{الحاج متولي} يرحل بعد صراع مع المرض

الوسط الفني في مصر يواصل نزيفه ويودع نور الشريف.. بطل «سواق الأتوبيس» و«زمن حاتم زهران» و«العار»

حبيبي دائما ({الشرق الأوسط})
حبيبي دائما ({الشرق الأوسط})
TT

{الحاج متولي} يرحل بعد صراع مع المرض

حبيبي دائما ({الشرق الأوسط})
حبيبي دائما ({الشرق الأوسط})

بروح الحارة الشعبية التي ولد بها وأطل منها على الفن والحياة، وبمحبة طفل ظل مشغوفا بالمعرفة والتأمل في ما وراء الأشياء، والحلم بغد أجمل للوطن والإنسان.. طوى الفنان القدير نور الشريف أمس دفتر رحلته السينمائية الخصبة، ورحل عن عالمنا عن عمر يناهز 69 عاما، وبعد صراع مع المرض، تاركا لنا صفحات مضيئة ومشعة، لتتذكره الأجيال بكل الحب والتقدير.
وبرحيله تواصل الحياة الفنية في مصر نزيفها، حيث غيب الموت في هذا العام كوكبة من فرسانها وروادها الأوائل، من بينهم الفنانون: فاتن حمامة، مريم فخر الدين، محمد وفيق، وعمر الشريف، والمخرج رأفت الميهي.
ولد محمد جابر محمد عبد الله (نور الشريف) في 27 أبريل (نيسان) عام 1946، في حي السيدة زينب، أحد أشهر أحياء القاهرة الشعبية، وترعرع في كنف أسرة تنتمي للطبقة العاملة، وتشربت أنفاسه رائحة الحارة، وعرق ناسها وبساطتهم، وحبهم للخير والحياة، لكن عينيه كانتا مشدودتين دائما إلى فضاء الفن، موقنا بأن في داخله شيئا مغايرا يخصه، وأنه ينبغي أن يخرج إلى النور بقوة وحب.
تحت وطأة هذا الإحساس المبكر بالفن كانت عتبات المسرح المدرسي أولى خطواته لتحقيق حلمه بأن يكون فنانا، حيث انضم في المدرسة لفريق التمثيل بها، ومن باب غواية التجريب وحبه للرياضة انضم لفترة لفريق أشبال كرة القدم بنادي الزمالك، لكنه ترك كرة القدم بعد فترة قصيرة، حيث كان حبه للتمثيل الأعلى والجارف.
فور انتهائه من المرحلة الثانوية فضل نور الشريف من دون الكليات الأخرى أن يلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ليصقل موهبته ويزودها بالعلم والدراسة، حتى تخرج فيه بتقدير «امتياز» وكان الأول على دفعته عام 1967. وبدأ أولى خطواته في عالم الفن بدور صغير في مسرحية «الشوارع الخلفية»، بعد أن رشحه أستاذه بالمعهد المخرج سعد أردش، ثم اختاره المخرج كمال عيد ليمثل في مسرحيه «روميو وجولييت». وأثناء بروفات المسرحية تعرف على عادل إمام الذي قدمه بدوره للمخرج حسن الإمام، ليبدأ أول ظهور له في السينما في فيلم «قصر الشوق» أحد أضلاع ثلاثية نجيب محفوظ الروائية الشهيرة، ويحصل عن دوره على شهادة تقدير، فكانت أول جائزة يحصل عليها في حياته الفنية عن دوره في الفيلم، حيث قدم شخصية كمال، الفتى الشاب صاحب الأفكار التقدمية، أصغر أبناء السيد أحمد عبد الجواد (سي السيد)، واستطاع رغم قصر الدور أن يلفت الانتباه بتلقائيته وأدائه الرشيق.
