الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
TT

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد. فكل الأمم السابقة كان لها صيامها الخاص، فمنهم من يصوم لبلوغ حالة من الشفافية الروحية التي تسمح له بالاتصال بالمعبود، أو للابتعاد عن المحرمات، أو إرضاء الله وطلب بركاته. وهناك من يصوم إثر حدث جلل أو فجيعة أو احتفالاً بذكرى أو حالة حزن.
كان بعض الناس يمتنعون عن تناول الطعام والشراب؛ اعتقاداً منهم بأن الإجابات الصحيحة عمّا يشغلهم لن تأتي من معدة ممتلئة. وكان المنجّمون (المتنبئون) يصومون طويلاً لاستثارة الطاقات الكامنة لاستشراف رؤىً جلية. وقد أجريت دراسات مهمة بهذا الخصوص خلصت إلى أن الصوم أنفع للعقل والبدن. ولذا، فغاية الصوم التقوى، سواءً أكان فردياً أم جماعياً. والوقاية هي حفظ الإنسان مما يؤذيه ويضره.
طابع الصوم يغيّر رتابة الحياة. ويجبر المرء على قطع عاداته اليومية بفرض التزامات مختلفة يحكمها جدول زمني مختلف وصارم. وبهذا، سيجد المرء نفسه يواجه يقينه ويراجع محيطه متسلّحاً بقدرته على التحمل ومتحلياً بالصبر.
طقس الصوم من أقدم الطقوس البشرية الروحية، تمارسه الشعوب بطرق وأشكال مختلفة. ولاحظت غير دراسة أن حمية الإنسان الغذائية تقوم أساساً على الصوم من جانب. ومن جانب آخر فقبل أن يعرف الإنسان الزراعة لم يكن بمقدوره التحكم في أكله ووجباته. ولذا كان الصوم هو الثابت ووفر الطعام هو الطارئ.
يقول «أبو الطب» الإغريقي أبقراط: «إنما نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل»، وقال أيضاً: «إنك حين تمرض وتأكل فإنك بذلك تطعم المرض». والصوم كان العلاج الذي يقدّمه الفيلسوف والمؤرّخ بلوتارخ بدلاً من الدواء. وكان القبول في مدرسة العالِم الجليل فيثاغورس يتطلب الصوم 40 يوماً. أما العرب فكانوا يصومون أيام 13 و14 و15 من كل شهر.
وفي عهد الفراعنة، كان الصوم يبدأ مع طلوع الشمس حتى المغيب. وتراوحت مدّته ما بين ثلاثة أيام و70 يوماً، كان يُمنع خلالها الأكل والشرب والجماع. ويخضع خدّام المعبد لصيام صارم طوال 70 يوماً، تبدأ بأسبوع بلا ماء، ويستمرّ بأكل الخضراوات فقط وشرب الماء.
وعند متبعي الفلسفة الطاوية، هو الامتناع عن السمك واللحم والحليب والبيض، خلال فترات الصلاة والتأمل. وفي مملكة سبأ القديمة باليمن، كان الناس يصومون شهراً في السنة للتقرب من «سين» إله القمر، ويختمون الصيام بالاحتفال والذبائح والصدقات.
عند اليهود، يكون الصوم إلزامياً فقط في يوم كيبور (الغفران) وهو اليوم الذي نزل فيه النبي موسى من سيناء للمرة الثانية ومعه ألواح الشريعة، حين أعلن أن الرب غفر لليهود خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي، ويستمر ذلك الصوم 26 ساعة، وهو «أقدس أيام الأعياد والشعائر الدينية اليهودية».
ولديهم أيضاً طقوس أخرى للصيام، منها الصوم 6 أيام منذ شروق الشمس إلى غروبها. وخلالها يتقشفون ويُحجمون عن الأكل والشرب والجماع والاستحمام وتغيير الملابس والتعطر وغسل الأسنان والعمل وارتداء الأحذية. وفي العصر الحديث، أضيف التدخين وسياقة السيارة وألعاب الكومبيوتر على المحرّمات.
وهناك الصوم إحياء لذكرى؛ كصيام «غشت» و«جداليا» و«إستير». وأما في الصيام الأربعيني أو الموسوي فيصوم المتديّنون منهم 40 يوماً. والغايات من تلك الصيامات المتنوّعة التكفير عن الذنوب وطلب الرحمة والشكر على النعمة والتوبة وفك الأحزان التي تصيبهم جرّاء الهزائم في الحروب وغارات الجراد، وغير ذلك.
