الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا

حمزة يوسف من أسرة مسلمة باكستانية يتجاوز العوائق القومية

الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا
TT

الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا

الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا

اختار أخيراً الحزب القومي الأسكوتلندي الحاكم في إقليم أسكوتلندا البريطاني السياسي الشاب الباكستاني الأصل حمزة يوسف زعيماً له، وبالتالي رئيساً لوزراء أسكوتلندا. بانتخاب يوسف لزعامة حزب الغالبية الحاكم في البرلمان الإقليمي، فإنه بات ثالث «رئيس وزراء» (المسمى الرسمي للمنصب هو «وزير أول») قومي أسكوتلندي، بعد «سلفيه» أليكس سالموند ونيكولا ستيرجن، يقود الإقليم، الذي هو ثاني أكبر الأقاليم الأربعة التي تشكل المملكة المتحدة (لبريطانيا العظمى وآيرلندا الشمالية). أكثر من هذا، أنه مع نجاح يوسف في بلوغ هذا الموقع السياسي البارز يتعزّز أكثر حضور البريطانيين المتحدّرين من أصول آسيوية مهاجرة في الواجهة السياسية على امتداد الجزر البريطانية. إذ سبق أن وصل الطبيب الهندي الأصل الدكتور ليو فارادكار إلى زعامة حزب «فين غايل» ورئاسة حكومة جمهورية آيرلندا (بين 2017 و2020) ثم استعاد المنصب منذ ديسمبر (كانون الأول) 2022 وحتى اليوم. وتولى ريشي سوناك، وهو متحدر أيضاً من أصول هندية، رئاسة الحكومة البريطانية منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2022 في أعقاب انتزاعه زعامة حزب المحافظين. وقبله انتُخب صدّيق خان، الناشط والسياسي العمالي البارز، عمدة للعاصمة البريطانية لندن. ومنذ فترة، وحتى اليوم، شغل ويشغل أبناء مهاجرين من آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط - من الهندوس والمسلمين والبوذيين والمسيحيين - حقائب حكومية بارزة، بينها وزارات المالية والداخلية، كما أن وزير الخارجية الحالي جيمس كليفرلي ابن أم سيراليونية.
قبل انتخاب حمزة يوسف زعيماً للحزب القومي الاسكوتلندي، الحاكم في ثاني أكبر الأقاليم البريطانية من حيث عدد السكان بعد إنجلترا، كان الناشط السياسي الشاب من النجوم الصاعدة داخل الحزب. ومع أن قاعدة هذا الحزب بالذات «قومية اسكوتلندية» تؤيد بقوة استقلال اسكوتلندا، وسيادة الاسكوتلنديين على أرضهم التاريخية في شمال الجزر البريطانية، فإنها لم تجد ممانعة في أن يقودها زعيم من بيئة مسلمة مهاجرة من شبه القارة الهندية لا علاقة عرقية لها بالهوية الكلتية التي تنضوي تحت لوائها أبرز أقليات الجزر البريطانية (الاسكوتلنديون والآيرلنديون والويلزيون والكوورنووليون والمانكس). والدليل، أن جلّ استطلاعات الرأي التي أجريت بعيد إعلان رئيسة وزراء الإقليم نيكولا ستيرجن نيتها الاستقالة، بيّنت تقدم يوسف على منافسيه، ورجّحت فوزه بالتصويت على خلافتها بالمنصب، وهكذا كان.