سعى نور الشريف مبكرا إلى ترسيخ خطواته في الفن، وأن يكون سلاحه المؤثر، في تنمية ذاته، تشكيل علاقته بواقعه في إطار من الحيوية، والاعتداد بالرأي الآخر، من أجل الوصول إلى الصواب والحقيقة، ولذلك كان للقراءة حيز ثابت في حياته اليومية، يحرص عليها مهما كانت الظروف، وكان واسع الاطلاع في شتي دروب المعرفة الإنسانية، كما كان عاشقا للغة العربية، يرى أن الإلمام بجمالياتها وبلاغتها وقواعدها جزء من تكوينه كممثل، يضيف لإيقاع المشهد الفني، ويمنح الممثل طاقة على الإجادة والتعبير بانسيابية وببساطة.
في عباءة هذا الترسيخ والرغبة في الاستقرار العائلي تزوج نور الشريف في بداية مشواره الفني من الفنانة بوسي، ودام زواجهما لسنوات طويلة، وأنجب منها ابنتيه سارة ومي، حتى تطلقا في عام 2006. ورغم ذلك ظلت الحياة بينهما هادئة ومحبة، حتى إن بوسي لم تفارقه إبان فترة مرضه (انسداد في شرايين القدمين ورشح رئوي) الذي استمرت معاناته معه لعدة أشهر.
ينتمي الشريف إلى ما يسمي بجيل السينما الجديدة، والذي بدأت موجته في أواخر سبعينات القرن الماضي، وضمت عددا من الفنانين والمخرجين، من أبرزهم المخرجون: عاطف الطيب، ومحمد خان، وعلي بدرخان، ورأفت الميهي، وخيري بشارة، ورضوان الكاشف، ومن الفنانين: أحمد زكي، ومحمود عبد العزيز، ويسرا، ومعالي زايد. وقد حاول هذا الجيل أن يضخ دماء جديدة في السينما المصرية، وأن يكسر نمطية البطل التقليدي، في ثوب العشق والغرام، فيصبح البطل سواق الأتوبيس، وسواق التاكسي، والمصور الصحافي، وغيرها من المهن الإنسانية.
في سياق هذا الموجة الجديدة تنوعت أدوار نور الشريف في السينما المصرية، وأصبح من خلالها وبجدارة أحد نجومها المميزين، كما تنوعت أدواره على المسرح، رغم قلتها، وأيضا في الدراما التلفزيونية، التي ترك فيها بصمة لا تنسى.
عمل نور الشريف مع أغلب الفنانين الكبار من الرعيل الأول، ورغم تقديره وحبه الجم لهم فإن من الأشياء اللافتة هنا أنه احتفظ بزاوية ورائحة خاصة لنفسه وأدائه معهم، فلم يذب أو يتعثر في ظلالهم، وإنما كانت تحفزه على اشتعال شكل من أشكال المنافسة غير المرئية في داخله، وهو ما جعله موضع حب من الجميع. بدأت هذه الزاوية الخاص في حواريات فنية رائقة، مع محمود مرسي في «زوجتي والكلب»، وفريد شوقي وعادل أدهم «في الشيطان يعظ»، و«الحفيد» مع عبد المنعم مدبولي، وعماد حمدي في فيلم «سواق الأتوبيس»، وسعاد حسني في «الكرنك».. واتسعت هذه الزاوية ونضجت أكثر بالعمل مع كوكبة من جيل المخرجين الجدد، خاصة عاطف الطيب، ويلحق بهم أيضًا يوسف شاهين.
الحرص من نور الشريف على هذه الزاوية الخاصة عصمه بشكل تلقائي ألا يقع في التعبيرات السمجة المقصودة، لإظهار البراءة والسذاجة في المشهد السينمائي، بل كان يعيشه ويتقمصه موحدا ما بين ضرورات الدراما وضرورات الحياة. والتنقل بحيوية تشبه الطفولة من شطحات يوسف شاهين، ونمطيات شخصيات نجيب محفوظ بالطربوش والبدلة، وواقعية أفلام عاطف الطيب وأفلام سعيد مرزوق. لكن نور الشريف رغم ثقافته السينمائية الرفيعة لم يكن متعصبا لرأيه في العمل، بل كان يحترم آراء المخرجين الذي عمل معهم، رغم عدم اقتناعه بها أحيانا.
