شح المياه... كابوس يهدد دول المغرب العربي بالعطش

توقعات بانخفاض كبير في المحاصيل الزراعية بسبب قلة تساقط المطر وتراجع الاقتصاد

صورة تبين حجم الجفاف الكبير الذي ضرب منطقة نابل التونسية على امتداد عدة سنوات (إ.ب.أ)
صورة تبين حجم الجفاف الكبير الذي ضرب منطقة نابل التونسية على امتداد عدة سنوات (إ.ب.أ)
TT

شح المياه... كابوس يهدد دول المغرب العربي بالعطش

صورة تبين حجم الجفاف الكبير الذي ضرب منطقة نابل التونسية على امتداد عدة سنوات (إ.ب.أ)
صورة تبين حجم الجفاف الكبير الذي ضرب منطقة نابل التونسية على امتداد عدة سنوات (إ.ب.أ)

لن يكون الصيف المقبل، داخل تونس والجزائر وليبيا والمغرب، مثل بقية السنوات الماضية، فبسبب شح المياه، وقلة التساقطات، اتخذت حكومات هذه الدول إجراءات عاجلة لمواجهة شبح العطش، الذي بات يهدد السكان، واضطرت السلطات التونسية، قبل بضعة أيام، لقطع مياه الشرب عن السكان لـ7 ساعات كل يوم، بعد أن تقلص مخزون السدود إلى مستويات غير مسبوقة، كما حظرت أيضاً استخدام المياه الصالحة للشرب لغسيل السيارات، وريّ المساحات الخضراء، وتنظيف الشوارع والأماكن العامة، وملء المسابح الخاصة، وأصدرت قراراً بمعاقبة المخالفين، وهو ما أدى لظهور احتجاجات. في حين قررت الحكومة الجزائرية إنجاز مزيد من المحطات لتحلية مياه البحر؛ للتخفيف من حّدة الأزمة، وبالخصوص تزويد المدن الكبرى بالماء الصالح للشرب، خصوصاً أن شبح الندرة بات يهدد الاقتصاد والزراعة بشكل مقلق. أما في المغرب فقد عرفت الواردات المائية تراجعاً وصل إلى 14 مليار متر مكعب، خلال السنوات الـ10 الأخيرة؛ بسبب انخفاض التساقطات المطرية والثلجية بنسبة 85 في المائة.
فكيف ستتعامل حكومات هذه الدولة مع أزمة شح المياه، التي تتفاقم حِدتها، خصوصاً في موسم الصيف الذي يعرف ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة، وما يرافق ذلك من إقبال الناس على استهلاك المياه بشكل مضاعف، وما تأثيرها على الاقتصاد والقطاع الفلاحي، وإلى أي حد سيتقبل المواطنون التعايش مع فكرة تقليص مياه الشرب، إذا اضطرت الحكومات لهذا الإجراء القاسي بسبب تواصل قلة التساقطات.
يرفع جل التونسيين أكفهم، كل يوم، وأعينهم متجهة إلى السماء الشحيحة، وإلى السحب التي تمر دون أن تنزل قطراتها على الأرض المتشققة، راجين أن تجود عليهم، ولو بالقليل، خلال شهر أبريل (نيسان) الحالي، باعتباره أهم شهر لضمان غلة جيدة من الحبوب والأشجار المثمرة والخضراوات، وأيضاً لسد النقص الكبير في مخزون السدود، التي تزوِّد السكان بمياه الشرب.
- تونس تقطع المياه عن المواطنين 7 ساعات يومياً
بعد أن أصبحت الخزانات والسدود فارغة بسبب أسوأ جفاف تشهده تونس على الإطلاق، اضطرت السلطات لقطع المياه عن السكان لمدة 7 ساعات في الليل، وهو القرار الذي يهدد بتأجيج التوتر الاجتماعي في بلد يعاني ضعف الخدمات العامة، وارتفاع معدلات التضخم، وضعف الاقتصاد. كما أدخلت وزارة الزراعة نظام حصص لمياه الشرب، وحظرت استخدامها في الزراعة، حتى 30 من سبتمبر (أيلول) المقبل، مع استمرار الجفاف الذي دخل عامه الرابع الآن. وقالت إنها حظرت أيضاً استخدام المياه الصالحة للشرب لغسيل السيارات، وريّ المساحات الخضراء، وتنظيف الشوارع والأماكن العامة، وملء المسابح الخاصة، مضيفة أنه ستجري معاقبة المخالفين.
ووفقاً لقانون المياه، يعاقَب المخالفون بغرامة مالية، وبالسجن من 6 أيام إلى 6 أشهر، كما يمنح القانون السلطات الحق في تعليق الربط بالماء الصالح للشرب، والذي توفره شركة توزيع المياه الحكومية، في خطوة أثارت غضباً واحتجاجاً في مدينة صفاقس (جنوب). لكن خبراء يُجمعون على أنه لم يعد أمام السلطات أي حل سوى ترشيد المياه لتفادي الأسوأ، في ظل واحدة من أسوأ موجات الجفاف.

