هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
TT

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ. ومن ثمّ، ليس كلّ الناس على استعدادٍ لقبول تطفّل الآخرين، ولو أتى هذا التطفّل في صورة المسعى الصادق الرامي إلى اكتشاف الغنى المرصود في قدس الأقداس، أي في أعماق الذات المحصَّنة بأسوارٍ شتّى من الحماية الشرعيّة.
ومع ذلك، لا نستطيع أن نهرب من ضرورات التعبير عن ذاتيّتنا أمام الآخرين، لا سيّما في مجتمعاتنا المعاصرة التي أضحت تتميّز بالتعدّديّة الشاملة، سواء في الأعراق والمنابت أو في المذاهب والتيّارات أو في الأديان والطوائف. يتجاور الناسُ المختلفون في جميع حقول الحياة الاجتماعيّة في مدن التلاقي المسكونيّ كباريس ولندن ونيويورك وساوباولو ونيودلهي وشنغهاي وموسكو وأبيدجان والرياض ودبي والقاهرة وبيروت. الشعور الأوّل الذي ينتابني حين يلاقيني الآخر المختلف أنّه يروم أن يستقرئ العلامات التي تُنبئه بما تنطوي عليه هويّتي الذاتيّة. بيد أنّني، حين أباشر الإفصاح، أحسّ أنّ بعضاً من التردّد يصيبني ويصيبه. يُربكني التردّد، إذ يبدو لي أنّ ما يمكنني أن أقوله ليس كلّه قابلاً الإبلاغَ الواضحَ والاقتبالَ الهنيّ. يُربكه التردّد، إذ إنّه لا يرغب في الإصغاء إلى حقائقَ تخالف مخالفةً فجّةً صارخةً فاضحةً ما استوى عليه كيانُه الذاتيّ من قوامٍ فكريٍّ ومضمونٍ اقتناعيٍّ مكتمل العدّة.
أقول هذا كلّه لأبيّن للقارئ أنّ الإنسان، على وجه العموم، لا يستحسن أن تتحوّل حقيقتُه أو الحقائق التي يعتصم بها إلى مسألةِ أخذٍ وردٍّ. أصلُ هذا الامتناع تصويرُ الحقيقة الذاتيّة في صورة الهيكل المقدّس الذي لا يجوز على الإطلاق مسُّه أو تدنيسُه. والحال أنّ مَن ينظر في حقائق الإنسان يتبيّن له أنّها كلّها، أو على الأقلّ معظمها، آتيةٌ من تقاليد وأعرافٍ وعاداتٍ وطرائق تفكير ومناهج تصرّف انقلبت على توالي الأيّام إلى كتلةٍ اقتناعيّةٍ صلبةٍ، من بعد أن كانت مسألةَ استحسانٍ واستئناسٍ واختيارٍ حرٍّ. أفيَحقّ للإنسان أن يكبّل ذاتَه بأفكارٍ كانت في أصلها سبُلاً حرّةً من التعبير عن اختباراتٍ استحسنها بعضُ الناس وأعرض عنها بعضُهم الآخر؟
إذا أردنا أن نغوص على معاني هذه الحقيقة، كان لا بدّ لنا من أن نستجلي مسارها التكوّنيّ التاريخيّ الذي أصابها منذ نواة النشأة الأولى. هذا مبحثٌ خطيرٌ يستهوي العقل المتّقد. ولكن هناك سبيلٌ آخر يفي بالغرض المقصود، عنيتُ به تفصيل أنواع الحقائق التي يؤيّدها الناسُ. أعتقد أنّ معظم العارفين يُجمعون على القول بأربع حقائق أو أربع دوائر من الحقائق الأساسيّة: دائرة الحقائق العلميّة، ودائرة الحقائق الأخلاقيّة، ودائرة الحقائق الجماليّة، ودائرة الحقائق الاعتقاديّة. واضحٌ أنّ مثل هذا التمييز يفترض أنّ العقل الذي يعتمده قد سبق فانفتح انفتاحاً سليماً على وعود الحداثة الفكريّة. ذلك أنّ العقل الحديث، منذ الفيلسوف الفرنسيّ دِكارت (1596-1650)، ما برح يعتمد معايير الفصل والجمع بحسب مقولات التطلّب البحثيّ العلميّ الموضوعيّ. إذا كان عقلُنا ما فتئ مقيّداً بسلاسل التصوّرات الشموليّة الجامدة القديمة، فإنّه يعجز عن إدراك أسباب هذا التمييز.
