هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
TT

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ. ومن ثمّ، ليس كلّ الناس على استعدادٍ لقبول تطفّل الآخرين، ولو أتى هذا التطفّل في صورة المسعى الصادق الرامي إلى اكتشاف الغنى المرصود في قدس الأقداس، أي في أعماق الذات المحصَّنة بأسوارٍ شتّى من الحماية الشرعيّة.
ومع ذلك، لا نستطيع أن نهرب من ضرورات التعبير عن ذاتيّتنا أمام الآخرين، لا سيّما في مجتمعاتنا المعاصرة التي أضحت تتميّز بالتعدّديّة الشاملة، سواء في الأعراق والمنابت أو في المذاهب والتيّارات أو في الأديان والطوائف. يتجاور الناسُ المختلفون في جميع حقول الحياة الاجتماعيّة في مدن التلاقي المسكونيّ كباريس ولندن ونيويورك وساوباولو ونيودلهي وشنغهاي وموسكو وأبيدجان والرياض ودبي والقاهرة وبيروت. الشعور الأوّل الذي ينتابني حين يلاقيني الآخر المختلف أنّه يروم أن يستقرئ العلامات التي تُنبئه بما تنطوي عليه هويّتي الذاتيّة. بيد أنّني، حين أباشر الإفصاح، أحسّ أنّ بعضاً من التردّد يصيبني ويصيبه. يُربكني التردّد، إذ يبدو لي أنّ ما يمكنني أن أقوله ليس كلّه قابلاً الإبلاغَ الواضحَ والاقتبالَ الهنيّ. يُربكه التردّد، إذ إنّه لا يرغب في الإصغاء إلى حقائقَ تخالف مخالفةً فجّةً صارخةً فاضحةً ما استوى عليه كيانُه الذاتيّ من قوامٍ فكريٍّ ومضمونٍ اقتناعيٍّ مكتمل العدّة.
أقول هذا كلّه لأبيّن للقارئ أنّ الإنسان، على وجه العموم، لا يستحسن أن تتحوّل حقيقتُه أو الحقائق التي يعتصم بها إلى مسألةِ أخذٍ وردٍّ. أصلُ هذا الامتناع تصويرُ الحقيقة الذاتيّة في صورة الهيكل المقدّس الذي لا يجوز على الإطلاق مسُّه أو تدنيسُه. والحال أنّ مَن ينظر في حقائق الإنسان يتبيّن له أنّها كلّها، أو على الأقلّ معظمها، آتيةٌ من تقاليد وأعرافٍ وعاداتٍ وطرائق تفكير ومناهج تصرّف انقلبت على توالي الأيّام إلى كتلةٍ اقتناعيّةٍ صلبةٍ، من بعد أن كانت مسألةَ استحسانٍ واستئناسٍ واختيارٍ حرٍّ. أفيَحقّ للإنسان أن يكبّل ذاتَه بأفكارٍ كانت في أصلها سبُلاً حرّةً من التعبير عن اختباراتٍ استحسنها بعضُ الناس وأعرض عنها بعضُهم الآخر؟
إذا أردنا أن نغوص على معاني هذه الحقيقة، كان لا بدّ لنا من أن نستجلي مسارها التكوّنيّ التاريخيّ الذي أصابها منذ نواة النشأة الأولى. هذا مبحثٌ خطيرٌ يستهوي العقل المتّقد. ولكن هناك سبيلٌ آخر يفي بالغرض المقصود، عنيتُ به تفصيل أنواع الحقائق التي يؤيّدها الناسُ. أعتقد أنّ معظم العارفين يُجمعون على القول بأربع حقائق أو أربع دوائر من الحقائق الأساسيّة: دائرة الحقائق العلميّة، ودائرة الحقائق الأخلاقيّة، ودائرة الحقائق الجماليّة، ودائرة الحقائق الاعتقاديّة. واضحٌ أنّ مثل هذا التمييز يفترض أنّ العقل الذي يعتمده قد سبق فانفتح انفتاحاً سليماً على وعود الحداثة الفكريّة. ذلك أنّ العقل الحديث، منذ الفيلسوف الفرنسيّ دِكارت (1596-1650)، ما برح يعتمد معايير الفصل والجمع بحسب مقولات التطلّب البحثيّ العلميّ الموضوعيّ. إذا كان عقلُنا ما فتئ مقيّداً بسلاسل التصوّرات الشموليّة الجامدة القديمة، فإنّه يعجز عن إدراك أسباب هذا التمييز.
لنبدأ بالدائرة الأولى. لا يختلف اثنان في اعتماد الحقيقة العلميّة مرجعاً في وصف الظواهر والوقائع والأحداث التي تُفرج عنها الطبيعة الخارجيّة والطبيعة البيولوجيّة. يعلم الجميع أنّ حقائق العلم تنهض على فرضيّاتٍ مستترةٍ لا يفطن إليها الإنسانُ من الوهلة الأولى. يدعو الفلاسفة هذه الفرضيّات بالنماذج المعرفيّة الناظمة (باراديغم). لكلّ حقبة معرفيّة نموذجُها المهيمن. يجوز لنا أن نناقش هذه الفرضيّة، ولكن لا يجوز لنا أن نناقش ما أفرجت عنه من معادلاتٍ جعلت حياتنا العمليّة، في زمنٍ من الأزمنة، تستوي على هيئةٍ نافعةٍ في العلوم الرياضيّة والفيزيائيّة والبيولوجيّة والصحّيّة والمختبريّة والاقتصاديّة، وما إلى ذلك.