يروي الناقد الفني محمد الروبي، في كتاب يعده عن نور الشريف، قائلا: «يتذكر نور خلافا حدث بينه وبين المخرج أنور الشناوي حول مشهد رئيسي في فيلم (السراب)، وهو المشهد الذي يثور فيه كامل على أمه، قائلا: (كانت رغبة المخرج أن ينفعل نور ويعلو صوته على أمه في ثورة عارمة، وكنت أرى هذه الشخصية التي تعاني من عقدة أوديب في علاقته بأمه لا يجب أن تثور عليها بهذا الشكل - صوت عالٍ وصراخ و.. - لكن يجب أن يكون عتابا يبدأ رقيقا ثم يتصاعد، وحاولت إفهام المخرج أن هذه الشخصية لو ثارت في وجه الأم ربما تخرج كلمة واحدة عفوية تجعلها تبكي وتنهار ويهرول ناحيتها يقبل يديها ثم يكمل حواره وهو مخنوق بالعبرات بالشعور بالذنب، لكن المخرج أصر ودارت الكاميرا، واضطررت إعادة هذا المشهد الذي صور بطريقة اللقطة الواحدة نحو ست مرات لعدم اقتناعي بالتفسير الذي يصر عليه المخرج، وفي النهاية أديت المشهد بطريقة احترافية دون اقتناع كامل كما يريده المخرج)».
يتابع الروبي على لسان نور الشريف: «وفي ليلة العرض الأول للفيلم بسينما (ريفولي)، وحينما وصل الفيلم إلى هذا المشهد، فوجئت بأن الصالة انفجرت في تصفيق حاد، فنظر لي أنور الشناوي ليسألني وهو يبتسم: (وما كنتش عاوز تصرخ؟!)، لم أرد ولكني ظللت على اقتناعي بأن المشهد كان سيصبح أكثر قوة وأكثر توافقا مع الشخصية لو أديته بالطريقة التي أشرت أنا إليها، بل إن تصفيق الجمهور في الصالة إعجابا بأدائي لم يقنعني بأنه الأداء الأفضل، فأنا أشعر بأن التصفيق جاء كرد فعل شرطي للصراخ الذي قمت به، وهي طريقة بدائية ومعروفة تجعل أي ممثل مهما كانت قيمته يستدر تصفيق الجمهور بصعوده الصوتي إلى ذروة تحث الجمهور على التصفيق، ولكن لم يكن هذا ما أريده، كنت أريد تأملا للمشهد - بصرف النظر عن التصفيق - بل ربما سيأتي التصفيق بعد لحظات بعد استيعاب الجمهور لموقف الشخصية ولكلمات الحوار المعاتبة التي كشفت العلاقة بينها وبين الأم».
لقد عاش نور الشريف مسكونا بهاجس الزمن، كل يوم يبدأ سباقا جديدا معه، محاولا ترك بصمة تخصه في عالم السينما والفن. وهو ما تجسد بالفعل في العديد من الأفلام السينمائية، من أبرزها: «زوجتي والكلب»، «الكرنك»، «ليلة ساخنة»، «سواق الأتوبيس»، «ناجي العلي»، «ضربة شمس»، «المصير»، «آخر الرجال المحترمين»، «زمن حاتم زهران»، «العار»، «البحث عن سيد مرزوق»، «غريب في بيتي».
وفي المسرح «القدس في يوم آخر»، «سهرة مع الضحك»، «كنت فين يا علي»، «يا غولة عينك حمرا»، «يا مسافر وحدك».
ولن تنسى ذاكرة الدراما التلفزيونية أدواره التي تنوعت ما بين التاريخية والاجتماعية، ومنها «مارد الجبل»، «ثمن الخوف»، «عمر بن عبد العزيز»، «هارون الرشيد»، «لن أعيش في جلباب أبي»، «عائلة الحاج متولي» و«الدالي».
