موقف الفقهاء من العلم والعلماء

مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي  بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
TT

موقف الفقهاء من العلم والعلماء

مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي  بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)

أشعر بشيء من غيظ مبرر ممن يكتب ليقرر أن موقف الفقهاء من العلم كان جيداً، لأن الأماني لا تفيد شيئاً أمام الحقائق، وهذه الحقائق ليست شيئاً سننبش عنه في بطون الكتب، بل هو موقف حي ظاهر يتجلى في الموقف من دوران الأرض حول الشمس، ورفض الحساب الفلكي لحساب دخول الشهور، وغيرها من القضايا التي نعيشها وتبرز على السطح في مواسمها.
هذا الموقف العدائي من العلم قديم، وللبرهنة على ذلك، سوف نستعرض هنا موقفين لاسمين من أكبر الأسماء في سماء الفقه الإسلامي: الغزالي، وابن تيمية. اسمان يكادان يكونان أكبر المؤثرين في عالمنا. أما الغزالي فينفي مبدأ السببية، ويعتقد أن كل حجر كسر زجاجاً فإنما كسره بإرادة حادثة لله، شيء جديد يخلقه الله في تلك اللحظة، وفي كل مكان وزمان، وهو لا يتوقف عن التدخل في كل لحظة لإحداث هذا الأثر. إنه يرفض قوانين الطبيعة كلها، ولا يصطف مع الذين يؤمنون بقوانين الطبيعة ويردونها إلى الله. لا يوجد قانون طبيعي، من وجهة نظره.
يعتقد عموم الناس اليوم أن قانون السببية صحيح، لكنهم لا يعرفون على وجه التحديد أهمية هذا القانون. والصحيح الذي لا شك فيه، أن العلم الطبيعي الحديث يعترف بكل أريحية أنه بكُلّه وكلكله، بقَضه وقضيضه، يقوم على مبدأ السببية، وحتى في تلك اللحظات التي ندرس فيها قوانين أخرى، كقوانين السرعة الثلاثة لنيوتن، أو قانون السقوط الحر عند غاليلي فمن تبعه، قانون السببية موجود ومستبطن ويعمل، إنه يدخل في كل شيء.
رفضُ الغزالي، وهو الإمام المجدد في القرن الخامس، لمبدأ السببية ومتابعة المسلمين له، هو سبب الخيبة الكبيرة التي عاش فيها المسلمون خلال قرونهم المتأخرة، حيث غاب العلم وساد التخلف والجهل. لقد أخذ الآخرون بأسباب العلم وصنعوا ثورتهم العلمية، التي صنعت علماً جديداً على أنقاض العلم الحديث، ثم أنتجوا التكنولوجيا التي جعلتهم يتحكمون بالعالم، ونحن من ضمنياته، وهكذا تأخرنا وصرنا من دول العالم الثالث، في قصة تعرفونها ولا حاجة لتكرارها.
أما ابن تيمية، فقد حيكت الأكاذيب الكثيرة حوله حتى كاد محبوه يجعلونه سابقاً لجون لوك مؤسس التجريبية، لمجرد أنه انتقد المنطق الأرسطي. إنه يؤمن حقاً بمبدأ السببية، لكن السببية التي تحدث عنها ليست سببية العلم وقوانين الطبيعة، وإنما هي سببية تُعلل أفعال الله وأفعال الإنسان، ولا تتجاوزهما. سببيته لا تدعم العلم التجريبي المادي الحديث بأي شيء، والواقع أنه يرفض طريقة العلم الحديث رفضاً قاطعاً. نرى هذا جلياً في نقده للمعارف الصاعدة، فالعلم نازل لا صاعد، حسب رأيه، أي ينزل من السماء عن طريق الوحي، ولا يصعد من الأرض إلى السماء على طريق دراسة الطبيعة. لا ضرر في التذكير هنا بأن العلم التجريبي كله قائم على دراسة الطبيعة عن طريق التجربة التي تعتمد على الحواس والعقل في دراسة الظواهر، وأنه كله صاعد، يبدأ من الطبيعة ويصعد إلى الأفلاك. هذا النوع من المعرفة القائم على الحواس والعقل هو بالنسبة لابن تيمية يدخل في وضع العقل فوق منزلة النص الديني.