تنفرد الدائرة الثانية باشتمالها على المفاهيم والمقولات التي يستقيم بها الوجود الإنسانيّ برمّته. ذلك أنّ الأخلاق مرآة الحضارة الإنسانيّة، إذا فسدت فسدت الأرض، وإذا ارتقت نَضجت مسالكُ الناس وتصرّفاتهم وأفعالهم. لا يخفى على أحد أنّ الناس، بعد أن بلغوا مرتبةً متقدّمةً من الرقيّ الأخلاقيّ، أعرضوا عن ممارساتٍ وحشيّةٍ كانوا يرتاحون إليها في العصر الحجريّ، من مثل أكل لحوم البشر وتقدمة القرابين البشريّة على مذابح الشعوذات والخرافات. أعرف أنّ الأنظمة السياسيّة المؤدلَجة في القرن الحادي والعشرين تأكل لحومنا بطريقة مختلفة. ولكن ما يعنيني أنّ العقل الحديث لم يعد يسوّغ نظريّاً مثل الممارسات الوحشيّة هذه، لا سيّما في الشرعات الأخلاقيّة العظميات، كشرعة حقوق الإنسان الكونيّة. هل يمكننا، والحال هذه، أن نناقش حقائق الأخلاق؟ يبدو لي أنّ مجال المباحثة الوحيد الممكن يشتمل على التطبيقات، لا على النظريّات. معنى ذلك أنّ كلّ المجتمعات الراهنة تؤيّد الحقائق الأنتروبولوجيّة التي تنطوي عليها قيَم الكرامة والحرّيّة والمساواة والعدالة والأخوّة وسواها من المثُل العليا. غير أنّنا نختلف في تطبيقها تطبيقاً عمليّاً في سياق تراثاتنا المحلّيّة.
أمّا الدائرة الثالثة، فينشط فيها النقاش على جميع المستويات النظريّة والعمليّة. ذلك بأنّ الجماليّات خاضعةٌ للنظر الاستنسابيّ في أصولها النظريّة وتطبيقاتها العمليّة. غير أنّ ما يريح الناس في هذه الدائرة ينشأ من براءتها الاستراتيجيّة. أعني بذلك أنّ الاختلاف في الجماليّات لا يُفضي إلى الاحتراب. ولكنّه أيضاً لا يُنشئ اجتماعاً صلباً، إذ نادراً ما يلتئم الناسُ حول نظريّةٍ جماليّةٍ. يتناقش الناسُ بيُسرٍ في موسيقى موتسارت وبيتهوفن، ولا يفعلون ذلك في عقائد أديانهم. ذلك لأنّ الحقائق الجماليّة تذوّقيّةٌ لا تؤثّر في مسلك الإنسان ومصيره، في حين أنّ حقائق الغيب تؤثّر في وجود الإنسان برمّته، ولو أنّ طابعها التذوّقيّ مرتبطٌ بالاختبارات الإيمانيّة الصوفيّة الجوّانيّة.
أصِل إلى الدائرة الرابعة، وهي الأخطر على الإطلاق، إذ إنّ الحقائق الاعتقاديّة تقوم مقام النفس الجوهريّة التي تحيي الكائن الإنسانيّ في أعمق أعماق وجدانه. ولكنّها أيضاً حقائق الاشتباك الكونيّ الأعظم لما تنطوي عليه من شحنٍ انفعاليٍّ وطاقةٍ استنهاضيّةٍ غالباً ما تنفجر عنفاً واقتتالاً. كيف يمكننا، والحال هذه، أن نخفّف من غلواء الحقائق الوجدانيّة هذه حتّى تقوم مقامَها الصحيح من غير تجاوزٍ أو استعلاء؟ يدرك الجميع أنّ الإنسان، بسببٍ من بنية وعيه، يحتاج إلى اختبارٍ في التعالي يخرج به إلى آفاق اللامحدود، بحيث تتنوّع مستويات الاعتقاد. قد يختلف الناس في تعيين هويّة هذا اللامحدود، غير أنّهم يتوقون إليه على مناهج متباينة ومراتب شتّى.
ما يهمّني في هذه المسألة أنّ حقائق الاعتقاد الغيبيّ على وجه الحصر تتملّك وعيَ الإنسان تملّكاً يجعله عاجزاً عن الانفلات منها حتّى في سبيل الاستيضاح. لذلك تصعب المباحثة في طبيعة هذه الحقائق وجدارتها وصوابها وملاءمتها وصلاحيتها وخصوبتها الأخلاقيّة، لا على المستوى النظريّ ولا على المستوى العمليّ. البرهان على ذلك أنّ الأنظومات الدِّينيّة المبنيّة على الاعتقاد الغيبيّ لم تتغيّر تغيّراً جوهريّاً منذ نشأتها حتّى اليوم. جرت بعضُ التحسينات اللغويّة في تحديث التعبير عن العقائد. يدلّنا الثبات