النشأة والمسيرة
وُلد حمزة هارون يوسف في مدينة غلاسغو، كبرى المدن الاسكوتلندية من حيث عدد السكان، يوم 7 أبريل (نيسان) من عام 1985. وهو ابن مظفّر يوسف، المهاجر من إقليم البنجاب في باكستان إلى الجزر البريطانية خلال عقد الستينات من القرن الماضي. ولقد عمل مظفّر بعد استقراره في بريطانيا في مهنة المحاسبة. في حين كان والد مظفر (وجدّ حمزة) عاملاً بمصنع ماكينات «سينجر» للخياطة في مدينة كلايدبانك غربي غلاسغو. أما بالنسبة للأم، فإنها ولدت في مدينة نيروبي، عاصمة كينيا، لأسرة آسيوية مهاجرة أيضاً. ولمّا كانت أسرة الأم قد عانت في أفريقيا طويلاً من تكرار الاعتداءات العنصرية العنفية، قررت بعد فترة الهجرة إلى بريطانيا، وهناك استقرت في اسكوتلندا، حيث التقت أسرتا الأب والأم وحصل الزواج.
تلقى الطفل حمزة تعليمه في إحدى المدارس الابتدائية في ناحية أيست رينفروشاير، بالضواحي الغربية لغلاسغو. وفي مرحلة الدراسة المتوسطة والثانوية ألحقه أهله بمدرسة هتشيسون حيث تخرّج، وغير أنه بعدما تذوّق لأول مرة طعم السياسة وأخذ يهتم بالعمل السياسي. وكان يوم الاعتداء المزدوج على نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 مفصلياً في حياته، ففي حينه طرح عليه اثنان من زملائه في المدرسة أسئلة... منها «لماذا يكره المسلمون أميركا؟».
إثر هذه التجربة، عزم حمزة يوسف على السير بخلاف رغبة والديه اللذين كانا يريدان له دراسة الطب أو الحقوق أو الصيدلة، فقرر دراسة العلوم السياسية في الجامعة. وبالفعل، درس العلوم السياسية في جامعة غلاسغو المرموقة، وأدى نشاطه السياسي الدؤوب إلى انتخابه رئيساً لرابطة الطلبة المسلمين في الجامعة، كما أنه برز على مسرح السياسة الطلابية في الجامعة قبل أن يتخرّج فيها بدرجة الماجستير عام 2007.

نشاط ما بعد الجامعة
في الواقع، اهتم يوسف منذ الصغر بالعمل الاجتماعي، وعمل لعدد من الجمعيات من منظمات الفتيان إلى جمع التبرعات للمبرّات الخيرية. ولبعض الوقت تطوّع للعمل ناطقاً إعلامياً مع منظمة «الإغاثة الإسلامية»، ونشط في مشروع لإطعام المشردين وطالبي اللجوء في غلاسغو. ولكن، في مجال السياسة، انضم يوسف عام 2005 إبّان سنوات دراسته الجامعية إلى الحزب القومي الأسكوتلندي. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه تأثر كثيراً خلال تلك المرحلة بغزو العراق (عام 2003) في عهد حكومة توني بلير العمالية، فقد انجذب كثيراً لخطب أليكس سالموند زعيم القوميين الاسكوتلنديين (وأول «وزير أول» قومي اسكوتلندي في اسكوتلندا) المناهضة للحرب في العراق، كما تأثر بحماسة الناشطة السلمية روز جنتل ضد الحرب. ولقد أدرك في حينه أن استقلال اسكوتلندا هو الخيار الوحيد لانتهاجها سياسة مستقلة لا تُملى عليها إملاءً من لندن.
وهكذا، انطلق مشوار الشاب المتحمس مع الحزب القومي الاسكوتلندي، وساهم بهمّة وحماسة في حملات الحزب الانتخابية، بما فيها الانتخابات للبرلمان الاسكوتلندي الإقليمي عام 2007. وهي الانتخابات التي فاز بها الحزب، وتولّى بفضلها لأول مرة الحكم في الإقليم، كما أدت إلى شغله أول وظيفه له في هذا البرلمان. وحقاً، بعد الانتخابات، عمل يوسف مساعداً برلمانياً لبشير أحمد، الذي كان أول مسلم يدخل البرلمان الاسكوتلندي عام 2007. غير أن أحمد توفي بعد سنتين، فانتقل يوسف للعمل مساعداً برلمانياً لكل من سالموند، ثم نيكولا ستيرجن، التي خلفته في منصبيه في زعامة الحزب ومنصب «الوزير الأول» للإقليم عام 2014... وظلت فيه حتى خلفها يوسف نفسه قبل بضعة أسابيع.
في مكتب الحزب أسند إلى حمزة يوسف منصب مسؤول عن التواصل، قبل أن ينتخب عضواً في البرلمان الإقليمي للمقعد الإضافي عن منطقة غلاسغو الكبرى عام 2011، وهو في السادسة والعشرين من العمر... ويغدو أصغر نواب البرلمان الأسكوتلندي سناً. وللعلم، عندما أدى يوسف قسم الولاء الرسمي فإنه أداه باللغتين الإنجليزية والأوردية، وارتدى زيه الآسيوي التقليدي.
وفي العام التالي، 2012 عيّنه سالموند وزيراً مساعداً للشؤون الخارجية والعلاقات الدولية، فكان أول مسلم يدخل الحكومة في اسكوتلندا، واستمر في هذا المنصب حتى 2014، عندما استقال سالموند، وخلفته ستيرجن. ثم في حكومة ستيرجن عُيّن عام 2014 عُيّن وزيراً مساعداً للشؤون الأوروبية، ثم وزيراً للنقل وشؤون الجزر الاسكوتلندية عام 2016. وخلال هذا العام أعيد انتخابه لعضوية البرلمان الإقليمي نائباً عن دائرة غلاسغو - بولوك.
خلال هذا الفترة كان من أشهر كلمات يوسف في تعريفه لما يعنيه استقلال اسكوتلندا قوله «إنه سيضيف صوتاً تقدمياً إزاء القضايا العالمية، مروّجاً لمبادئ السلام والمساواة والإنصاف... هذا الاستقلال سيتحقق بالوسائل الديمقراطية السلمية من دون إراقة نقطة دم واحدة، وستتشارك فيه كل المكوّنات المتنوّعة التي تشكّل معاً نسيجنا الاسكوتلندي الثري».

