعلى استضافة أستاذين فلسطينيين لمدّة سنتين من خلال برنامج استضافة أكاديميين من بلدان النزاع استضاف أساتذة من أوكرانيا في السنتين الماضيتين. وأخيراً ينص الاتفاق على تأسيس بيت للطلاب المسلمين والشرق أوسطيين على غرار البيوت المخصصة لليهود والكاثوليك وغيرهم من الطلاب يستخدمونها في الصلاة ولمناسبات ثقافية واجتماعية.

نشطاء وطلاب يحتجون بالقرب من معسكر في ساحة الجامعة بجامعة جورج واشنطن، حيث انضم الناشطون الطلابيون إلى الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة التي بدأت معسكرات لدعوة جامعاتهم إلى سحب العلاقات المالية من إسرائيل( رويترز)

واتّهم الجمهوريون من أعضاء لجنة الكونغرس، رئيس جامعة نورثويسترن، بأنه استسلم للمتظاهرين وكافأهم بدعوته أساتذة فلسطينيين، وسألته ستيفانيك: «ماذا عن الأساتذة الإسرائيليين، هل ستدعوهم أيضاً؟». ووصفت رئيسة اللجنة فيرجينيا فوكس الاتفاق بـ«الجبان» لأنه رضخ لمطالب المحتجين، وطلبت من رئيس الجامعة التعهد بألا تقاطع الجامعة، إسرائيل، ولا تسحب استثماراتها منها، لأن هذا يعدُّ تسييساً لمسائل ماليّة وتقويضاً لسلطة إدارة الجامعة.

الأساتذة «الليبراليون» متهمون من الطرفين!

من جهة أخرى، رفض عدد من الطلّاب المتظاهرين بدورهم الاتفاق معتبرين أن الإدارة لم تتنازل قط فيما يخص الأمور الأساسية، أي المقاطعة وسحب الاستثمارات. فهي قبلت فقط أن تنشر معلومات حول استثماراتها، وبأن تكون أكثر شفافيةً ولكنها لم تتعهد بسحب أي استثمارات محددة. ورأوا في تأسيس بيت للمسلمين جائزة ترضية لا تستجيب للمطالب السياسية للاحتجاجات. ووصفت إحدى طالباتي، وهي من الهند، وكانت تقود الاحتجاجات، الانقسام بين طلاب حول هذه المسائل، وشرحت أن من صوّتوا لقبول الاتفاق، اعتبروا أنه يجنبهم تدخل قوى الأمن والملاحقة القانونية، كما حصل في جامعات أخرى، ومن رفضوه لم يكونوا من الطلاب الفلسطينيين أو العرب بل من الطلاب الأميركيين.

علم فلسطيني معلق على خيمة في مخيم الاحتجاج في جامعة تافتس بميدفورد بولاية ماساتشوستس... وتعد المظاهرات هي الأكثر شمولاً والأطول أمداً التي تهز حرم الجامعات الأميركية منذ احتجاجات حرب فيتنام في الستينات من القرن الماضي (أ.ف.ب)

ووصف هؤلاء الطلاب الأساتذة المكلّفين التواصل بينهم وبين الإدارة بـ«الليبراليين»، وهي كلمة أصبحت ذات دلالة سلبية لدى «الجيل z»، وعدّوهم «عملاء لإدارة الجامعة». وللعلم، فقد أمضى هؤلاء الأساتذة المدافعون عن حق الطلاب في التظاهر، ليلة طويلة في 19 أبريل الماضي محاولين إقناع طلابهم بقبول الاتفاق تجنباً لاستخدام القوة والعنف ضدهم ولإزالة الخيم في اليوم التالي، كما هددت إدارة الجامعة. وتقول أستاذة زميلة: «اعتبرنا الاتفاق أرضية للانطلاق منها وليس سقفاً نهائياً لعملنا».

والسؤال الأكثر تردداً خلال جلسة الاستماع في الكونغرس هو لماذا لم تطرد الجامعات الثلاث طلاباً أكثر وأساتذة أكثر. وكان هو السؤال الذي افتتحت به فوكس الجلسة. وأكّد الرؤساء أنّ عدداً من الطلّاب هم قيد التحقيق، وأنّ أشكال العقاب متنوّعة.