التاريخيّ هذا على أنّ الناس المؤمنين لم يناقشوا مناقشةً جذريّةً في حقائق معتقداتهم الدِّينيّة. جلُّ ما فعلوه أنّهم، في أفضل الأحوال، استوضح بعضُهم بعضاً المسائلَ الشائكة في علم اللاهوت اليهوديّ، وعلم اللاهوت المسيحيّ، وعلم الكلام الإسلاميّ، والروحيّات الآسيويّة على اختلافها، وسائر الشعائريّات الأفريقيّة والأمِيركيّة الجنوبيّة، وما سواها. النقاش الدِّينيّ الحقّ جرى خارج الأنظومة الدِّينيّة. أعتقد أنّ أضمن السبُل التي تهب الإنسانيّة فرَص التسالم الكونيّ أن يَعمد أهل الدائرة الرابعة إلى الاحترام العقائديّ المتبادل، شرطَ ألّا تتضمّن عقائدُهم انتهاكاً فاضحاً أو مخالفةً صريحةً للمبادئ الأساسيّة التي تنهض عليها شرعة حقوق الإنسان الكونيّة.
وعليه، أعتقد أنّ الإنسان يسلك مسلكاً مختلفاً كلّما تغيّر مستوى الكلام على الحقيقة: في الحقيقة العلميّة لا جدال على الإطلاق؛ في الحقيقة الأخلاقيّة مناقشةٌ تقويميّةٌ مفتوحةٌ على مستوى التطبيق؛ في الحقيقة الفنّيّة استئناسٌ ووصالٌ حرٌّ وتقابسٌ استنسابيٌّ، في الحقيقة الاعتقاديّة احترامٌ متبادلٌ تحت رعاية الشرعة الحقوقيّة الكونيّة. أمّا شروط الحوار، فصالحةٌ في جميع الدوائر. في كتاب «الحقيقة والتسويغ» (Wahrheit und Rechtfertigung)، يشترط الفيلسوف الألمانيّ يُرغن هابرماس (1929-....) في الحوار الموضوعيّ المنصف أن يكون علنيّاً، مفتوحاً، شاملاً جميعَ الأطراف المعنيّة من غير استثناء؛ وأن يمنح المتحاورين الحقوق الفرديّة عينها والفرَص التواصليّة نفسها من أجل التعبير الحرّ عن الرأي؛ وأن ينشط بمعزل عن أيّ ضربٍ من ضروب العنف الصريح أو الضمنيّ، فلا يخضع إلّا لقوّة الدليل الأفضل الناعمة؛ وأن يستند إلى خلفيّةٍ أخلاقيّةٍ تتّصف بالنزاهة والصدق والإعراض عن كلّ ألوان التقيّة والمواربة والخداع.
يبقى أن ننظر في طبيعة الحقيقة التي يرتاح إليها الناسُ خارج الدائرة العلميّة. أعتقد أنّه من الجائز أن نطلق عليها عبارة الحقيقة الوجوديّة. يذهب الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور (1913-2005) إلى أنّ الحقيقة الوجوديّة، في جوهرها، بلاغيّةٌ، مجازيّةٌ استعاريّةٌ، فِساريّةٌ تأويليّةٌ. أمّا السبب الذي يسوّغ مثل هذا التعريف، فيعثر عليه في القول إنّ هذه الحقيقة لا يمكن أن تتحوّل إلى قضيّةٍ منطقيّةٍ تصيب الموضوع إصابةً علميّةً قاتلةً، على غرار الحقيقة العلميّة. الحقيقة الوجوديّة تستند إلى الإبداع الدلاليّ الذي يستثمر كنوز المعنى، مُستخرجاً من اللغة الصوَر البيانيّة الجديدة التي تناسب اندفاق الحياة وجيشان الوجدان. ومن ثمّ، لا يكتفي الإبداع الدلاليّ بوصف الواقع الحياتيّ وصفاً مختلفاً، بل يَعمد بالأحرى إلى التعبير عن حالٍ جديدةٍ تَنهض عليها الأمور من غير أن تُدركها المعاينةُ الحسّيّةُ المباشرةُ. ذلك أنّ أسلوب الاستعارة الناشط في مثل هذا الإبداع إنّما يكتشف ما يُبدعه ويجد ما يبتكره، على حدّ قول ريكور. ليس إبداع المعنى في الحقيقة الوجوديّة خلقاً من عدمٍ، وليس العثور على المعنى تكراراً في جمودٍ. خلاصة القول إنّ الحقيقة الوجوديّة تستند إلى الإبداع الدلاليّ في أسلوب الاستعارة الحيّة، وإنّ هذا الإبداع يصوّر الواقع في هيئاتٍ جديدةٍ لم نألفها، ولكن من غير أن يفرض عليه ما لا يطيق احتمالَه. ومن ثمّ، تتجلّى الحقيقة الوجوديّة في الوقت عينه أمينةً على الواقع المفتوح الملهِم، وعصيّةً على الواقع المغلق المفقِر. شرط الشروط في تجديد الخطاب الدِّينيّ أن يعامل الإنسانُ حقائقَه الاعتقاديّة معاملتَه الحقيقةَ الوجوديّةَ هذه.
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