لم يكن ابن تيمية قط تجريبياً وإنما كان يملك نزعة مادية حسيّة لا تجريبية، ومن علامات كونه فيلسوفاً حسياً أنه يفضل علم الطبيعة على علم الرياضيات الذي وصفه بأنه «مجرد تصور مقادير مجردة أو أعداد مجردة». وفي مكان آخر يصفه بأنه كثير التعب قليل الفائدة. وفي موضع ثالث يتكرر في علم الرياضيات ما سبق وقاله في علم المنطق «لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل»، أي أن الرياضيات تحتاج إلى دليل من القرآن والسنة، فإن لم تجد ولن تجد، فهي ظنون وأباطيل.
هل كان ابن تيمية عالِم رياضيات حتى يحق له أن يصفها بهذا الوصف المجحف؟ الجواب: هو لا، فهو لم يصنف في الرياضيات، بل لم يدرُسها، إنما هي تعليقات وانطباعات، ورجل الدين عندما يتكلم عن انطباعاته حول العلوم الدنيوية يكون في كلامه شطط كبير.
ولا تصمد دعوى من ينسبون ابن تيمية إلى نصرة العلم الحديث بمجرد نقده للمنطق القديم، فقد وجدناه يرفض علم الفلك، ويقرر أنه كثير التعب قليل الفائدة، ووجدناه يرفض معرفة دخول الشهر بواسطته لأننا أمة أمية، حسب رأيه. وفي موضع آخر، يحبذ للمسلم ألا يتعلم الكتابة والحساب إن أمكن تعلم القرآن والعلوم الدينية بدونهما ليكون حاله كحال النبي الأميّ، حسب تعبيره. هذا معناه أنه داعية للأميّة، وأنه لا يعترف إلا بتعلم العلوم الدينية فقط. ولو أنه كان حيّاً اليوم لكان ممن يشترطون الرؤية لدخول شهر رمضان والعيدين بحيث تصوم كل دولة عربية أو إسلامية حسب الرؤية الخاصة بها، رغم أنها فضيحة تتكرر في كل عام ثلاث مرات، تصوم دولة وتفطر دولة مجاورة. مع أنه لا توجد مسافة بينهما تسمح باختلاف دخول الشهر، مع سهولة الرجوع إلى الحساب الفلكي القطعي الذي يعتمد على العلم الحديث وحسابات الفيزياء الفلكية، ويستطيع تحديد بداية الشهور ونهايتها ومواعيد مواليد الأهلة لعشرات السنوات المقبلة بنسبة خطأ قدرها المختصون بواحد في مائة ألف.
أما علمه بالطب فحدث ولا حرج، فقد وجدته يقول في محاولة لتبرير مذهبه في أن لحم الإبل ينقض الوضوء، بأن الإبل فيها «قوة شيطانية»، وأن هذه القوة قد أضرّت من أدمنوا أكلها من الأعراب بحيث امتلأت قلوبهم بالحقد، ولم يُبرر كيف أن الصحابة وهم من ضمن من يأكلون لحمها لم يسرِ فيهم الحقد. وبقي هو وتلميذه ابن القيم دعاة لما أسموه خطأ بالطب النبوي، حتى جاء فقهاء أكثر وعياً، كالطاهر بن عاشور، فقرروا أنه لا يوجد طب نبوي، وأن ما ورد فيه من أحاديث لا ينطلق من كونه وحياً، بل هو من تجارب النبي الشخصية وحركة الطب في زمنه.
أما الكيمياء فقد أفتى ابن تيمية بأن تعاطيها وتعلمها حرام لأنها غش ومضاهاة لخلق الله. وقد حاول بعضهم أن ينفي هذا عنه فقال إنه يقصد «الخيمياء» لا «الكيمياء» ومن يُحول المعدن الرخيص إلى نفيس، وهذا الدفاع كله لا معنى له، فالكيمياء الحديثة المتفق على عظمتها وفائدتها الكبيرة للإنسانية هي علم التبديل والاستحالة، ويدخل في عملها تحويل المعادن من رخيص إلى نفيس. ولا يزال العلماء يهتمون بهذا الحقل المعرفي، وقد كانت لإسحاق نيوتن بحوثه الخاصة في هذا المضمار، وإلى يومنا هذا هو علم