لدى المسيحيين يُعَد الصوم مناسبة فرح؛ لأن الإنسان فيه ينتصر على الشهوات والخطيئة، ويتقرب إلى الله طلباً للمغفرة وتحقيق الأماني، وإيماناً بيوم الحساب. وفي ممارسته فعل إماتة للنفس في سبيل بلوغ التواضع.
لا مواعيد ثابتة لصيام المسيحيين، كل كنيسة تحدد أوقاتها لرعاياها. ويعود هذا الاختلاف إلى الخلافات القديمة بين الكنائس، إلا أن ثمة صومين أساسيين، هما الصوم الصغير (نحو 40 يوماً) قبل عيد الميلاد، والصوم الكبير (نحو 50 يوماً) قبل عيد الفصح أو القيامة.
يمارَس الصوم لدى غالبية الطوائف المسيحية بالامتناع عن الطعام منذ منتصف الليل وحتى بعد منتصف النهار. وعند الإفطار لا يُسمح بتناول الطعام الدسم والأطعمة الحيوانية ومنتجاتها كالألبان ومشتقاتها، ولحوم الطيور وبيضها. وثمّة من يتّبع حمية قاسية فلا يتناول الصائمون سوى الخضار والحشائش المشوية.
وهناك جهات تسمح بأكل السمك. ومن الصائمين من يكتفي بالإحجام عن المأكولات التي يشتهونها عادة كما عن الإساءة إلى الآخرين. وعليه، لا قوانين صارمة للصيام في المسيحية، فكل حسب نواياه، وهو ما أجازته فيما بعد الكنيسة البروتستانتية. وهناك صيام السيدة (العذراء) في منتصف شهر أغسطس (آب). وهناك بعض الأفراد ممن يمسكون يومين في الأسبوع، كالأربعاء والجمعة، للتكفير عن الذنوب وإراحة الجسد من أوساخ الأطعمة الدسمة.
تجاوز الصوم في البوذية الإمساك عن الأكل والشرب إلى الصوم عن العمل، فالصوم هو جوهر التعبد. وقد اشتهر به بوذا الذي قال: «إذا أردت لروحك أن ترتقي فابتعد عن متعة الجسد». وتفرض التعاليم البوذية صوم «اليوبوزاتا»، وهو 4 أيام من كل شهر قمري، 1 و9 و15 و22 بالتوافق مع منازل القمر الأربع. ويُمنع خلالها أي عمل ما عدا التأمل.
ويقع أهم يوم للصوم في عيد «فيساخ»، بأول يوم يكتمل فيه القمر في شهر مايو (أيار) أو يونيو (حزيران)، وفي هذا اليوم، يحتفلون بذكرى ميلاد بوذا وتنويره ووفاته. وأما شعائره فتتراوح بين الراحة التأملية والصوم والكرنفالات. ويبقى الجنس والكحول وأكل اللحوم من المحظورات.
ويهدف البوذيون من خلاله إلى خلق نوع من الانضباط للمساعدة على التأمل واكتساب صحة جيدة؛ إذ إنه يساعد على كبح جماح الشهوة الجسدية التي تدفع إلى الملذات الدنيا وترمي بالبشر في مهاوي أمراض الجسد.
ويوجد في الهندوسية تقاليد زهد شديد، وأشهرها ما يمارسه «السادو» الذين يصومون حتى يصبحوا كالهياكل العظمية. وكان المهاتما غاندي من أنصار هذا النوع من الصوم. وقد قال: «لا أستطيع الاستغناء عن الصيام، كما لا أستطيع الاستغناء عن عيني. وكما ترى بالعين العالم الخارجي، ترى بالصيام العالم الداخلي».
ولدى أتباع هذه الديانة طقوس عدة في الصيام تختلف باختلاف الإله المتّبع واختلاف المناطق الجغرافية. ففي جنوب الهند يصومون من شروق الشمس إلى مغربها. ويُسمح بشرب السوائل. أما المناطق الشمالية فالمسموح فيها تناول الفاكهة والحليب فقط. وهناك ما يسمّى «صيام الفصول» وفيه يمتنعون عن تناول الطعام من غروب الشمس إلى شروقها لمدة 9 أيام في بداية كل فصل. وثمة من يصوم حسب الإله، فأتباع الإله «شيفا» يصومون الاثنين، وأتباع الإله «فيشنو» يصومون الخميس.