«سودان بديل» في مصر يمنح أبناءه ملاذاً آمناً... ويثير حساسيات

TT

«سودان بديل» في مصر يمنح أبناءه ملاذاً آمناً... ويثير حساسيات

حضور سوداني لافت في الشوارع والميادين (الشرق الأوسط)
حضور سوداني لافت في الشوارع والميادين (الشرق الأوسط)

حين كانت الشمس تهبط في الأفق لتأذن لليل بالقدوم، بعد نهار صيفي ملتهب أشار الشاب السوداني مصعب حمدان (33 عاماً) بيده إلى «ميكروباص» متوجه نحو نهاية شارع السودان النابض بالحياة والصخب بالجيزة، ليكتشف عقب صعوده أن السائق والركاب جميعهم من بني وطنه.

لم يُبد مصعب (عامل النظافة بإحدى الشركات الخاصة) بحي المهندسين، أي إيحاء بالتعجب جراء هذا الانتشار اللافت لـ«الجلباب والتوب» بالأحياء المصرية، التي تكرست ملاذاً لآلاف النازحين الفارين من الحرب.

مقهى شعبي بالجيزة يضم تجمعاً سودانياً (الشرق الأوسط)

بعدما أسدل الليل ستاره؛ وصل مصعب إلى شارع «الملكة» المكتظ بالوجوه السمراء، ليجد لافتات المتاجر المضيئة وقد أضيأت بعبارات مثل «سنتر أم درمان لأجود اللحوم السودانية»، ومقهى «ملتقى أحباب السودان»، ومخبز «باب جنقرين للخبز البلدي السوداني»، و«مطعم القراصة» و«سلطان الكيف» التي تقع جميعها في نطاق جغرافي ضيق.

«نحن نعيش في مجتمع سوداني متكامل بمصر، لا ينقصنا أي شيء سوى المساحات الفسيحة وظلال الأشجار الوارفة»، وفق ما يقول مصعب لـ«الشرق الأوسط».

متجر لبيع الملابس السودانية (الشرق الأوسط)

الحضور السوداني الكثيف في أحياء مصرية، عكسته أرقام رسمية أشارت إلى وصول أكثر من نصف مليون نازح سوداني إلى الأراضي المصرية منذ اندلاع الحرب بين الجيش و«قوات الدعم السريع» العام الماضي، بينما أكد سوادنيون تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» أن «الأعداد الحقيقية تفوق هذا الرقم بكثير، لا سيما بعد عبور أعداد كبيرة منهم بشكل غير نظامي عبر الصحراء على مدار الأشهر الماضية».

وتشكل الجالية السودانية في مصر من المقيمين والنازحين الجدد أكثر من نصف عدد المهاجرين بها، والذين يصفهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأنهم «ضيوف مصر»، وتقدر حكومته عددهم بنحو 9 ملايين شخص بينهم أكثر من 5 ملايين سوداني.

