كنغسولفر تكيف رواية ديكنز مع مكانها وزمانها في «ديمون كوبرهيد»

كتبت روايتها الجديدة في «المنزل الكئيب» الذي أكمل فيه «ديفيد كوبرفيلد»

باربرا كنغسولفر
باربرا كنغسولفر
TT

كنغسولفر تكيف رواية ديكنز مع مكانها وزمانها في «ديمون كوبرهيد»

باربرا كنغسولفر
باربرا كنغسولفر

- تعالج رواية كنغسولفر ثيمات الفقر والبطالة واستغلال الأطفال في بيوت الحضانة والأطفال
في يوم أخمن أنه في أحد الشهرين الأخيرين من 2018، وفي أثناء جولتها لترويج روايتها «بلا مأوى، 2018» في إنجلترا، تدخل الروائية الأميركية باربرا كنغسولفر، بصحبة زوجها، قصر «المنزل الكئيب» - فندق بسرير وإفطار يقع فوق الجرف المطل على مدينة برودستيرز وخليج الفايكنغ في مقاطعة كنت، يعود تاريخ بنائه إلى 1801. كان في الأصل منزلاً لقائد الحصن المحلي إبان الحروب النابوليونية، ويسمى «فورت هاوس». في هذا النزل كتب الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز جزءاً كبيراً من روايته «ديفيد كوبرفيلد، 1850»، وألهمه فكرة روايته «المنزل الكئيب، 1853». كان ديكنز قد استأجر «فورت هاوس» من 1837 إلى 1859 ليقيم فيه مع أسرته. بعد وفاته في 1870 غُيِّرَ اسم النزل إلى «المنزل الكئيب» تكريماً وتخليداً لذكرى الروائي الإنجليزي الكبير.
اكتشاف كنغسولفر لارتباط المكان بديكنز وبروايته «ديفيد كوبرفيلد»، على نحو خاص، هو ما دفعها وزوجها إلى الإقامة فيه، حسب ما ذكرت في بعض حواراتها الصحافية والمتلفزة. وكانا النزيلين الوحيدين أثناء إقامتهما فيه. هناك، وخصوصاً في المكتب الذي أكمل فيه ديكنز روايته «ديفيد كوبرفيلد»، قضت كنغسولفر الليلة الأولى تفكيراً واشتغالاً على مشروع روايتها الجديدة «ديمون كوبرهيد» التي صدرت في أكتوبر (تشرين الأول) 2022. كان ديكنز إلى جانبها، كما تقول، طوال الوقت وخلال السنوات التي استغرقتها الكتابة.

تتعدد ماهية وطبيعة علاقة راوية كنغسولفر برواية ديكنز في أحاديث وحوارات الروائية، فمرة تصفها بأنها ترجمة معاصرة لـ«ديفيد كوبرفيلد»، أو تشير إلى أنها مبنية على هيكل روايته، أو أنها تكييف وملاءمة لشكل روايته مع مكانها وزمانها، كما تقول في بداية صفحة العرفان – الامتنان، التي أرفقتها في نهاية الرواية: «إنني ممتنة لتشارلز ديكنز لتأليفه (ديفيد كوبرفيلد)، ونقده المتقد للفقر المؤسساتي وآثاره المدمرة على الأطفال في مجتمعه. هذه المشكلات لا تزال معنا. في تكييف روايته مع مكاني وزماني، ومع العمل لسنوات، مع غضبه وإبداعه وتعاطفه بجانبي، صرت أفكر فيه كصديقي العبقري».
بالإمكان وصف علاقة «ديمون كوبرهيد» برواية ديكنز بأنها علاقة تكييف وملاءمة أو ترجمة أو محاكاة أو استلهام أو استيحاء، أو بأنها كل هذه الأشياء والعلاقات مجتمعة في نص واحد. رواية كنغسولفر نص لا يضمر تعالقاته التناصية مع رواية ديكنز كنص سابق رئيسي، أو هو إعادة كتابة لها. إنه نص سردي ما بعد حداثي تتمثل فيه، على نحو واضح، فحوى ما يقوله غراهام أَلِن في «التناص، 2000»: «لم يعد ممكناً في عصر ما بعد الحداثة... الحديث عن الأصالة أو تفرد العمل الفني، سواء أكان لوحة أم رواية، لأن كل عمل فني هو تجميع من أجزاء وقطع من الفن الموجود بالفعل». والمؤلفون، حسب قوله: «لا يختارون الكلمات من نظام لغة فقط، بل يختارون الحبكات والملامح الأجناسية والشخصيات والصور وأساليب السرد حتى العبارات والجمل من النصوص الأدبية السابقة ومن الموروث الأدبي». تُذَكِّرُ رواية كنغسولفر، مع أخذ الاختلافات بعين الاعتبار، برواية مواطنها مايكل كننغهام «الساعات» بعلاقاتها وتعالقاتها التناصية مع رواية فرجيينا وولف «السيدة دالوي»، وبرواية جون ماكسويل كوتزي «فو-Foe» كإعادة كتابة لرواية دانيال ديفو «روبنسون كروزو»، على سبيل المثال.