لنبدأ بالدائرة الأولى. لا يختلف اثنان في اعتماد الحقيقة العلميّة مرجعاً في وصف الظواهر والوقائع والأحداث التي تُفرج عنها الطبيعة الخارجيّة والطبيعة البيولوجيّة. يعلم الجميع أنّ حقائق العلم تنهض على فرضيّاتٍ مستترةٍ لا يفطن إليها الإنسانُ من الوهلة الأولى. يدعو الفلاسفة هذه الفرضيّات بالنماذج المعرفيّة الناظمة (باراديغم). لكلّ حقبة معرفيّة نموذجُها المهيمن. يجوز لنا أن نناقش هذه الفرضيّة، ولكن لا يجوز لنا أن نناقش ما أفرجت عنه من معادلاتٍ جعلت حياتنا العمليّة، في زمنٍ من الأزمنة، تستوي على هيئةٍ نافعةٍ في العلوم الرياضيّة والفيزيائيّة والبيولوجيّة والصحّيّة والمختبريّة والاقتصاديّة، وما إلى ذلك.
تنفرد الدائرة الثانية باشتمالها على المفاهيم والمقولات التي يستقيم بها الوجود الإنسانيّ برمّته. ذلك أنّ الأخلاق مرآة الحضارة الإنسانيّة، إذا فسدت فسدت الأرض، وإذا ارتقت نَضجت مسالكُ الناس وتصرّفاتهم وأفعالهم. لا يخفى على أحد أنّ الناس، بعد أن بلغوا مرتبةً متقدّمةً من الرقيّ الأخلاقيّ، أعرضوا عن ممارساتٍ وحشيّةٍ كانوا يرتاحون إليها في العصر الحجريّ، من مثل أكل لحوم البشر وتقدمة القرابين البشريّة على مذابح الشعوذات والخرافات. أعرف أنّ الأنظمة السياسيّة المؤدلَجة في القرن الحادي والعشرين تأكل لحومنا بطريقة مختلفة. ولكن ما يعنيني أنّ العقل الحديث لم يعد يسوّغ نظريّاً مثل الممارسات الوحشيّة هذه، لا سيّما في الشرعات الأخلاقيّة العظميات، كشرعة حقوق الإنسان الكونيّة. هل يمكننا، والحال هذه، أن نناقش حقائق الأخلاق؟ يبدو لي أنّ مجال المباحثة الوحيد الممكن يشتمل على التطبيقات، لا على النظريّات. معنى ذلك أنّ كلّ المجتمعات الراهنة تؤيّد الحقائق الأنتروبولوجيّة التي تنطوي عليها قيَم الكرامة والحرّيّة والمساواة والعدالة والأخوّة وسواها من المثُل العليا. غير أنّنا نختلف في تطبيقها تطبيقاً عمليّاً في سياق تراثاتنا المحلّيّة.