انتشار لافت للمحال السودانية بمحافظة الجيزة المصرية (الشرق الأوسط)

وتسبب التدفق الكبير في عدد السودانيين منذ اندلاع الحرب الأخيرة في بلادهم، في الضغط على مكاتب المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين، في القاهرة والإسكندرية، حيث يتم استقبال نحو 3 آلاف طلب لجوء يومي، مما رفع عدد السودانيين المسجلين لدى المفوضية 5 أضعاف عمّا كان عليه سابقاً، ليبلغ اليوم 300 ألف. ويمثل هذا الرقم 52 في المائة من مجمل عدد اللاجئين المسجلين في مصر لدى المفوضية في أبريل (نيسان) الماضي.

تجمُّع سوداني على أحد المقاهي (الشرق الأوسط)

ولهذا السبب فإن المفوضية تتوقع «ازدياد الطلب على التسجيل بشكل مستمر في الأشهر المقبلة بسبب الوضع المضطرب في السودان، مع عدم وجود آفاق فورية لسلام مستدام في الأفق»، مقدرةً عدد السودانيين الذي ينتظرون التسجيل بنحو ربع مليون شخص.

تكتلات

شوارع العاصمة المصرية التي يبدو عليها الهدوء نهاراً، بفعل الحر القائظ، يملأها الصخب كلما اقترب قرص الشمس الذهبي من المغيب، حيث يجري تلطيفها بالمياه قبل أن تتمدد إليها كراسي المقاهي، التي يفضلها سودانيون للقاء بعضهم في ملاذهم الجديد المكتظ بأحياء مثل: «الملك فيصل»، وأرض اللواء، وإمبابة بالجيزة، وحدائق المعادي بالقاهرة، والعاشر من رمضان بالشرقية، وبعض مناطق الإسكندرية، وأسوان، حيث فرضت المتاجر والمطاعم والمخابز وصالونات الحلاقة ومحال بيع الملابس والعطارة واللحوم السودانية نفسها بشكل متزايد، وهو ما وُصف في وسائل الإعلام المصرية بـ«التكتلات السودانية».

لا تخطئ العين الوجود السوداني اللافت في الشوارع (الشرق الأوسط)

لا تخطئ العين الملامح السودانية والثوب التقليدي في الشوارع الرئيسية والفرعية بالقاهرة والجيزة، حيث يوجد الباعة السودانيون ومواطنوهم ممن اقتحموا مجالات عمل كانت مقتصرة على مصريين لعقود، من بينها قيادة سيارات الأجرة والميكروباص داخل الأحياء الشعبية؛ وهو ما عدّه مصعب «أمراً معبِّراً عن سرعة اندماج الوافدين الجدد في تفاصيل الحياة في مصر».

ومن فرط حضور «الزول»، (كلمة معناها الرجل في اللهجة السودانية)، أصبح معتاداً استخدام المفردات السودانية في المتاجر والشوارع والحارات ووسائل المواصلات، لكنَّ محمد عبد المجيد سائق إحدى سيارات الأجرة، التي تعمل في شارع السودان بالجيزة يتقن اللهجة العامية المصرية، ولذلك يجد بعض المصريين صعوبة في معرفة كونه سودانياً.

جانب من إقبال سودانيين على مفوضية اللاجئين بالقاهرة (مفوضية اللاجئين)

لقد تكيف عبد المجيد صاحب الوجه الدائري الباسم مع تفاصيل القيادة في الشوارع القاهرية، فبات يحفظ أسماء ومواقع المحطات عن ظهر قلب، مؤكداً أنه في أوقات متكررة تكون معظم حمولة سيارته من الركاب السودانيين الذين يندمج معهم بتشغيل أغانيهم الفلكلورية: «تشعر كأنك في فرح وليس في مواصلات عامة».

عبد المجيد ليس السائق السوداني الوحيد على خط «شارع السودان» بالجيزة، لكنه واحد من بين 30 سائقاً يحترفون السير في الزحام ويهربون منه إلى شوارع ضيقة بديلة.

السائق السوداني محمد عبد المجيد (الشرق الأوسط)

في أحد أروقة حي فيصل الشهير بالجيزة، كان صاحب متجر العطارة السوداني الستيني عادل محمد، الذي عكست عيناه طمأنينة ترسخت على مدى السنوات الخمس التي قضاها في مصر، ينتظر زبائنه المعتادين في المساء.

