الحوار مع فارس يواكيم، متعة. فهو موسوعي الاهتمامات، عاش في بلدان عدة، وأبدع في الكتابة للإذاعة والتلفزيون والمسرح، كأنه يرى فيها وحدة متكاملة، كما عمل في الصحافة والإخراج والترجمة، وكان مديراً لإذاعة ألمانيا الناطقة بالعربية (DW). صديق لأسماء لامعة، سمحت له ذاكرته المتوقدة، أن تبقى صور تلك اللحظات حيّة في ذهنه، وقادراً على استحضارها. في جعبته أسرار وحكايات، بدأ بكتابتها مخصصاً للشخصيات التي واكبها والأحداث التي عاشها، صفحات مثيرة. كما أنه يحضّر كتاباً عن شوشو سيكشف حقائق تغيّر الصورة النمطية التي عرفت عنه، فضلاً عن كتاب يضمّ أجمل المسرحيات التي كتبها له.
كتب يواكيم أكثر من 30 مسرحية، بينها 12 لشوشو مثل «أخ يا بلدنا» و«خيمة الكركوز»، و«زوجة الفرّان» التي قبل أن تقدم للجمهور، توفي شوشو واحترق المسرح، و3 مسرحيات لصباح وهي: «العواصف» و«الفنون جنون» و«الأسطورة». كما كتب سبعة أفلام روائية، مصرية وشامية، قام بتمثيلها محمود ياسين ونيللي وعمر خورشيد وشوشو ودريد لحام ونهاد قلعي وغيرهم، منها «سيدتي الجميلة» و«عندما تغيب الزوجات» و«عشاق» و«فندق السعادة». إضافة إلى المسلسلات العربية والخليجية، وبرامج الأطفال، وأشهرها «افتح يا سمسم» الذي تربى عليه جيل بأكمله.
يقول عن شوشو الذي كتب له غالبية مسرحياته، «وُلد مسرحه بعدما طرده الفنان محمد شامل، مكتشفه، من برنامجه التلفزيوني حين تزوج ابنته رغماً عن إرادته، فصار صعلوكاً بلا عمل». عرض على صاحب سينما «شهرزاد»، أن يحوّل الصالة إلى مسرح، فوافق بعدما درس جدوى المشروع. وكان شوشو بحاجة إلى مال ليبدأ التنفيذ. أقرضه صديقه وجيه رضوان، الصحافي والإذاعي، مبلغاً ووعده أن يدعمه. «شوشو لا يعرف كيف يشغّل مسرحاً، فوجد الشخص المناسب لذلك: نزار ميقاتي الذي كان مخرجاً كبيراً بالإذاعة اللبنانية. ميقاتي رتّب المكان واختار العناصر التمثيلية وهيأ المسرح وسماه (المسرح الوطني). اختلف الرجلان بعد ذلك، وقد وقع نوع من الغيرة بينهما. الناس كانت تأتي لتتفرج على شوشو، والعامة لا تعرف أسماء المخرج أو المؤلف، وأحياناً لا يعنيهم اسم المسرحية، فالمتفرج يبحث عن النجم». لاحقاً صار اسم المسرح «مسرح شوشو». استقلّ نزار ميقاتي وأصبح مدير البرامج في الإذاعة، وشكّل فرقة مسرحية: «لكن الجمهور لم يأت بعدد كاف، إنه معتاد على البطل الشعبي».
يصف يواكيم، شوشو، بأنه «كان جباراً على المسرح، ضعيفاً أمام الكاميرا. يحتاج لسماع تصفيق الجمهور وضحكاته لكي يسلطن ويجود».
كانت فرقة «السيغال» في بيروت تقدّم عروض «الشونسونية»، أو ما يُسمّى «مسرح القوّالين»، أي مشاهد نقدية سياسية كوميدية. بدأته سيدة المجتمع إيفيت سرسق، بمشاهد باللغة الفرنسية، ثم انضم وسيم طبارة إلى فرقتها فأصبحت معظم الاسكتشات بالعربية وقليلها بالفرنسية. ولما صار فارس يواكيم كاتب العروض، صارت كلها بالعربية. وقد لقي هذا اللون من العروض المسرحية إقبالاً كبيراً، وكانت الرقابة تجيز له ما لا تجيزه لغيره. ومؤخراً نشر يواكيم على صفحته الفيسبوكية صورة لفيروز وهي تضحك أثناء حضورها واحدة من مسرحياته. يقول عنها: «كانت حريصة على حضور مسرح الشونسونية عند إيفيت سرسق. هي سيدة تحب الضحك كثيراً». أثناء الحرب، لجأ كثير من الفنانين اللبنانيين إلى الشام، ومن بينهم يواكيم. «قدمنا عروضاً مشابهة في حلب، وكان البرنامج يكتمل بعدنا بوصلة غناء يقدمها إيلي شويري. ذات ليلة طُلب إلينا أن يتغيّر البرنامج، فتقدم فرقة الشونسونية عرضها بعد الثانية عشرة. وعرفنا السبب عندما جاءت فيروز بعد منتصف الليل، وبرفقتها الأخوان رحباني وهدى حداد ونصري شمس الدين وفيلمون وهبي. فهمنا أنها طلبت تأخير موعد عرضنا كي يتسنى لها مشاهدته، بعدما تنهي حفلاً لها في قلعة حلب».