أمّا الدائرة الثالثة، فينشط فيها النقاش على جميع المستويات النظريّة والعمليّة. ذلك بأنّ الجماليّات خاضعةٌ للنظر الاستنسابيّ في أصولها النظريّة وتطبيقاتها العمليّة. غير أنّ ما يريح الناس في هذه الدائرة ينشأ من براءتها الاستراتيجيّة. أعني بذلك أنّ الاختلاف في الجماليّات لا يُفضي إلى الاحتراب. ولكنّه أيضاً لا يُنشئ اجتماعاً صلباً، إذ نادراً ما يلتئم الناسُ حول نظريّةٍ جماليّةٍ. يتناقش الناسُ بيُسرٍ في موسيقى موتسارت وبيتهوفن، ولا يفعلون ذلك في عقائد أديانهم. ذلك لأنّ الحقائق الجماليّة تذوّقيّةٌ لا تؤثّر في مسلك الإنسان ومصيره، في حين أنّ حقائق الغيب تؤثّر في وجود الإنسان برمّته، ولو أنّ طابعها التذوّقيّ مرتبطٌ بالاختبارات الإيمانيّة الصوفيّة الجوّانيّة.
أصِل إلى الدائرة الرابعة، وهي الأخطر على الإطلاق، إذ إنّ الحقائق الاعتقاديّة تقوم مقام النفس الجوهريّة التي تحيي الكائن الإنسانيّ في أعمق أعماق وجدانه. ولكنّها أيضاً حقائق الاشتباك الكونيّ الأعظم لما تنطوي عليه من شحنٍ انفعاليٍّ وطاقةٍ استنهاضيّةٍ غالباً ما تنفجر عنفاً واقتتالاً. كيف يمكننا، والحال هذه، أن نخفّف من غلواء الحقائق الوجدانيّة هذه حتّى تقوم مقامَها الصحيح من غير تجاوزٍ أو استعلاء؟ يدرك الجميع أنّ الإنسان، بسببٍ من بنية وعيه، يحتاج إلى اختبارٍ في التعالي يخرج به إلى آفاق اللامحدود، بحيث تتنوّع مستويات الاعتقاد. قد يختلف الناس في تعيين هويّة هذا اللامحدود، غير أنّهم يتوقون إليه على مناهج متباينة ومراتب شتّى.
ما يهمّني في هذه المسألة أنّ حقائق الاعتقاد الغيبيّ على وجه الحصر تتملّك وعيَ الإنسان تملّكاً يجعله عاجزاً عن الانفلات منها حتّى في سبيل الاستيضاح. لذلك تصعب المباحثة في طبيعة هذه الحقائق وجدارتها وصوابها وملاءمتها وصلاحيتها وخصوبتها الأخلاقيّة، لا على المستوى النظريّ ولا على المستوى العمليّ. البرهان على ذلك أنّ الأنظومات الدِّينيّة المبنيّة على الاعتقاد الغيبيّ لم تتغيّر تغيّراً جوهريّاً منذ نشأتها حتّى اليوم. جرت بعضُ التحسينات اللغويّة في تحديث التعبير عن العقائد. يدلّنا الثبات التاريخيّ هذا على أنّ الناس المؤمنين لم يناقشوا مناقشةً جذريّةً في حقائق معتقداتهم الدِّينيّة. جلُّ ما فعلوه أنّهم، في أفضل الأحوال، استوضح بعضُهم بعضاً المسائلَ الشائكة في علم اللاهوت اليهوديّ، وعلم اللاهوت المسيحيّ، وعلم الكلام الإسلاميّ، والروحيّات الآسيويّة على اختلافها، وسائر الشعائريّات الأفريقيّة والأمِيركيّة الجنوبيّة، وما سواها. النقاش الدِّينيّ الحقّ جرى خارج الأنظومة الدِّينيّة. أعتقد أنّ أضمن السبُل التي تهب الإنسانيّة فرَص التسالم الكونيّ أن يَعمد أهل الدائرة الرابعة إلى الاحترام العقائديّ المتبادل، شرطَ ألّا تتضمّن عقائدُهم انتهاكاً فاضحاً أو مخالفةً صريحةً للمبادئ الأساسيّة التي تنهض عليها شرعة حقوق الإنسان الكونيّة.