حصل نور الشريف على العديد من الجوائز وشهادات التقدير، منها «جائزة أحسن ممثل عن دوره في فيلم «ليله ساخنة»، وجائزة خاصة عن فيلم «سواق الأتوبيس».
ونعى الدكتور عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري وفاة الفنان نور الشريف، وقال في بيان صادر عن مكتبه: «إن وفاة نور الشريف خسارة كبيرة للفن العربي، فلا ننسى أعماله المتميزة في الدراما والسينما والمسرح، والتي احتلت مكانة كبيرة في وجدان الجمهور وذاكرة الفن، وهو ما جعل أعماله خالدة». وأضاف قائلا إن «نور الشريف له تاريخ حافل ومساهمات فنية جعلته نجما متألقا في عالم الفن. كان مهموما بمشاكل الناس وقضايا المجتمع والبسطاء، فاختار أعمالا فنية تناقش همومهم وقضاياهم، وسعى لتسليط الضوء على شخصيات تاريخية ووطنية في أعماله.. فكان بفنه خير سفير يحكي التاريخ مجسدا على الشاشة».
وتابع أن «الشريف كان من أبرز فناني جيله، وظل نجما بأخلاقه وتواضعه، فقدم لنا عددا من الوجوه الجديدة في التمثيل والإخراج أصبحوا نجوما في ما بعد، حتى صار الشريف مدرسة فنية بما قدم للسينما المصرية». واختتم قائلا: «نقدم العزاء في وفاته لأنفسنا ولأسرته ومحبيه، ونسأل الله أن يلهمهم الصبر والسلوان، ويسكنه فسيح جناته».
وببالغ الحزن والألم استقبل فنانون عرب رحيل نور الشريف، فقبل رحيله بأيام كان قد التقى المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي الذي حضر خصيصا للقائه، وكان مشهراوي أول من نعاه من الفنانين العرب وقال: «فقدت نور الشريف الصديق والأستاذ» ونشر صورا لهما معا.
وقال النجم جمال سليمان: «وداعا أيها الرجل النبيل حبيبي يا أستاذ نور وداعا. لقد كنت بموهبتك وإخلاصك والتزامك وتواضعك وثقافتك مثلا أعلى». وأضاف سليمان: «أهنئك لأنك لم ترحل عن هذه الدنيا إلا وقد تركت تراثا تفخر به أسرتك وبلدك. كنت خير من يمثل الفنان العربي بسعة أفقك وصدق محبتك لفنك. كل شيء فيك كان حقيقيا وأصيلا. الحديث عنك وعن إنسانيتك وفنك طويل جدا، لكن الوداع لحظات. وداعا أيها الرجل النبيل».
وقالت كندة علوش: «رحم الله الفنان الكبير.. وكل العزاء لبوسي ومي وسارة».
وقالت كارول سماحة على صفحتها بـ«إنستغرام»: «الكبار يرحلون لكنهم باقون في قلوبنا.. شكرا نور الشريف على ما قدمته لنا من فن جميل».. ونشرت صورا له مبتسما.
ونعته وفاء الكيلاني، الإعلامية بقناة «إم بي سي»، الراحل قائلة: «ما زلت بيننا وستعيش لأجيال من بعدنا».
وقال الفنان السوري تيم حسن: «نور رحمك الله.. رحلت وتركت مكانا فارغا.. كنت مثالا للفنان المحترم الغيور على فنه وعروبته». ونعته المطربة أحلام أيضا بصورة حزينة.
وقالت صبا مبارك: «كان لي شرف العمل معك وأنني عرفتك.. في ذمة الله يا غالي». وكتبت المطربة نانسي عجرم تنعاه قائلة: «رحم الله نور الشريف وألهم عائلته الصبر.. العزاء للعالم العربي كله».
وداعا نور الشريف.. لقد عشت في قلب الليل والخوف والنهار، وستظل صرختك على لسان جعفر الراوي «نعم إني أتمرغ في التراب، لكني هابط في الأصل من السماء».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».