الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
TT

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد. فكل الأمم السابقة كان لها صيامها الخاص، فمنهم من يصوم لبلوغ حالة من الشفافية الروحية التي تسمح له بالاتصال بالمعبود، أو للابتعاد عن المحرمات، أو إرضاء الله وطلب بركاته. وهناك من يصوم إثر حدث جلل أو فجيعة أو احتفالاً بذكرى أو حالة حزن.
كان بعض الناس يمتنعون عن تناول الطعام والشراب؛ اعتقاداً منهم بأن الإجابات الصحيحة عمّا يشغلهم لن تأتي من معدة ممتلئة. وكان المنجّمون (المتنبئون) يصومون طويلاً لاستثارة الطاقات الكامنة لاستشراف رؤىً جلية. وقد أجريت دراسات مهمة بهذا الخصوص خلصت إلى أن الصوم أنفع للعقل والبدن. ولذا، فغاية الصوم التقوى، سواءً أكان فردياً أم جماعياً. والوقاية هي حفظ الإنسان مما يؤذيه ويضره.
طابع الصوم يغيّر رتابة الحياة. ويجبر المرء على قطع عاداته اليومية بفرض التزامات مختلفة يحكمها جدول زمني مختلف وصارم. وبهذا، سيجد المرء نفسه يواجه يقينه ويراجع محيطه متسلّحاً بقدرته على التحمل ومتحلياً بالصبر.
طقس الصوم من أقدم الطقوس البشرية الروحية، تمارسه الشعوب بطرق وأشكال مختلفة. ولاحظت غير دراسة أن حمية الإنسان الغذائية تقوم أساساً على الصوم من جانب. ومن جانب آخر فقبل أن يعرف الإنسان الزراعة لم يكن بمقدوره التحكم في أكله ووجباته. ولذا كان الصوم هو الثابت ووفر الطعام هو الطارئ.
يقول «أبو الطب» الإغريقي أبقراط: «إنما نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل»، وقال أيضاً: «إنك حين تمرض وتأكل فإنك بذلك تطعم المرض». والصوم كان العلاج الذي يقدّمه الفيلسوف والمؤرّخ بلوتارخ بدلاً من الدواء. وكان القبول في مدرسة العالِم الجليل فيثاغورس يتطلب الصوم 40 يوماً. أما العرب فكانوا يصومون أيام 13 و14 و15 من كل شهر.
وفي عهد الفراعنة، كان الصوم يبدأ مع طلوع الشمس حتى المغيب. وتراوحت مدّته ما بين ثلاثة أيام و70 يوماً، كان يُمنع خلالها الأكل والشرب والجماع. ويخضع خدّام المعبد لصيام صارم طوال 70 يوماً، تبدأ بأسبوع بلا ماء، ويستمرّ بأكل الخضراوات فقط وشرب الماء.
وعند متبعي الفلسفة الطاوية، هو الامتناع عن السمك واللحم والحليب والبيض، خلال فترات الصلاة والتأمل. وفي مملكة سبأ القديمة باليمن، كان الناس يصومون شهراً في السنة للتقرب من «سين» إله القمر، ويختمون الصيام بالاحتفال والذبائح والصدقات.
عند اليهود، يكون الصوم إلزامياً فقط في يوم كيبور (الغفران) وهو اليوم الذي نزل فيه النبي موسى من سيناء للمرة الثانية ومعه ألواح الشريعة، حين أعلن أن الرب غفر لليهود خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي، ويستمر ذلك الصوم 26 ساعة، وهو «أقدس أيام الأعياد والشعائر الدينية اليهودية».
ولديهم أيضاً طقوس أخرى للصيام، منها الصوم 6 أيام منذ شروق الشمس إلى غروبها. وخلالها يتقشفون ويُحجمون عن الأكل والشرب والجماع والاستحمام وتغيير الملابس والتعطر وغسل الأسنان والعمل وارتداء الأحذية. وفي العصر الحديث، أضيف التدخين وسياقة السيارة وألعاب الكومبيوتر على المحرّمات.
وهناك الصوم إحياء لذكرى؛ كصيام «غشت» و«جداليا» و«إستير». وأما في الصيام الأربعيني أو الموسوي فيصوم المتديّنون منهم 40 يوماً. والغايات من تلك الصيامات المتنوّعة التكفير عن الذنوب وطلب الرحمة والشكر على النعمة والتوبة وفك الأحزان التي تصيبهم جرّاء الهزائم في الحروب وغارات الجراد، وغير ذلك.