وعليه، أعتقد أنّ الإنسان يسلك مسلكاً مختلفاً كلّما تغيّر مستوى الكلام على الحقيقة: في الحقيقة العلميّة لا جدال على الإطلاق؛ في الحقيقة الأخلاقيّة مناقشةٌ تقويميّةٌ مفتوحةٌ على مستوى التطبيق؛ في الحقيقة الفنّيّة استئناسٌ ووصالٌ حرٌّ وتقابسٌ استنسابيٌّ، في الحقيقة الاعتقاديّة احترامٌ متبادلٌ تحت رعاية الشرعة الحقوقيّة الكونيّة. أمّا شروط الحوار، فصالحةٌ في جميع الدوائر. في كتاب «الحقيقة والتسويغ» (Wahrheit und Rechtfertigung)، يشترط الفيلسوف الألمانيّ يُرغن هابرماس (1929-....) في الحوار الموضوعيّ المنصف أن يكون علنيّاً، مفتوحاً، شاملاً جميعَ الأطراف المعنيّة من غير استثناء؛ وأن يمنح المتحاورين الحقوق الفرديّة عينها والفرَص التواصليّة نفسها من أجل التعبير الحرّ عن الرأي؛ وأن ينشط بمعزل عن أيّ ضربٍ من ضروب العنف الصريح أو الضمنيّ، فلا يخضع إلّا لقوّة الدليل الأفضل الناعمة؛ وأن يستند إلى خلفيّةٍ أخلاقيّةٍ تتّصف بالنزاهة والصدق والإعراض عن كلّ ألوان التقيّة والمواربة والخداع.
يبقى أن ننظر في طبيعة الحقيقة التي يرتاح إليها الناسُ خارج الدائرة العلميّة. أعتقد أنّه من الجائز أن نطلق عليها عبارة الحقيقة الوجوديّة. يذهب الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور (1913-2005) إلى أنّ الحقيقة الوجوديّة، في جوهرها، بلاغيّةٌ، مجازيّةٌ استعاريّةٌ، فِساريّةٌ تأويليّةٌ. أمّا السبب الذي يسوّغ مثل هذا التعريف، فيعثر عليه في القول إنّ هذه الحقيقة لا يمكن أن تتحوّل إلى قضيّةٍ منطقيّةٍ تصيب الموضوع إصابةً علميّةً قاتلةً، على غرار الحقيقة العلميّة. الحقيقة الوجوديّة تستند إلى الإبداع الدلاليّ الذي يستثمر كنوز المعنى، مُستخرجاً من اللغة الصوَر البيانيّة الجديدة التي تناسب اندفاق الحياة وجيشان الوجدان. ومن ثمّ، لا يكتفي الإبداع الدلاليّ بوصف الواقع الحياتيّ وصفاً مختلفاً، بل يَعمد بالأحرى إلى التعبير عن حالٍ جديدةٍ تَنهض عليها الأمور من غير أن تُدركها المعاينةُ الحسّيّةُ المباشرةُ. ذلك أنّ أسلوب الاستعارة الناشط في مثل هذا الإبداع إنّما يكتشف ما يُبدعه ويجد ما يبتكره، على حدّ قول ريكور. ليس إبداع المعنى في الحقيقة الوجوديّة خلقاً من عدمٍ، وليس العثور على المعنى تكراراً في جمودٍ. خلاصة القول إنّ الحقيقة الوجوديّة تستند إلى الإبداع الدلاليّ في أسلوب الاستعارة الحيّة، وإنّ هذا الإبداع يصوّر الواقع في هيئاتٍ جديدةٍ لم نألفها، ولكن من غير أن يفرض عليه ما لا يطيق احتمالَه. ومن ثمّ، تتجلّى الحقيقة الوجوديّة في الوقت عينه أمينةً على الواقع المفتوح الملهِم، وعصيّةً على الواقع المغلق المفقِر. شرط الشروط في تجديد الخطاب الدِّينيّ أن يعامل الإنسانُ حقائقَه الاعتقاديّة معاملتَه الحقيقةَ الوجوديّةَ هذه.
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.