الإيزيديون يصومون 3 أيام، من الثلاثاء حتى الخميس. ويبدأ الصوم بالامتناع عن الطعام عند شروق الشمس ويأكلون بعد المغيب. وكان رجال الدين القدماء يمسكون ثلاثة أيام متتالية ولا يفطرون إلا في يوم العيد الذي يسمى «عيد ئيزي». وأما «صوم خودان» فهو خاص بالأولياء والنسّاك، ومن أراد ذلك من العامة وبعض الفقراء من أصحاب النذور. والصوم عند الإيزيديين نوعان: صوم عامة الناس، وصوم النخبة (رجال الدين)، ويعفى منه الأطفال والمعوّقون عقلياً والمرضى. ويستمرّ صوم النخبة، وهو اختياري، أغلب أيام السنة بما فيها أربعينيتَي الشتاء والصيف.
الصوم في القرآن الكريم مكتوبٌ على الأمم من قبل أمة الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. ويمتد الصوم طوال شهر رمضان بين استبانتي نشوء هلال القمر. ويبدأ الإمساك كل يوم مع الفجر والإفطار بعد مغيب الشمس. ولا يُحرّم أي نوع من أنواع الطعام الحلال. وينتظر المسلمون حلول رمضان كل سنة كضيف عزيز بسرور وشوق، ويتجهزون له. حيث لسيد الشهور عاداته وتقاليده وطقوسه وآدابه وفنونه. وهذه تختلف وتتشابه على امتداد العالم الإسلامي.
ففي مصر تنتشر الفوانيس، وهي عادة تعود للعصر الفاطمي، حيث كان العسكر يحملون الشموع لإضاءة الطريق للخليفة المعز لدين الله في أول رمضان. وفي السودان حين يثبت هلال رمضان تبدأ احتفالية «الزفة». وخلاله يجددون أواني المطبخ ويتبادل النساء إفطار البيوت، بينما يتناول معظم الرجال وجبة الإفطار أمام البيوت لمشاركتها مع عابري السبيل.
وفي دول الخليج العربي تُمَدّ موائد الرحمن حول المساجد، وينتشر الشباب في الطرقات لتوزيع الإفطار على العابرين عند الأذان. وفي أذربيجان، تنتشر «حقائب البركات» التي تحتوي على مبالغ مالية يضعها أهل الخير. ويحرص المسلمون في الكاميرون على عدم غلق أبواب البيوت طوال الشهر استعداداً لاستقبال أي صائم أدركه الأذان قبل الوصول إلى بيته، فيدخل للإفطار والتعارف مع إخوانه. وفي تايلاند، يقدّم طعام الإفطار للغرباء المحتاجين، ولا يقتصر تقديمه على أفراد العائلة.
وفي العراق، يدرج في شهر رمضان لعب «المحيبس»، وهي لعبة شعبية تراثية يعود تاريخها إلى الدولة العباسية.
وتركيا تستقبل شهر رمضان بفرح، فتعج شوارع مدنها بالناس، وتضيء المساجد مآذنها فيما يسمى بـ«المحيا» الذي يمتد من صلاة المغرب وحتى بزوغ الشمس. ويكون إفطار اليوم الأول في بيوت الجدات.
في المغرب، وفي اليوم السابع والعشرين من رمضان الذي تحلّ فيه «ليلة القدر»، يبدأ صيام الأطفال وتتخلّله تقاليد لتشجيع النشء الجديد على تحمّل الصوم. وفي إندونيسيا، تبدأ مراسم رمضان بقرع «البدوق». وتمنح الحكومة إجازة للطلاب في أول أسبوع. ويعود الإندونيسيون لممارسة طقس الاستحمام «بادوسان»، بغية الاستعداد للصوم والصلاة. وهي عادة كرّسها المبشّرون الأوائل بتعاليم الإسلام في جاوة.
في الهند، يرتدون الطاقية ويحيون تقليداً تراثياً يعود لأيام الإمبراطورية المغولية المسلمة، ويجوبون الأحياء فجراً لإيقاظ المسلمين على السحور. وفيما بعد أصبحت ممارسة هذا التقليد منوطة بـ«المسحراتي» في كثير من الدول. وفي ماليزيا تقوم الحكومات بتنظيف الشوارع. وفي الشيشان يزورون قبور أحبتهم. وفي اليمن يطلون المنازل، وفي سوريا عادة «التكريزة» لوداع شهر شعبان. وفي بلاد كثيرة يسمونها «الشعبنة». وأما وداع رمضان في الأردن فيُعرف بـ«التوحيش»، وفي موريتانيا يحلقون شعورهم.
إن شعيرة الصوم تحمل في مضامينها الكثير؛ فهي عبادة، وتجربة روحية وجسدية وفكرية تُكسب المؤمن سمواً وصفاءً وضبطاً للنفس، من خلال الامتناع الذي يطهّرها والإمساك الذي يعلو بالجسد. فالصوم يهذّب الروح بحرمانها مدة من الزمن من بعض ملذات الحياة، للارتقاء بها.
- كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.