قائم يتطور. وتبدو هذه الفتوى الشاذة نتيجة لفكرة خاطئة لم يختبرها، فترسخت عنده بأن لا أحد على الحقيقة يستطيع أن يغيّر عنصراً ما فيحوله إلى عنصر آخر إلا الله. وهكذا تلج الكيمياء في مضاهاة قدرة الله على الخلق، أو هي من أعمال السحرة. ولذلك، وجدناه يشن هجوماً منكراً على عالم كبير ومفخرة لكل تاريخ الأمة العربية الإسلامية، ألا وهو جابر بن حيّان، أحد أكبر رواد علم الكيمياء على مستوى العالم، ويصفه بأنه رجل مجهول لم يُعرف بدين. هذا المجهول هو أبو موسى جابر بن حيان الذي ترجم آر. راسل عدداً من كتبه إلى الإنجليزية، ووصفه بأن أشهر علماء العرب وفلاسفتهم، وعد له زكي نجيب محمود 52 كتاباً في العلوم الطبيعية.
وقد أظهر ابن تيمية موقفه الحقيقي من العلماء والفلاسفة والأطباء والمهندسين والفلكيين في رسالة غاضبة يخاطب بها رجلاً مات قبله بقرون يقال له ابن سينا، قائلاً: «وكون الواحد منكم حاذقاً في طب، أو نجوم، أو غرس، أو بناء، هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته، وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب، الذي هو أجلّ المطالب، وأرفع المواهب، فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى، إما جهلاً أو تفريطاً». لقد أعدت قراءة هذا النص مرات عدة تعجباً، لأنه أحال الحذق في الطب والإبداع في العلوم إلى الجهل بالله، وكأن الحذق في الطب ومعرفة الله لا يجتمعان.
وبعد هذه، وجدته يكرّ على متخصص في علم الفلك والرياضيات والفلسفة هو نصير الدين الطوسي الذي كان الداعية لإنشاء مرصد مراغة في بلاد فارس، فيقول فيه: «وهل كان الطوسي وأمثاله يَنفُقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين، ومكايد المحتالين، المنافية للعقل والدين؟!». هذا السجع، وهذا الحسد لكل من نال حظوة عند الملوك لن يُنسينا أن الطوسي - بغض النظر عن مواقفه السياسية - هو واحد من أكبر علماء الفلك والرياضيات في زمانه على مستوى العالم، شاء من شاء وأبى من أبى. ترجمت كتبه إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوربية، وخلاصة القول فيه أنه كان من أعظم علماء الحضارة العربية، ومن أكبر الرياضيين، وقد أسهم بشكل كبير في تطوير العلوم، لا سيما الفلك والرياضيات، وبقيَت مؤلفاته مراجع عالمية لقرون عدة، ونالت شهرة كبيرة بفضل ما قدم مؤلفها من إسهامات غنية.
هذا هو موقف ابن تيمية من العلم التجريبي الحديث. وهو كما ترى موقف سلبي للغاية ولا يقارن بموقف من يكثر من النقل عنهم كالفارابي وابن سينا وابن رشد، فهؤلاء كانوا علماء على الحقيقة، وقد بقيت الجامعات الأوروبية تُدرس كتاب «القانون في الطب» لمدة ستة قرون، وبقي هو الكتاب الأساس الذي يقوم عليه علم الطب إلى زمن ليس بالبعيد، وتمت ترجمته لمعظم لغات العالم، وفي عام 1476 طُبع الكتاب في روما باللغة العربيّة ضمن أربع مُجلدات، وقد تقدّم ابن سينا فيه بالعديد من الابتكارات المُذهلة للبشرية، وكان رائداً في علم دراسة الطفيليات، وإليه يرجع الفضل في اكتشاف أمراض عديدة لا تزال منتشرة إلى الزمن الحالي.
هذا هو موقف الفقهاء المشاهير من العلم والعلماء، ولا يمكن لمن يحترم عقولنا أن يلوي أعناق الحقائق، بغير دليل.
* باحث سعودي



خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
TT

خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)

مع تشكيل الحكومة السورية الجديدة برئاسة محمد الجلالي، تصدرت مسألة تحسين الأوضاع المعيشية مطالب المواطنين الذين أنهك الفقر غالبيتهم العظمى. وبينما لم يكسر التطور الحاصل، حالة اليأس من حدوث انفراجة، بسبب معاناة الأسر مع الحكومات السابقة، خصوصاً الأخيرة التي وُصفت بـ«حكومة التجويع»، استبعدت مصادر متابعة أن تستطيع الحكومة الجديدة انتشال البلاد من التدهور الاقتصادي الحاد، لأن الأمر مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد، ولأن رئيس الحكومة وأعضاءها «ليسوا أصحاب قرار»، بل مجرد «موظفين» ينفّذون قرارات السلطات العليا.

مهمة مستحيلة

يأتي تشكيل الحكومة الجديدة في وقت تعاني فيه كل القطاعات في مناطق الحكومة السورية من تدهور ينحدر بشكل يومي إلى قعر جديد، ومن تفاقم الفساد، وتعمق الفقر والجوع وازدياد نسبتهما.

وتقول مهندسة تقطن وسط دمشق: «فقدنا القدرة على التحمل. وأحياناً تفوق وجبة البيض قدراتنا».

وتشهد الأسواق حالة انكماش غير مسبوقة رغم حصول تخفيضات بنسبة 20 إلى 50 في المائة على كثير من المواد الأساسية والغذائية منذ نحو أسبوعين أو أكثر حسبما رصدت «الشرق الأوسط».

لكنَّ صاحب بقالية في منطقة الزاهرة جنوبي دمشق، يؤكد أنه «لا يوجد إقبال على الشراء، لأنه لا توجد سيولة بين الناس التي تسعى لتأمين الخبز».

طفلان يفترشان الشارع في أحد أحياء جنوب دمشق (الشرق الأوسط)

محمد، وهو من سكان حي «دف الشوك» شرقي دمشق، يقول: «لا كهرباء، وتأمين الماء يحتاج إلى مرتب موظفَين اثنين، وأسطوانة الغاز باتت تصل كل 90 يوماً... هذه ليست عيشة. يجب تأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية».

وما زاد الأوضاع سوءاً، تجدُّد أزمة المواصلات منذ ثلاثة أسابيع، بسبب توقف محطات الوقود عن تزويد حافلات النقل الخاصة بمادة المازوت نتيجة النقص الحاد.

ويؤشر إلى ذلك مشهد تجمع الحشود في مواقف الحافلات، وانتشار أعداد كبيرة في الشوارع الرئيسية عائدين إلى منازلهم سيراً على الأقدام.

«الحكومة مشكورة أوصلتنا إلى هذا الحال»، يقول موظف لـ«الشرق الأوسط» وهو عائد مشياً من مكان عمله في وسط دمشق. ويوضح: «عدا عن الانتظار الطويل، الركوب في حافلة يحتاج إلى خوض معركة بسبب الازدحام». ويلفت إلى انقطاع كثير من زملائه عن العمل بسبب ندرة المواصلات، وبعضهم لعدم توفر أجور النقل لديهم، بينما يؤكد سائق حافلة توقف غالبية أصحاب حافلات النقل عن العمل لعدم توفر المازوت.

أول رئيس حكومة من الجولان

وبعد عشرة أيام من تكليف الجلالي، خلفاً لرئيس الوزراء السابق حسن عرنوس، صدر مرسوم رئاسي بتشكيلة الحكومة الجديدة. ومن أبرز التغييرات تعيين نائب وزير الخارجية والمغتربين بسام الصباغ وزيراً للخارجية، خلفاً للوزير فيصل المقداد الذي أصبح نائباً لرئيس الجمهورية، ومفوضاً بمتابعة تنفيذ السياسة الخارجية والإعلامية في إطار توجيهات رئيس الجمهورية.

رئيس الوزراء السوري الجديد محمد غازي الجلالي (الإخبارية السورية)

والجلالي، وفق معلومات «الشرق الأوسط»، يتحدر من قرية «راوية» إحدى قرى هضبة الجولان السورية المحتل، وتنتمي عائلته إلى عشيرة «الهوادجة» العربية، وهو أول شخصية تنحدر من الجولان يتم تكليفها بتشكيل الحكومة في عهدَي الأسد الأب والأسد الابن.

وبعد نكسة يونيو (حزيران) عام 1967، نزحت عائلة الجلالي إلى دمشق، واستقرت في القسم الشرقي من حي التضامن جنوب دمشق، حيث ترعرع في الحي ودرس في مدارسه، وتمكن والده غازي الجلالي بحكم عمله أمين فرقة في «حزب البعث» من الحصول على إيفاد خارجي لابنه الوحيد على نفقة الحزب لمتابعة تحصيله العلمي العالي في جامعة مصرية، وذلك بعد حصوله على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق عام 1992.

وإثر اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، نزحت عائلة الجلالي أواخر العام نفسه من حي التضامن، وسكنت في «مدينة البعث» بمدينة القنيطرة، في حين بقي الجلالي يقيم في دمشق.