لدى المسيحيين يُعَد الصوم مناسبة فرح؛ لأن الإنسان فيه ينتصر على الشهوات والخطيئة، ويتقرب إلى الله طلباً للمغفرة وتحقيق الأماني، وإيماناً بيوم الحساب. وفي ممارسته فعل إماتة للنفس في سبيل بلوغ التواضع.
لا مواعيد ثابتة لصيام المسيحيين، كل كنيسة تحدد أوقاتها لرعاياها. ويعود هذا الاختلاف إلى الخلافات القديمة بين الكنائس، إلا أن ثمة صومين أساسيين، هما الصوم الصغير (نحو 40 يوماً) قبل عيد الميلاد، والصوم الكبير (نحو 50 يوماً) قبل عيد الفصح أو القيامة.
يمارَس الصوم لدى غالبية الطوائف المسيحية بالامتناع عن الطعام منذ منتصف الليل وحتى بعد منتصف النهار. وعند الإفطار لا يُسمح بتناول الطعام الدسم والأطعمة الحيوانية ومنتجاتها كالألبان ومشتقاتها، ولحوم الطيور وبيضها. وثمّة من يتّبع حمية قاسية فلا يتناول الصائمون سوى الخضار والحشائش المشوية.
وهناك جهات تسمح بأكل السمك. ومن الصائمين من يكتفي بالإحجام عن المأكولات التي يشتهونها عادة كما عن الإساءة إلى الآخرين. وعليه، لا قوانين صارمة للصيام في المسيحية، فكل حسب نواياه، وهو ما أجازته فيما بعد الكنيسة البروتستانتية. وهناك صيام السيدة (العذراء) في منتصف شهر أغسطس (آب). وهناك بعض الأفراد ممن يمسكون يومين في الأسبوع، كالأربعاء والجمعة، للتكفير عن الذنوب وإراحة الجسد من أوساخ الأطعمة الدسمة.
تجاوز الصوم في البوذية الإمساك عن الأكل والشرب إلى الصوم عن العمل، فالصوم هو جوهر التعبد. وقد اشتهر به بوذا الذي قال: «إذا أردت لروحك أن ترتقي فابتعد عن متعة الجسد». وتفرض التعاليم البوذية صوم «اليوبوزاتا»، وهو 4 أيام من كل شهر قمري، 1 و9 و15 و22 بالتوافق مع منازل القمر الأربع. ويُمنع خلالها أي عمل ما عدا التأمل.
ويقع أهم يوم للصوم في عيد «فيساخ»، بأول يوم يكتمل فيه القمر في شهر مايو (أيار) أو يونيو (حزيران)، وفي هذا اليوم، يحتفلون بذكرى ميلاد بوذا وتنويره ووفاته. وأما شعائره فتتراوح بين الراحة التأملية والصوم والكرنفالات. ويبقى الجنس والكحول وأكل اللحوم من المحظورات.
ويهدف البوذيون من خلاله إلى خلق نوع من الانضباط للمساعدة على التأمل واكتساب صحة جيدة؛ إذ إنه يساعد على كبح جماح الشهوة الجسدية التي تدفع إلى الملذات الدنيا وترمي بالبشر في مهاوي أمراض الجسد.
ويوجد في الهندوسية تقاليد زهد شديد، وأشهرها ما يمارسه «السادو» الذين يصومون حتى يصبحوا كالهياكل العظمية. وكان المهاتما غاندي من أنصار هذا النوع من الصوم. وقد قال: «لا أستطيع الاستغناء عن الصيام، كما لا أستطيع الاستغناء عن عيني. وكما ترى بالعين العالم الخارجي، ترى بالصيام العالم الداخلي».
ولدى أتباع هذه الديانة طقوس عدة في الصيام تختلف باختلاف الإله المتّبع واختلاف المناطق الجغرافية. ففي جنوب الهند يصومون من شروق الشمس إلى مغربها. ويُسمح بشرب السوائل. أما المناطق الشمالية فالمسموح فيها تناول الفاكهة والحليب فقط. وهناك ما يسمّى «صيام الفصول» وفيه يمتنعون عن تناول الطعام من غروب الشمس إلى شروقها لمدة 9 أيام في بداية كل فصل. وثمة من يصوم حسب الإله، فأتباع الإله «شيفا» يصومون الاثنين، وأتباع الإله «فيشنو» يصومون الخميس.