محل جزارة «أم درمان» لبيع اللحوم (الشرق الأوسط)

«رغم أن معظم زبائني من السودانيين المقيمين هنا فإن جيراني من المصريين يشترون منّي بهارات الطعام والزيت والسمن والسكر»، وفق قوله لـ«الشرق الأوسط». موضحاً أن «سبب اكتظاظ المنطقة بالسودانيين يعود إلى تفضيل كثير منهم الإقامة بجوار أقاربهم وعائلاتهم لتقليل الشعور بالغربة، وهو ما خلق مجتمعاً سودانياً متكاملاً هنا». مؤكداً أن «السودانيين يتمركزون في الجيزة، بدايةً من أول محيط شارع فيصل الشهير حتى نهايته لمسافة تقترب من 10 كيلومترات».

ملاذ بديل

لم تكن مواقع «التواصل الاجتماعي» بعيدة عن رصد هذا الوجود السوداني الكثيف في مصر، حيث كرست بعض مقاطع الفيديو فكرة وجود «سودان بديل في البلاد، ومن بينها تعليق مؤثّر سوداني تندَّر على الوجود المكثف لأبناء وطنه بحي فيصل بالجيزة قائلاً: «إذا كنت سودانياً تعيش في الخارج وترغب في رؤية أهلك وبلدك ما عليك سوى الذهاب إلى الجيزة المصرية».

وهو ما يؤكده مصعب، معتبراً أن «مراكز التعليم والمتاجر والمطاعم والمقاهي السودانية على اختلاف أشكالها وأنوعها؛ قد فرضت وجودها على الشارع المصري، حتى بات الخبز السوداني الأبيض ملمحاً مهماً في متاجر مصرية عديدة».

مَخبز سوداني (الشرق الأوسط)

وتشعر زينب مصطفى، وهي سيدة خمسينية قَدِمت إلى مصر من الولاية الشمالية بالسودان، بـ«الأمان» وهي تجلس داخل شقة فسيحة بمنطقة «اللبيني» بحي الهرم (غرب القاهرة) رفقة أبنائها وأختها وبناتها.

مكثت زينب فترة طويلة في مصر من دون زوجها الستيني الذي «لحق بها أخيراً بعد تمكنه من دخول مصر بشكل غير نظامي عبر الصحراء، وهو يبحث راهناً توفيق أوضاعه ليتمكن من العمل في أي وظيفة».

ويعد عشرات آلاف السودانيين الفارين من نار الحرب في السودان، مصر «الملاذ الأفضل» راهناً، لامتلاكها مقومات الحياة والبنية التحتية، ومن بينهم فاطمة حسن التي تمكنت من دخول مصر عبر مسارات التهريب الوعرة أخيراً.

سودانيات في محطة مترو «السودان» بالقاهرة (الشرق الأوسط)

خشيت فاطمة على بناتها من «الاغتصاب على يد الميليشيات المسلحة بالسودان»، وقررت دخول مصر بشكل غير نظامي، وفق ما قالته لـ«الشرق الأوسط».

الحر الشديد والعطش أنهكا فاطمة وبناتها الثلاث على مدار ساعات طويلة لم يذقن فيها طعم الراحة أو النوم، قبل أن تنجح في الوصول إلى الجيزة لتنضم إلى شقيقتها التي سبقتها إلى هناك منذ عدة أشهر، حسب قولها.

ورغم الإعلان عن توقيف حافلات لنازحين سودانيين دخلوا البلاد بطريقة غير نظامية في شهر يونيو (حزيران) الماضي، فإن عبد الله قوني المقيم في حي المعادي بالقاهرة منذ 15 عاماً ويقصده الكثير من النازحين السودانيين الجدد للمساعدة في توفير مسكن أو فرصة عمل، يؤكد «وصول نحو 11 حافلة من أسوان تقل سودانيين يومياً كلهم من المهاجرين غير النظاميين الذين يدفع الواحد منهم نحو 500 دولار أميركي للمهربين نظير نقله إلى مصر»، وهو ما تؤكده فاطمة كذلك.

تعليم

ومن بين أهم ملامح «السودان البديل» رؤية التلاميذ من أصحاب البشرة السمراء وهم في طريقهم من وإلى المدارس السودانية التي زاد عددها بشكل مطّرد خلال الأشهر الأخيرة، مما دعا السلطات المصرية إلى إغلاق بعضها من أجل «تقنين الأوضاع».

ويقدِّر سامي الباقر، المتحدث باسم نقابة المعلمين السودانية، عدد المدارس السودانية في مصر بنحو 300 مدرسة للتعليم الأساسي والمتوسط.