وزيراً للعدل ثم الصحة
جاءت القفزة الأهم، في العام 2018، عندما رُقّي يوسف مجدّداً داخل حكومة ستيرجن؛ إذ دخل مجلس الوزراء هذه المرة وزيراً للعدل خلفاً للوزير السابق مايكل ماثيسون. وخلال هذه الفترة، قدّم مشروع القانون المثير للجدل حول «جرائم الكراهية». وكان مشروع القانون هذا يخفف من التشريعات الموجودة، ومع أنه يبقي على حرية التعبير فإنه يعزز في المقابل حماية الأقليات المضطهدة. بيد أن المشروع لاقى انتقادات من جهات عدة، بينها الكنيسة الكاثوليكية والجمعية الوطنية العلمانية ومجموعة من الكتّاب. وفي سبتمبر 2020 عدّل مشروع القانون هذا وأزيلت منه بنود مختلف عليها.
وسجّلت فترة شغله وزارة العدل انخفاضاً لافتاً لمعدلات الجريمة. ولكن، بعد 3 سنوات، عام 2021، أعيد انتخابه عن دائرة غلاسغو - بولوك البرلمانية، في انتخابات أخفق فيها القوميون الاسكوتلنديون في الاحتفاظ بغالبيتهم المطلقة بفارق مقعدين، لكنهم ظلوا الحزب الأكبر في المجلس بأكثر من ضعفي عدد مقاعد حزب المحافظين صاحب المرتبة الثانية. وبعدها، انتقل داخل الحكومة ليتولى منصب وزير الصحة خلفاً للوزيرة السابقة جين فريمان، في أواخر فترة جائحة «كوفيد - 19». وكان بحكم مسؤولياته مشرفاً وبفاعلية كبيرة على دعم عمل «خدمة الصحة الوطنية» وتعزيز عمليات التلقيح ضد الفيروس، التي كانت قد انطلقت في عهد فريمان.
ولكن، في مطلع العام الحالي، بعد إعلان ستيرجن يوم 15 فبراير (شباط) اعتزامها الاستقالة من منصبها كزعيمة للحزب القومي الاسكوتلندي و«وزيرة أولى» لاسكوتلندا، أعلن حمزة يوسف دخوله حلبة الترشح لخلافتها. وبالفعل، فاز في التصويت الداخلي للحزب وأصبح من ثم زعيماً له يوم 27 مارس (آذار) الماضي.

بعض مواقفه السياسية
في 15 فبراير الفائت، لدى إعلان ستيرجن اعتزامها التنحي عن منصبيها الحزبي والوزاري، فتحت حلبة التنافس لخلافتها، وأعلن حمزة يوسف خلال 3 أيام ترشحه لخلافتها خلال لقاء صحافي. وأعلن سلسلة مواقف، بينها: مواجهة قرار الحكومة البريطانية برفض مشروع القانون الاسكوتلندي للتعريف الجندري (الجنسي)، العمل على زيادة التأييد لاستقلال اسكوتلندا قبل استفتاء على الأمر. ثم إنه طرحه نفسه كـ«مرشح استمرارية» لسياسات ستيرجن «التقدمية» والمؤسسة الحزبية القائمة. وبسرعة نال دعم العديد من قيادات الحزب.
بعدها قال خلال مهرجان انتخابي، إنه لا يعدّ نتيجة الانتخابات المقبلة في بريطانيا - أي نتيجة كانت - «استفتاءً» على استقلال اسكوتلندا. وفي مسألة أثارت بعض اللغط حول مشروع قانون زواج المثليين، تعرّض يوسف لانتقاد ضمني من كايت فوربز، المرشحة المنافسة على المنصب والمناهضة لزواج المثليين، لتغيبه في الجلسة الحاسمة عن التصويت على المشروع. إلا أن يوسف رد بأنه «لا يشرّع بناءً على أساس الدين والمعتقد». وأوضح، أنه إنما تغيب عن التصويت بسبب اجتماعه مع القنصل الباكستاني وإثارته معه حكم الإعدام الصادر في باكستان بحق مواطن اسكوتلندي بتهمة التجديف.
في أي حال، فاز حمزة يوسف في الانتخابات الحزبية على الزعامة يوم 27 مارس... ليغدو أول شخص غير أبيض، وأول مسلم، يُنتخَب «وزيراً أول» (رئيس وزراء) لاسكوتلندا منذ استحداث المنصب عام 1999. وتقبّل يوسف مقاليد المنصب في مراسم نظمت في ملعب مريفيلد الكبير في العاصمة إدنبره.