أما صباح «فعندها ترمومتر لا يخطئ. تعرف ما هي الأغنية التي ستضرب». حين سألها عن الأغنية التي تعتقد أنها ستروج في مسرحية «العواصف» التي كتبها لها يواكيم، أجابته «أخذوا الريح وأخذوا الليل»، وهذا بالفعل ما حصل. وفي «الفنون جنون» عرفت مسبقاً أن أغنية «زي العسل» لبليغ حمدي ستحتلّ الصدارة، برغم وجود أغانٍ أخرى رائعة مثل «ع الصورة» لفريد الأطرش. وفي «الأسطورة» توقّعت أن تنال أغنية «حِبّْ مرتك وبس» القدر الأكبر من الإعجاب. يعلق: «خبرتها طويلة ورهيبة، ولها أكثر من ألفي أغنية. فنانة شديدة الانضباط، تصل إلى البروفة قبل الجميع، ولا تتدخل أبداً في عمل الآخرين».
لكن يواكيم يقول «هربت من العمل مع صباح بعد (الأسطورة) بسبب فادي لبنان. لأنه يريد أن يعمل مخرجاً وملحناً وممثلاً ويرقص الدبكة. وهو يجيد الدبكة فقط. زعلت مني، لأنه كان زوجها آنذاك». يحزن لما آلت إليه حال صباح، بعدما كانت تملك عمارة تسكن فيها أيضاً مي عريضة، وهنري بركات. خسرتها ولجأت إلى فندق. «امرأة لا أكرم منها وقلب ولا أطيب».
أما شوشو فكان يحب الارتجال ويتقنه. حتى أثناء الكتابة، يطلب إضافات أو تغييرات. «كان يحب أن ينال الحصة الكبرى من ضحك الجمهور. لكنه يرضى أن يتولى الممثلات والممثلون الإضحاك ما دام هو غائباً عن الخشبة. وفي حال حضوره يسمح لهم بذلك أيضاً، شرط أن يبقى هو المتفوق».
يروي فارس يواكيم عن التعديلات في المسرحية خلال عروضها، أن «مسرحيات شكسبير التي نقرأها اليوم، هي النسخة الأخيرة من العروض التي كانت تقدم على المسرح. عند العرض يكتشف الفنانون والكاتب، من ردّ فعل الجمهور، مواطن الضعف، فيعملون على استدراكها».
ربطت فارس يواكيم أيضاً صداقة بالشاعر نزار قباني. وفي عام 1976 أقام نزار أمسية شعرية في دمشق جاء لحضورها نحو عشرة آلاف شخص، والقاعة تتسع لألف فقط. ظلّت الحشود في الخارج، فتزاحمت وتدافعت. «قرر نزار في أمسيته اللاحقة في حلب، وقد اصطحبني معه، أن يقيم الأمسية في ملعب لكرة القدم. كان شيئاً مذهلاً. لم أكن قد رأيت في حياتي أمسية شعرية يحضرها عشرون ألفاً». عند الثامنة مساء، أضيئت الأنوار مع دخول نزار، فأطلّ شامخاً أمام الجمهور المتحمس. «كان جريئاً. قرأ قصيدة (الخطاب) وفيها (كنت بعد الظهر في المقهى/ وكان المخبرون كالجراثيم/ على كلّ الفناجين وفي كل الصحون). وكان مثل هؤلاء موجوداً وسط الجمهور!».
ولد فارس يواكيم بالإسكندرية عام 1945، وعاد إلى بلده لبنان عام 1967 بعد تخرّجه في «المعهد العالي للسينما» بالقاهرة. «أدركت أنني مع المنافسة الكبيرة في مصر لن أجد فرصتي. عدت إلى بلدي وقد شحّت الأعمال السينمائية في القاهرة، وصار نجومها يأتون للعمل في لبنان بعد النكسة. سدّت في وجهي أبواب الإخراج، كلما عرضت على مُنتِج مشروعاً قال لي اكتب، نحتاج إلى سيناريوهات».