ووصف نائب جمهوري، أحد الأساتذة المدافعين عن المنطقة المحررة في جامعة نورثويسترن، دالاً عليه في صورة للمشهد عرضت خلال الجلسة، بأنّه «بلطجي». والأستاذ، هو ستيفن ثراشر، أستاذ الإعلام، ولم يعد إلى التعليم هذا الفصل، لأن الجامعة علّقت عمله إلى أن ينتهي التحقيق معه. وفي مقابلة له الشهر الماضي مع برنامج «Demcoracy Now» اليساري، قال ثراشر إنّ مبادئ العدالة الاجتماعية نفسها التي كان يطبّقها في ما يتعلّق بقضايا كالعنصرية والكوفيد والمثليين والإيدز، وكانت مصدر إشادة له، ممنوع عليه تطبيقها في ما يتعلّق بفلسطين.

وكذلك افتتحت جامعة كورنيل في نيويورك العام الدراسي بتعليق طالب دكتوراه من بريطانيا، وهو مسلم وأصله من غامبيا. أما جامعة موهلنبرغ في بنسلفانيا فأقالت أستاذة أنثروبولوجيا في شهر مايو (أيار) في أول إقالة لأستاذ من ملاك التعليم الجامعي بسبب دعم فلسطين.

مقاربة مارتن لوثر

في وقت اختتمت فوكس جلسة الكونغرس قائلة لرؤساء الجامعات إنها «متفاجئة بدرجة الازدراء التي عبّرتم عنها حيال اللجنة والطلاب اليهود»، ذكّر النائب الديمقراطي عن ولاية فرجينيا بوبي سكوت بمقاربة مارتن لوثر كينغ للنشاط السياسي، وهي مقاربة استوحاها كينغ من المهاتما غاندي وتقوم على ارتكاب مخالفات للقانون، ومن ثمّ القبول بعواقب ذلك، وهي بذلك تعدُّ مقاربة سلميّة. وأوضح سكوت أنها المقاربة نفسها التي تبنّاها الطلّاب في الجامعات. وقد وصفت طالبتي كيف أن المحتجين في نورثويسترن وزّعوا أنفسهم طوعاً إلى مجموعات مستعدة للتعرض للاعتقال ومجموعات أخرى من طلاب لا يسعون للمواجهة، واتفقوا على لون يرمز لكل مجموعة، وعلى لقب لكم منهم. وكانوا قد استوحوا هذا النوع من التنظيم من الطلاب في جامعة كولومبيا الذين شاركوا زملاءهم في كافة الجامعات الأميركية ملفات تفسّر طرق العمل التنظيمي.

جانب من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية (أ.ب)

وكان ترمب وصف حملة شرطة نيويورك على طلاب جامعة كولومبيا بأنّها «مشهد جميل»، وتعهّد بترحيل الطلاب الأجانب عند انتخابه. أمّا جيه دي فانس، الذي اختاره ترمب نائباً له في حملة ترشيحه للرئاسة، فكان قال خلال خطابه أمام مؤتمر الجمهوريين في يوليو (تمّوز) الماضي، «أنّ الأساتذة هم العدو»، وذلك نقلاً عن الرئيس الجمهوري الأسبق ريشارد نيكسون.

وكانت مجموعات طلّابيّة ومتموّلون ومراكز دراسات ومثقفون محافظون بدأوا بالتحرك رداً على تناقص قوّتهم بعد الحركات الاحتجاجية اليسارية المدافعة عن حقوق السود أواخر الستّينات. وتعاظم شأن هذا التيار مع وصول ترمب للسلطة رداً أيضاً على حركة «حياة السود مهمة» التي بدأت سنة 2020. وهذه المجموعات تتهم الجامعات، هي أيضاً، بـ«الليبرالية» وتعدُّ أنها تفتقر إلى تمثيل كافٍ من الأساتذة اليمينيين وأصحاب الأفكار المحافظة. وبدأت بالفعل بتمويل كليات مهنية كالطب والحقوق وإدارة الأعمال وأصبحت ترسخ نفوذها في الجامعات.