متجر في منطقة فيصل التي تشهد تكتلاً كبيراً للجالية السودانية (الشرق الأوسط)

ووجهت السفارة السودانية في القاهرة التي نقلت مقرها قبل سنوات من جاردن سيتي إلى حي الدقي، الشكر إلى الحكومة المصرية على تعاونها في إنجاح امتحانات الشهادة الابتدائية السودانية في شهر يونيو (حزيران) الماضي، عبر 6 مراكز تعليمية تابعة للسفارة، مشيرةً في بيان لها إلى «مشاركة 7 آلاف طالب إلى جانب أكثر من 400 مراقب من المعلمين».

وجامعياً قدّر أيمن عاشور، وزير التعليم العالي المصري، عدد الطلاب السودانيين الذين التحقوا العام الماضي بالجامعات المصرية بأكثر من 10 آلاف طالب.

وكان من بين النازحين السودانيين عدد كبير من الفنانين الذين استقروا في القاهرة على غرار الممثلة إيمان يوسف، والمخرج أمجد أبو العلا والمخرج محمد الطريفي والممثل نزار جمعة، الذين يرتحلون إلى الخارج لحضور فعاليات فنية ثم يعودون من جديد إلى مصر.

وبينما يلجأ السودانيون الذين دخلوا البلاد بشكل نظامي إلى توثيق عقود إيجار شققهم السكنية بمكاتب الشهر العقاري إلى جانب تسجيل أبنائهم في المدارس للحصول على إقامات قانونية في مصر، فإنه لا يوجد أمام النازحين غير النظاميين سوى «التصالح مع وزارة الداخلية المصرية» عبر إنجاز استمارة «تقنين وضع» ودفع رسوم تبلغ ألف دولار، أو التقدم إلى مفوضية اللاجئين والحصول على بطاقة «طالب لجوء».

حساسيات مصرية

مع هيمنة «الجلباب» و«التوب» السودانيين على شوارع وحارات مصرية، وتداول مقاطع لتجمعات سودانية كبيرة في القاهرة عبر «السوشيال ميديا»، والقلق من أخبار طرد مستأجرين مصريين لتسكين سودانيين بدلاً منهم؛ ظهرت بوادر «الحساسية» من «التكتلات السودانية» في مصر.

كما أثارت خرائط رفعها سودانيون لبلادهم تضم مثلث «حلايب وشلاتين»، (أقصى جنوب مصر مع الحدود السودانية)، جدلاً واسعاً، مما دفع السلطات المصرية أخيراً إلى اتخاذ إجراءات ضد هؤلاء النازحين وصلت إلى ترحيل بعضهم إلى بلادهم، وفق مصادر مصرية.

وزاد من وتيرة التحفظات، الإبلاغ عن إجراء أسر سودانية عمليات ختان لبناتهم في مصر، وهو ما واجهه مسؤولون مصريون بالتشديد على ضرورة تفعيل القانون المصري الذي يُجرِّم ختان الإناث.

ودخل إعلاميون مصريون على خط انتقادات «التكتلات السودانية»؛ وكان أبرزهم قصواء الخلالي، التي أعربت عن «قلقها» إزاء وجود تكتلات للاجئين في مناطق شعبية، معتبرةً هذا الأمر «خطيراً للغاية». فيما حذرت الإعلامية عزة مصطفى من «سيطرة بعض اللاجئين على مناطق كاملة من القاهرة، بعد مغادرة مصريين لها عقب رفع إيجارات الشقق». مشيرةً إلى «تداعيات تحمل مصر فاتورة ضخمة جراء استضافة اللاجئين على أراضيها».

وكغيره من عشرات المصريين الذين يعدّون أنفسهم «متضررين من الوجود السوداني المكثف»، لم يُخفِ السباك الستيني عيد محمود، صاحب الجسد النحيل تذمره من «هيمنة النازحين على المربع السكني الذي كان يقيم فيه بالقرب من جامعة القاهرة».

يقول عيد بنبرة يملأها الاستياء: «أجبرتني مالكة الشقة على إخلائها لتسكين أسرة سودانية بدلاً مني».

وبعدما كان عيد الذي يعول 3 فتيات يدفع 1600 جنيه مصري (الدولار الأميركي يساوي نحو 48 جنيهاً) بدل إيجار شهري خلال السنوات الماضية فإن مالكة العقار تحصل راهناً على 6 آلاف جنيه من المستأجرين السودانيين الجدد. وهو ما دفع مصريين إلى «دعوة الحكومة إلى التدخل حفاظاً على السِّلْم المجتمعي».

واضطر عيد إلى البحث عن شقة أخرى في منطقة توصف بأنها «متواضعة»، بـ3 آلاف جنيه.