تطلب بناء «ديمون كوبرهيد» على هيكل رواية ديكنز، خلق عدد من التوازيات والتناظرات بين النص السابق والنص اللاحق، وعلى أكثر من مستوى وناحية. فمن ناحية النوع والشكل، «ديمون كوبرهيد» هي سيرة ديمون كوبرهيد الذاتية، أي أنها »Bildungsroman» سرد لقصة حياته من الطفولة إلى سن الرشد، يسردها ديمون نفسه بضمير المتكلم؛ وهي في الوقت نفسه، ومن زاوية أخرى، »Kunstlerroman »صورة للفنان في شبابة كما هي رواية ديكنز «ديفيد كوبرفيلد». سأتناول هذه الثنائية الشكلية والنوعية لاحقاً.
وثمة توازيات أخرى بين أسماء ووظائف بعض الشخصيات في الروايتين. والتوازي الآخر الذي يضاهي في الأهمية التناظر الشكلي والأجناسي بين الروايتين يتجسد في الجانب الثيمي - الموضوعاتي، أو البعد «الديكنزي» الذي يشمل الجانب الموضوعاتي والموقف منه.
«ديمون كوبرهيد» سيرة الشخصية المركزية دامون فيلدز، الملقب بديمون كوبرهيد بسبب لون شعره النحاسي، تركز على سيرورة نمو وعيه ونضجه النفسي والأخلاقي خلال السنوات التكوينية إلى بلوغه سن النضج والرشد. يرافق خلالها القارئ ديمون كوبرهيد، وهو يروي قصة حياته منذ اللحظات الأولى بعد مولده إلى النهاية، وهي بداية رحلته إلى المحيط برفقة الفتاة آنغوس وينفيلد. ينظر ديمون من الحاضر، زمن السرد، إلى الماضي، زمن الحدث. يمتزج في سرده التأمل والنقد والاحتجاج على ظروف وأوضاع الفقر والمعاملة السيئة والاستغلال التي يعيشها الأطفال غير المحظوظين أمثاله؛ اليتامى أو من آباؤهم في غياهب السجون أو في مراكز إعادة التأهيل للتعافي من الإدمان، خصوصاً بسبب ما يعرف بوباء المواد الأفيونية الذي انتشر في إقليم أبالاتشيا في التسعينات من القرن العشرين، زمن أحداث الرواية.
وُلِدَ ديمون لأم مراهقة ومدمنة، أغمي عليها أثناء ولادته، وخرج من رحمها وهو لمّا يزل في الكيس، يحاول لكم الكيس ليخرج منه، «مثل ملاكم أزرق صغير» كما تقول جارتهما السيدة بيغوت التي أنقذته وأمه باستدعاء سيارة الإسعاف. ويتذكر ديمون كلام السيدة بيغوت بأن خروجه وهو لا يزال في الكيس «وعد من الرب بأنه لن يغرق». ديمون لم يغرق في الماء، ولكنه غرق في ماء الإدمان، فالطفل الذي يولد لأم مدمنة هو مدمن. هكذا يعلق ديمون في لحظة السرد على ما حدث له ولغالبية أترابه وزملائه في بيوت الرعاية.