استثمارات الجامعات تصب في الأسلحة

أما استثمارات الجامعات فهي تصب، كاستثمارات منظمات عديدة أخرى في الولايات المتحدة، في شركات كـ«بوينغ» و«بلاكستون» و«جينيرال ديناميكس»، وهي شركات تمد إسرائيل بالأسلحة وبأشكال أخرى من الدعم. وتدار هذه الاستثمارات من خلال مكتب مخصص لها ومن خلال مجلس الأمناء ومجلس الأمناء هو الذي يعيّن رئيس الجامعة. فيصير رئيس الجامعة بذلك محكوماً باعتبارات مالية فيما هو أيضاً يدير الأهداف التعليمية للجامعة.

وقالت النائبة الديمقراطية عن ولاية ميشيغان، هايلي ستيفنز، خلال مداخلتها في جلسة الكونغرس: «إننا نعرف تكلفة الدخول إلى جامعاتكم، هي تكلفة لا تصدق. هذا ما علينا التركيز عليه، وليس هذا الجدل المصطنع عن العدالة بينما أنتم فعلياً تدّعونها فقط»، مشيرةً إلى موقف الجمهوريين في لجنة التربية العام الماضي حيال الموارد المخصصة لقضايا الصحة النفسية، وكيف صّوتوا جميعهم على حرمان الطلاب المثليين منها.

وفيما تستفيد الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة من التمويل من الحكومة الفيدرالية، ومن الولاية نفسها، تستفيد الجامعات الخاصة كنورثويسترن، مثلها مثل الجامعات الحكومية، من تمويل تحت برنامج «Title VI»، وهو برنامج نشأ كجزء من قانون الحقوق المدنية سنة 1964، ويمنع التمييز في التعليم ويمنح دعماً لبرامج دراسة اللغات ولأقسام في علوم الإنسانيات تعنى بدراسة المناطق والثقافات حول العالم. وهذا البرنامج هو ما ذكره أعضاء الكونغرس كأساس لمحاسبتهم رؤساء الجامعات حول استخدامهم الأموال المحصلة من الضرائب التي يدفعها المواطنون الأميركيون وحول امتثالهم لقوانين منع التمييز على أساس الديانة.

الأساتذة يرفضون قمع الحريات

وجه فرع نورثويسترن للجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين رسالة للإدارة رفضاً للتغيير الذي أدخله رئيسها على قواعد سلوك الطلاب عقب بدء الحركة الاحتجاجية، عاداً في ذلك «تصعيداً دراماتيكياً في قمع حرية التعبير والبيئة الأكاديمية»، فيما دافع رئيس الجامعة تشيل عن سياسته ووصفها بـ«الحيادية». وحسب الأساتذة الموقعين على الرسالة لم يستشر الرئيس ممثلي الأساتذة واللجنة الاستشارية حول حرية التعبير والخطاب المؤسسي، والذي كان الرئيس نفسه شكّلها في شهر فبراير (شباط). وأتى تشكيل هذه اللجنة على أثر بدء تحقيق لجنة الكونغرس الأميركي في أحداث معاداة السامية. واعترض حوالي مائتي أستاذ على تركيزه على معاداة السامية دون ذكر ما يتعرض له الطلاب المسلمون والفلسطينيون والعرب من تنكيل أو ذكر العنف التي ترتكبه إسرائيل في غزة، وكانوا قد وجهوا رسالة إليه بهذا الصدد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.

وإثر دعوة رابطة مكافحة التشهير إلى إزاحة رئيس الجامعة من منصبه، وقّع الأساتذة في أوّل شهر مايو (أيار) رسالة أخرى رفعوها إلى أمناء الجامعة يعبرون فيها عن رفضهم تعيين رئيس جديد قد يتعامل مع الطلاب بعنف أكبر. وعدّت الجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين أنه يجب عدم إقالة أي رئيس جامعة من دون تصويت ممثلي الأساتذة.

وأصدر رئيس الجمعية بياناً في شهر أغسطس (آب) أدان فيه مشروع ترمب وفانس الذي يقضي بالتضييق على حرية التعبير في الجامعات وتقويض استقلاليتها، عاداً أنّ اللحظة الحالية حاسمة في ما يتعلّق بمستقبل التعليم العالي الذي يشكل أساس الديمقراطية الأميركية. الجامعات ليست العدو، العدو هم الفاشيون، يقول البيان ويضيف، حان وقت النضال.