والجلالي من ضمن 45 اسماً اختارهم الرئيس بشار الأسد ليكونوا أعضاء في اللجنة المركزية لـ«حزب البعث» خلال انتخابات الحزب الأخيرة في مايو (أيار) الماضي، بعدما أفرزت نتائج الانتخابات 80 عضواً.

وفي يوم تكليفه، أعاد الجلالي نشر مقولة كان قد نشرها العام الماضي على صفحته الشخصية في موقع «فيسبوك» لفردريك باستيا، المنظِّر الليبرالي الكلاسيكي والاقتصادي السياسي الفرنسي، الذي يعد من أنصار المذهب الحر في الاقتصاد، وعاش في القرن التاسع عشر، وقال فيها: «ليس هناك إلا فارق واحد بين الاقتصادي الجيد والاقتصادي السيِّئ، وهو أنَّ الاقتصادي السيِّئ يقصر نفسه على التأثير المرئي. أما الاقتصادي الجيد فيأخذ في حسبانه معاً التأثير الذي يُمكن أن يُرى وتلك التأثيرات التي يجب التنبؤ بها».

محل ألبسة رجالية وسط دمشق (الشرق الأوسط)

تباين في الآراء والأرقام

وعلى أن الشارع متفق اليوم على ضرورة إحراز تقدم ولو بسيطاً على مستوى الخدمات الأساسية إلا أن التعيين الجديد أُحيط بآراء متباينة كثيرة. فقد نشرت صحيفة «صاحبة الجلالة» الإلكترونية المحلية أبرز آراء ومقترحات الجلالي قبل الإعلان عن تكليفه. ومن ذلك على سبيل المثال أن «تدني القدرة الشرائية للمواطن يجعل السكن في المرتبة الثانية ضمن أولوياته، رغم أنه حاجة ماسة. إلا أن حاجة الطعام والشراب اليومية تحتل المرتبة الأولى ضمن تلك الاحتياجات»، و«على الحكومة أن تعزز بداية المناخ الاستثماري من خلال توفير بنية تحتية آمنة للاستثمار».

في المقابل، جاءت تعليقات على منشور «صاحبة الجلالة» تقول: «لن نحكم حتى نرى نتيجة أفعاله لا أقواله. الناس جاعت»، و«نفس أقوال عرنوس، ومن قبله (عماد) خميس ومن قبله (وائل) الحلقي، ونفس أقوال الذي سيأتي بعد الجلالي، وهكذا دواليك، والحال من سيئ لأسوء».

وبقي في الحكومة الجديدة التي تضم 27 وزيراً، 11 وزيراً من الحكومة السابقة منهم وزراء الدفاع والداخلية والأوقاف، في حين دخل 14 وزيراً جديداً بينهم الإعلامي والخبير الاقتصادي زياد غصن، الذي آلت إليه حقيبة وزارة الإعلام، بينما بدل اثنان حقيبتيهما.

موظفون لا أصحاب قرار

مصدر مقرب من دوائر صنع القرار في دمشق، استبعد أن تتمكن الحكومة الجديدة من إيجاد حلول للأزمات الغارقة فيها البلاد. وقال المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ«الشرق الأوسط»: «الأمر لا يتعلق بالأشخاص، القضية هي أن رئيس الوزراء في سوريا والوزراء ليسوا أصحاب قرار. هو أكبر موظف في الحكومة، والوزراء موظفون أيضاً. هم ينفِّذون قرارات تصدر من فوق».

وأضاف المصدر: «قرار استبعاد أكثر من 600 ألف عائلة من الدعم الحكومي الذي جاء ضمن خطط إلغاء الدعم، لم يُصدره عرنوس، وكذلك قرارات رفع الأسعار».

عجوز تجمع النفايات والبلاستيك وسط دمشق (الشرق الأوسط)

ورأى المصدر أن «الانفراج الاقتصادي مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد منذ فترة طويلة»، وقال: «الغرب يطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، والدول العربية تطالب بتنفيذ المبادرة العربية للحل في سوريا والمعروفة بـ(خطوة مقابل خطوة)».

ولا شك أن الأمر أكثر تعقيداً من وصول حكومة ذات كفاءة أو لا. فتطبيق القرار الدولي الذي صدر في 2015 يقضي بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وانتقال سلمي للسلطة، مرهون أيضاً بالعقوبات الاقتصادية وأولها قانون قيصر الأميركي الذي فُرض في 2020 وكان بداية الانهيار الاقتصادي السريع في البلاد.