مقالات ذات صلة

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

العالم شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

أعلنت شرطة لندن، الثلاثاء، توقيف رجل «يشتبه بأنه مسلّح» اقترب من سياج قصر باكينغهام وألقى أغراضا يعتقد أنها خراطيش سلاح ناري إلى داخل حديقة القصر.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

قال قصر بكنغهام وصناع شاشة جديدة من المقرر استخدامها خلال مراسم تتويج الملك تشارلز الأسبوع المقبل إن الشاشة ستوفر «خصوصية مطلقة» للجزء الأكثر أهمية من المراسم، مما يضمن أن عيون العالم لن ترى الملك وهو يجري مسحه بزيت. فالشاشة ثلاثية الجوانب ستكون ساترا لتشارلز أثناء عملية المسح بالزيت المجلوب من القدس على يديه وصدره ورأسه قبل وقت قصير من تتويجه في كنيسة وستمنستر بلندن في السادس من مايو (أيار) المقبل. وقال قصر بكنغهام إن هذه اللحظة تاريخيا كان ينظر إليها على أنها «لحظة بين الملك والله» مع وجود حاجز لحماية قدسيته.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

قدّم رئيس هيئة «بي بي سي» ريتشارد شارب، أمس الجمعة، استقالته بعد تحقيق وجد أنه انتهك القواعد لعدم الإفصاح عن دوره في ترتيب قرض لرئيس الوزراء آنذاك بوريس جونسون. وقال شارب، «أشعر أن هذا الأمر قد يصرف التركيز عن العمل الجيد الذي تقدّمه المؤسسة إذا بقيت في المنصب حتى نهاية فترة ولايتي». تأتي استقالة شارب في وقت يتزايد التدقيق السياسي في أوضاع «بي بي سي».

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

أكد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»، اليوم (الثلاثاء)، أنه يتعين على البريطانيين القبول بتراجع قدرتهم الشرائية في مواجهة أزمة تكاليف المعيشة التاريخية من أجل عدم تغذية التضخم. وقال هيو بيل، في «بودكاست»، إنه مع أن التضخم نجم عن الصدمات خارج المملكة المتحدة من وباء «كوفيد19» والحرب في أوكرانيا، فإن «ما يعززه أيضاً جهود يبذلها البريطانيون للحفاظ على مستوى معيشتهم، فيما تزيد الشركات أسعارها ويطالب الموظفون بزيادات في الرواتب». ووفق بيل؛ فإنه «بطريقة ما في المملكة المتحدة، يجب أن يقبل الناس بأن وضعهم ساء، والكف عن محاولة الحفاظ على قدرتهم الشرائية الحقيقية».

«الشرق الأوسط» (لندن)
«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

قدّم نائب رئيس الوزراء البريطاني، دومينيك راب، استقالته، أمس، بعدما خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّه تنمّر على موظفين حكوميين. وفي نكسة جديدة لرئيس الوزراء ريشي سوناك، خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّ راب، الذي يشغل منصب وزير العدل أيضاً، تصرّف بطريقة ترقى إلى المضايقة المعنوية خلال تولّيه مناصب وزارية سابقة. ورغم نفيه المستمر لهذه الاتهامات، كتب راب في رسالة الاستقالة الموجّهة إلى سوناك: «لقد طلبتُ هذا التحقيق، وتعهدتُ الاستقالة إذا ثبتت وقائع التنمّر أياً تكن»، مؤكّداً: «أعتقد أنه من المهم احترام كلمتي». وقبِل سوناك هذه الاستقالة، معرباً في رسالة وجهها إلى وزيره السابق عن «حزنه الشديد»، ومشيداً بسنوات خدمة

«الشرق الأوسط» (لندن)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.