باستثناء سنوات الطفولة السعيدة المبكرة التي قضاها مع صديقه مات بيغوت «ماغوت»، والفترة التي عاشها في رعاية السيد وينفيلد مدرب كرة القدم في المدرسة الثانوية، كانت حياة ديمون انتقالات من أسرة حاضنة إلى أخرى، سواء بسبب دخول أمه المتكرر في مركز إعادة التأهيل والعلاج من الإدمان أو بعد وفاتها بجرعة زائدة من الـ«Oxycodone-OxyContin» مخدر الألم القوي المسبب للإدمان، هو ذاته السبب في إدمان ديمون بعد أن وصفه الطبيب له بعد تعرضه لإصابة في ركبته أثناء مباراة لكرة القدم.
تنتهي الرواية، وقد تعافى ديمون وتطهر من إدمانه بعد 3 سنوات ونصف سنة قضاها في مركز إعادة التأهيل، والعمل بعد خروجه في مدينة نوكسفيل بعيداً عن مقاطعة لي كاونتي، مسقط رأسه ومكان الحدث.
يتخلل سرد تفاصيل حياة ديمون ومعاناته وخروجه في النهاية معافى ومتطهراً من إدمانه، حكاية تطوره كفنان بصري، بدءاً بشغفه المبكر بالصور، ومشاهدة أفلام الأبطال الخارقين أو قراءة قصص مغامراتهم في المجلات المصورة، والرسم الكاريكاتيري في دفتره للتسلية أو السخرية من زوج أمه برسمه كشخصية شريرة، ثم تلقيه الرعاية والتشجيع من مُدرسة الفن في المدرسة الثانوية، والرسم الكاريكاتيري في الجريدة المحلية وإبداعه شخصية البطل الخارق «Red Neck»، وانتهاء بنشر حلقات روايته المصورة الأولى» graphic novel» في موقعه على الإنترنت وتلقيه العروض من ناشرين قبل نهاية الرواية. وهو توازٍ آخر مع نظيره في رواية ديكنز. لكن التناظر الآخر الذي لا يقل أهمية عما سبق هو تجلي البعد أو العنصر الديكنزي في رواية كنغسولفر. «ديمون كوبر هيد» رواية ديكنزية »Dickensian»، ليس لأنها مبنية على هيكل رواية ديكنز فحسب، أو بسبب التوازيات والتناظرات التي سلطت الضوء على بعضها، ولكن لتناولها بعض الثيمات والقضايا التي تميزت بها الرواية عند تشارلز ديكنز بشكل عام.
تعالج رواية كنغسولفر ثيمات الفقر والبطالة واستغلال الأطفال في بيوت الحضانة والأطفال الذين تيتموا أو فقدوا آباءهم بسبب الإدمان أو السجن أو بسبب الجرعات الزائدة من المخدرات. وتصور بشكل خاص الآثار الكارثية لوباء المواد الأفيونية الصناعية المخدرة للألم التي روّجتها شركات الأدوية في منطقة أبالاتشيا في تسعينات القرن الماضي، مُدّعِية أنها لا تسبب الإدمان، ولكن اتضح العكس. ولا تزال المنطقة تعاني من ارتدادات وآثار الوباء. فقد ديمون أمه، ثم حبيبته دوري، وكاد يلاقي المصير نفسه، لو لم يدخل مركز إعادة التأهيل بإلحاح وإقناع من الممرضة جون بيغوت، إحدى الشخصيات القليلة في الرواية التي لم تسقط في هاوية الإدمان.
* كاتب وناقد سعودي


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.