وحسب المصدر، حتى بعض الانفراجات القليلة التي لاحت، سواء مع بعض العواصم العربية أو مع أنقرة وكان من شأنها ان تنفِّس الاحتقان المعيشي والاقتصادي داخلياً لم تُترجَم استثمارات فعلية على الأرض.

وعلَّق المصدر على مسألة تزامن تشكيل الحكومة الجديدة مع إشارات من دمشق منذ بداية العام الجاري إلى أنها بدأت عملية إصلاح إداري، شملت الأجهزة الأمنية وتشكيلات عسكرية و«حزب البعث»، بالقول: «(تغييرات) شكلية. هل تم استئصال مافيات الفساد المتحكمة في البلاد؟ وهل تراجعت جرائم القتل والسرقة والخطف؟ الوقائع على الأرض تقول: لا».

وسبق أن كشف وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك السابق عمرو سالم الذي جرت إقالته من حكومة عرنوس في مارس (آذار) 2023، في منشوراته، عن أن الدولة «تخسر مبلغ 38 ألف مليار ليرة كل عام بسبب سرقة الدقيق والقمح والخبز».

تنفيس مدروس

وبعدما تحولت الحكومة السابقة إلى تسيير أعمال، عقب انتخابات مجلس الشعب في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، كان لافتاً تصاعُد حدة الانتقادات الموجهة إليها.

وتعليقاً على قرارها أن يحصل المواطن العائد إلى البلاد عبر مطار دمشق الدولي على «شيك» ورقي بقيمة 100 دولار ملزَم بتصريفها قبل دخوله البلاد، على أن يتسلم قيمته لاحقاً من المصارف التجارية بدلاً من الأجهزة الموجودة في المطار، كتبت «صاحبة الجلالة» في منشور: «فيما يخص قرار الشيك للمائة دولار. لماذا نتحدث عنه بصيغة المجهول؟ مَن اقترح هذا القرار؟ ولماذا؟ ومَن وافق عليه؟ حددوا لنا مَن اقترح ومَن وافق؟ ليس كل قرار غبيّ يسجَّل ضد مجهول».

الخبير الاقتصادي عامر شهدا، كتب على صفحته الشخصية على «فيسبوك»: «ما أمنياتكم للحكومة في رحيلها بعد ساعات؟ بالنسبة لي أدعوهم للبكاء على الأطلال التي خلَّفوها».

وأوضحت مصادر متابعة في دمشق، في تفسيرها لأسباب الحملة ضد الحكومة، لـ«الشرق الأوسط»: «أغلبية ما يُنشَر في مواقع أو صفحات موالية خصوصاً ما يتعلق بالحكومة، يأتي بتوجيه من السلطة من أجل التنفيس عن المواطنين».

في 8 مايو (أيار) الماضي، وبعد تقديم عرنوس عرضاً أمام مجلس الشعب حول ما نفَّذته حكومته، نشر شهدا منشوراً مطولاً ناقض فيه ما تضمنه العرض.

سوق باب سريجة وسط دمشق المختص ببيع المواد الغذائية واللحوم والخضار وتبدو فيه حركة المارة ضعيفة جداً (الشرق الأوسط)

وقال: «تمنينا أن نسمع من معاليكم وضعاً مقارناً لنسب الهدر والفساد من عام 2020 لغاية 2024، وأن نسمع وضعاً مقارناً عن انتشار الجريمة والسرقات في المجتمع وانخفاض أعمار الداخلين لسوق الدعارة».

وعرض شهدا ما سمّاها «أرقام الشعب السوري»، منذ تشكيل عرنوس الحكومة عام 2020، وقال: «بفضل شماعة العقوبات وارتفاع الأسعار العالمية وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي ريعي، موازنة 2020 بلغت (2.9) مليار دولار، بينما في 2024 أصبحت (2.6) مليار دولار. وسعر الصرف الرسمي في 2020 كان 434 ليرة مقابل 800 في السوق السوداء، بينما في 2024 وصل سعر الصرف الرسمي إلى 13 ألف و500 ليرة».

وحسب الأرقام، ارتفعت تكاليف المعيشة بين 2022 و2023 بحدود 97.9 في المائة، فيما بقي الحد الأدنى للأجور عند راتب يناهز 93 ألف ليرة أي نحو 7 دولارات. وبلغ عدد السكان الذي يحتاجون إلى المساعدة نحو 15 مليون نسمة، 90 في المائة منهم تحت خط الفقر.