وتفاعل برلمانيون مصريون مع دعوات تقنين أوضاع اللاجئين، من بينهم سهام مصطفى عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، التي شددت في تصريحات تلفزيونية على أن «كل دول العالم ترفض دخول أي لاجئ أو مهاجر دون أوراق إثبات إقامته بهدف حصر أعداد الأجانب حفاظاً على الأمن القومي».

جانب من إقبال سودانيين على مفوضية اللاجئين بالقاهرة (مفوضية اللاجئين)

مضيفةً: «إن مصر تستضيف ملايين الأجانب وتوفر لهم الخدمات بنفس الأسعار المقدمة للمواطنين دون زيادة، رغم الأزمة الاقتصادية الحالية».

وأغلقت السلطات المصرية أخيراً عدداً من المدارس السودانية بداعي عدم استيفاء الشروط. وطالبت سفارة السودان بالقاهرة، أصحاب المدارس، بـ«التزام ثمانية شروط، وضعتها مصر لتقنين أوضاع المدارس المغلقة»، وقالت إنها «تُجري اتصالات مستمرة لحل الأزمة».

ويرى عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية السفير صلاح حليمة، أن «الإجراءات المصرية الأخيرة التي هدفت إلى تقنين أوضاع السودانيين في البلاد «طبيعية جداً في ظل ازدياد أعدادهم بالبلاد»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «تنظيم اللجوء والإقامة مع طلب زيادة المساعدات من المنظمات الدولية والإقليمية يعدان الخيار الأفضل راهناً للقاهرة».

فيما يؤكد محمد جبارة، أمين «العلاقات الخارجية» بجمعية الصداقة السودانية - المصرية، والمستشار الإعلامي السابق بسفارة الخرطوم في القاهرة، أن «التجمعات السودانية الكبيرة في الشوارع والميادين تثير حساسيات مجتمعية وأمنية بمصر». متهماً بعض أصحاب المدارس السودانية بالتسبب في إغلاقها، لا سيما بعد منح السلطات المصرية أكثر من مهلة لمطابقة المواصفات المحلية وتقنين الأوضاع.

إقبال لافت على مكتب مفوضية اللاجئين بالقاهرة (مفوضية اللاجئين)

وكشف عن «نية سفارة بلاده تنظيم مهرجان كبير بعنوان (شكراً مصر) كنوع من (رد الجميل) لاستضافتها جالية كبيرة من أبناء الوطن».

تخفيف الأعباء

بسبب الأزمة الاقتصادية، طالبت مصر المجتمع الدولي بدعمها في «تحمل أعباء اللاجئين». ورأى وزير الخارجية المصري السابق سامح شكري، عقب لقائه مدير عام المنظمة الدولية للهجرة إيمي بوب، أن الدعم الذي تتلقاه مصر من المجتمع الدولي «لا يتناسب مع ما تتحمله من أعباء، في ظل ما يعانيه الاقتصاد المصري من تبعات الأزمات العالمية.

وأطلقت الحكومة المصرية أخيراً عملية لحصر أعداد اللاجئين المقيمين على أراضيها، بهدف احتساب تكلفة استضافتهم، والوقوف على الأعباء المالية، في ظل أزمة اقتصادية تعانيها البلاد.

وطالبت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بمصر، في بيان في شهر أبريل الماضي، بالحصول على 175.1 مليون دولار لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً للاجئين السودانيين الذين فروا إلى مصر منذ منتصف أبريل 2023.

سودانيون بالقرب من شارع السودان الشهير بالجيزة (الشرق الأوسط)

وبينما يؤكد الخبير الاقتصادي المصري الدكتور مدحت نافع، تكبد مصر أعباء اقتصادية جراء استضافة هذا العدد الكبير، فإنه في الوقت نفسه يرى أنه «يمكن الاستفادة منهم، إذا قُننت أوضاعهم المادية وطرق عملهم واستثمار بعضهم في مصر».

ويقترح نافع في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» تحصيل أي رسوم تخص الوافدين بمصر بالدولار، ويرى أنه يوجد من بين المقيمين في مصر مستثمرون يقدمون فرصة لتعزيز وجود رؤوس الأموال وحركة الاقتصاد.

ويراهن مصعب في النهاية على تفهم كثير من المصريين للأوضاع الخطرة في السودان، وعلى الروابط المشتركة بين الشعبين، لاستيعاب «الضيوف الجدد»، مؤكداً أن الحساسيات التي تنشأ بين «أبناء وادي النيل» ليست سوى «سحابة صيف عابرة» ستزول بمجرد انتهاء الحرب وتحسن الأوضاع في بلاده.