أفاد كثيراً من صحبة النجوم والمشاهير ونهل من تجاربهم، وعرف كثيرين بحكم عمله. ذات يوم في دمشق التقى عمر الشريف في فندق «ميريديان». «كنت أعرفه. واستفدت من تلك الفرصة وسألته: الشائع بين الناس أن أصولك تعود إلى زحلة، فما هي الحقيقة؟ فأجابني: أصل عائلتي، عائلة شلهوب، من هنا. الخبر من مصدر موثوق، ومع ذلك تعبتُ وأنا أشرح أن عائلة شلهوب دمشقية، وكان منها وزراء ونواب، وتنتمي إلى الروم الكاثوليك، أما شلهوب زحلة فموارنة». ومن الذين ثمة لغط حول أصولهم عبد السلام النابلسي. عائلته فلسطينية الجذور، ونزح أهله إلى عكار شمال لبنان حيث ولد، وذهب إلى مصر شاباً. «أرسله والده ليتعلم في الأزهر وأعطاه رسالة إلى خليل مطران ليعتني به، فطلب من الشاعر أن يقدّمه إلى الممثل الشهير جورج أبيض، وهكذا أصبح ممثلاً». وربما لا يعرف كثيرون أن النابلسي ضليع جداً بالفصحى ويجيد الفرنسية. أعطاه جورج أبيض دوراً تراجيدياً، وحين دخل إلى المسرح، صار المتفرجون يضحكون، فغضب منه أبيض لاعتقاده أنه يهرّج في مسرحية تراجيدية، لكنه أقسم له أنه نفّذ الدور كما طلب منه، غير أن الناس كانوا يضحكون بمجرد رؤيته.
عمل يواكيم في صحف عديدة في بداية حياته المهنية، قبل أن يبزغ نجمه في تلفزيون لبنان، عندما كتب برنامجه الأول «سهرة من الماضي». يروي أنه التقى المذيعة المصرية اللامعة ليلى رستم، وطلبت منه فكرة لبرنامج، وعرضتها على مدير التلفزيون فوافق، ونجح البرنامج واستمر عرضه لأكثر من سنتين في 52 حلقة. «كان جاري الأديب بولس سلامة، مقعداً بعد أن خضع لكثير من العمليات الجراحية. وكان يعرف نصف لبنان تقريباً. وحين كنتُ أحضّر حلقة جديدة من البرنامج، أتلقى منه تفاصيل عديدة عن ضيف الحلقة المقبلة. كنت أجمع المعلومات عن الضيف من الذين عرفوه، ومن الأرشيف». ويكمل: «حين ذهبنا نصوّر في المختارة تحضيراً لحلقة كمال جنبلاط، أخبرني أحد أهالي البلدة أن جنبلاط يكتب شعراً بالفرنسية. حين سألته حاول أن يتهرّب، لكنه أحضر حقيبة تشبه شنطة المدرسة فيها أوراق مكتوب عليها قصائد بالفرنسية. اختار إحداها وطلب مني أن أنسخها. رفضت، لأنني أريد أن أعرضها بخطه على التلفزيون، فنسخها بخط يده وأعطاني النسخة. وتذكّر أن قسماً من المشاهدين لا يعرف الفرنسية، فطلب ترجمتها إلى العربية لترافق النص الفرنسي».
بعد سنتين، أعد برنامجاً جديداً بعنوان «حديث الناس» لتقدمه ليلى رستم، يستعرض أحداث الأسبوع. ضيف الحلقة الأولى كان غسان تويني، حضر إلى الاستوديو قبل موعد البث بنصف ساعة، وبدأ يراجع الأسئلة مع ليلى رستم، وإذا بمكالمة من القصر الجمهوري تفيد بأن الرئيس سليمان فرنجية لا يريد أن يتحدث غسان في التلفزيون. حاول تويني الاتصال بالقصر الجمهوري لمعرفة السبب، دون جدوى. ونشر التفاصيل في اليوم التالي في جريدته «النهار». وبعد موافقة وزارة الإعلام، كانت علياء الصلح ضيفة الحلقة الثانية. «رغم أننا شرحنا لها ما نتعرض له من صعوبات، حين طُرح عليها السؤال البريء: هل كانت تحضر جلسات البرلمان أيام كان والدها رياض الصلح رئيساً للحكومة؟ قالت: (طبعاً. لكنه كان مجلساً نيابياً بامتياز، وليس كما هو الآن زريبة لأولاد العيل). لحظتها عرفت أنه قضي الأمر، وقلت للعاملين معي: العوض بسلامتكم. وفعلاً توقف البرنامج».
تنقل فارس يواكيم في أكثر من سبع مدن قبل استقراره في ألمانيا، حيث أصبح مديراً للقسم العربي من الإذاعة الألمانية. ألف كتباً ذات مضامين بحثية طريفة، من بينها «حكايات الأغاني» و«ظلال الأرز في وادي النيل» و«الإسلام في شعر المسيحيين» و«الأسراب الشامية في السماء المصرية». وهو مترجم أيضاً نقل عن الفرنسية والألمانية، عدة كتب بينها «الإسكندرية سراب» تأليف يواخيم سارتوريوس، و«عنف الديكتاتورية» لستيفان زفايغ. فهل أعطي يواكيم حقه فعلاً، في لبنان والعالم العربي؟
حين نسأله عن سرّ هذه الغزارة مع التنوع، يجيب: «أكتب كل يوم. أخبرني نجيب محفوظ ذات مرة، أنه يكتب دون انقطاع، وحين لا يأتيه الإلهام، يرد على الرسائل. وقد فعلت مثله. رأس مالي أمران: الذاكرة، والسرعة في التنفيذ».