الإيزيديون يصومون 3 أيام، من الثلاثاء حتى الخميس. ويبدأ الصوم بالامتناع عن الطعام عند شروق الشمس ويأكلون بعد المغيب. وكان رجال الدين القدماء يمسكون ثلاثة أيام متتالية ولا يفطرون إلا في يوم العيد الذي يسمى «عيد ئيزي». وأما «صوم خودان» فهو خاص بالأولياء والنسّاك، ومن أراد ذلك من العامة وبعض الفقراء من أصحاب النذور. والصوم عند الإيزيديين نوعان: صوم عامة الناس، وصوم النخبة (رجال الدين)، ويعفى منه الأطفال والمعوّقون عقلياً والمرضى. ويستمرّ صوم النخبة، وهو اختياري، أغلب أيام السنة بما فيها أربعينيتَي الشتاء والصيف.
الصوم في القرآن الكريم مكتوبٌ على الأمم من قبل أمة الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. ويمتد الصوم طوال شهر رمضان بين استبانتي نشوء هلال القمر. ويبدأ الإمساك كل يوم مع الفجر والإفطار بعد مغيب الشمس. ولا يُحرّم أي نوع من أنواع الطعام الحلال. وينتظر المسلمون حلول رمضان كل سنة كضيف عزيز بسرور وشوق، ويتجهزون له. حيث لسيد الشهور عاداته وتقاليده وطقوسه وآدابه وفنونه. وهذه تختلف وتتشابه على امتداد العالم الإسلامي.
ففي مصر تنتشر الفوانيس، وهي عادة تعود للعصر الفاطمي، حيث كان العسكر يحملون الشموع لإضاءة الطريق للخليفة المعز لدين الله في أول رمضان. وفي السودان حين يثبت هلال رمضان تبدأ احتفالية «الزفة». وخلاله يجددون أواني المطبخ ويتبادل النساء إفطار البيوت، بينما يتناول معظم الرجال وجبة الإفطار أمام البيوت لمشاركتها مع عابري السبيل.
وفي دول الخليج العربي تُمَدّ موائد الرحمن حول المساجد، وينتشر الشباب في الطرقات لتوزيع الإفطار على العابرين عند الأذان. وفي أذربيجان، تنتشر «حقائب البركات» التي تحتوي على مبالغ مالية يضعها أهل الخير. ويحرص المسلمون في الكاميرون على عدم غلق أبواب البيوت طوال الشهر استعداداً لاستقبال أي صائم أدركه الأذان قبل الوصول إلى بيته، فيدخل للإفطار والتعارف مع إخوانه. وفي تايلاند، يقدّم طعام الإفطار للغرباء المحتاجين، ولا يقتصر تقديمه على أفراد العائلة.
وفي العراق، يدرج في شهر رمضان لعب «المحيبس»، وهي لعبة شعبية تراثية يعود تاريخها إلى الدولة العباسية.
وتركيا تستقبل شهر رمضان بفرح، فتعج شوارع مدنها بالناس، وتضيء المساجد مآذنها فيما يسمى بـ«المحيا» الذي يمتد من صلاة المغرب وحتى بزوغ الشمس. ويكون إفطار اليوم الأول في بيوت الجدات.
في المغرب، وفي اليوم السابع والعشرين من رمضان الذي تحلّ فيه «ليلة القدر»، يبدأ صيام الأطفال وتتخلّله تقاليد لتشجيع النشء الجديد على تحمّل الصوم. وفي إندونيسيا، تبدأ مراسم رمضان بقرع «البدوق». وتمنح الحكومة إجازة للطلاب في أول أسبوع. ويعود الإندونيسيون لممارسة طقس الاستحمام «بادوسان»، بغية الاستعداد للصوم والصلاة. وهي عادة كرّسها المبشّرون الأوائل بتعاليم الإسلام في جاوة.
في الهند، يرتدون الطاقية ويحيون تقليداً تراثياً يعود لأيام الإمبراطورية المغولية المسلمة، ويجوبون الأحياء فجراً لإيقاظ المسلمين على السحور. وفيما بعد أصبحت ممارسة هذا التقليد منوطة بـ«المسحراتي» في كثير من الدول. وفي ماليزيا تقوم الحكومات بتنظيف الشوارع. وفي الشيشان يزورون قبور أحبتهم. وفي اليمن يطلون المنازل، وفي سوريا عادة «التكريزة» لوداع شهر شعبان. وفي بلاد كثيرة يسمونها «الشعبنة». وأما وداع رمضان في الأردن فيُعرف بـ«التوحيش»، وفي موريتانيا يحلقون شعورهم.
إن شعيرة الصوم تحمل في مضامينها الكثير؛ فهي عبادة، وتجربة روحية وجسدية وفكرية تُكسب المؤمن سمواً وصفاءً وضبطاً للنفس، من خلال الامتناع الذي يطهّرها والإمساك الذي يعلو بالجسد. فالصوم يهذّب الروح بحرمانها مدة من الزمن من بعض ملذات الحياة، للارتقاء بها.
- كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».