تونسية من منطقة نابل تملأ حاوية بلاستيكية بالماء، بعد أن قررت السلطات قطع ماء الشرب عن السكان لـ7 ساعات كل يوم (رويترز)

تقول سميرة عثمان، البالغة من العمر 54 عاماً، وهي أم لـ4 أطفال، لوكالة «رويترز»: «نحن في معاناة بسبب غياب الماء، ففي الكثير من الأوقات، لا نقوم بغسل ثيابنا فتبقى متسخة لمدة شهر. هناك جيران قريبون منا، لديهم الماء، في كثير من الأوقات، ولذلك نأخذ قواريرنا ونذهب إليهم ليقوموا بتعبئتها لنا».
وفي حي دار فضال الشعبي، على بُعد كيلومترات قليلة من مطار تونس قرطاج الدولي، يفتح شفيق اليعقوبي صنبور الماء، لكن لا شيء يخرج منه، ولذلك يعتمد باستمرار على جيرانه، للتزود بالماء. يقول اليعقوبي: «هذه الحنفية ليس بها ماء، لذلك نقوم بتعبئته من الجيران لنستعمله».
وفي ظل استمرار الجفاف وندرة التساقطات، أكد محمد رجايبية، المسؤول بـ«اتحاد الفلاحة التونسي»، لوكالة «رويترز»، أنه يتوقع موسم حبوب «كارثياً»، بتراجع نحو 75 بالمائة في المحصول بسبب الجفاف الحادّ، وهو ما من شأنه أن يعمق مصاعب المالية العامة التي توشك على الانهيار، وسط مساع للحصول على حزمة إنقاذ دولية. وأضاف رجايبية أنه يتوقع أن يجري حصاد ما بين 200 ألف و250 ألف طن، هذا الموسم، مقابل 750 ألف طن في العام الماضي.
من جهته، أكد حمادي الحبيب، مدير عام مكتب التخطيط والتوازنات المائية بوزارة الفلاحة، أن مناسيب السدود التونسية سجلت انخفاضاً مليار متر مكعب؛ بسبب ندرة الأمطار، من سبتمبر 2022، إلى منتصف مارس (آذار) الماضي. في حين قال علاء مرزوقي، وهو خبير في الموارد المائية بـ«المرصد التونسي للمياه»، إن «تسارع وتيرة التغيرات المناخية وتطرفها، خصوصاً من خلال الظواهر الطبيعية المتطرفة؛ من جفاف، وموجات برد، وفيضانات، ومن رياح عاتية، أصبح واضحاً، لذا يجب علينا أن نتجهز جيداً، وألا نترك أنفسنا لآخر ثانية لمواجهة هذه الظواهر الطبيعية المتطرفة»، موضحاً أن «انقطاعات المياه متواصلة، منذ سنوات، في عدد من المناطق، بحيث تصل لأشهر، وفي بعض المناطق هناك عائلات قُطع عنهم الماء لسنوات، وليس فقط لأشهر، وهذا التقسيط ليس بالجديد عليهم.. التقسيط، اليوم، محاولة لتخفيض استعمالات المياه، ويجعلنا ندخل، هذا الصيف، بنتائج أقل حِدة».
وأظهرت بيانات رسمية أن منسوب سد سيدي سالم في شمال البلاد، المزوِّد الرئيسي لمياه الشرب لعدة مناطق، انخفض إلى 16 بالمائة فقط، من طاقته القصوى البالغة 580 مليون متر مكعب، وأن بقية السدود التونسية باتت تشهد مستويات غير مسبوقة في حجم المخزون، بحيث لا تتعدى 30 في المائة من طاقة استيعابها، وفق آخر تحديث.
بدوره، قال أنيس خرباشي، مساعد رئيس «الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري»: «اليوم، أصبح عدد من المناطق السقوية مغلقة، والتغيرات المناخية أثّرت بشكل كبير على القطاع الفلاحي، وبالأخص موسم الحبوب، ولذلك قمنا بالدعوة، داخل الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، إلى إعلان حالة الطوارئ المائية، وإعلان حالة الجفاف، التي تكون مصحوبة بعدد من الإجراءات، لنقف بجانب الفلاحين والبحّارة»، مضيفاً أن موسم الحبوب، اليوم، «لن يتعدى 2.5 مليون قنطار، مقابل السنة الماضية، والتي كانت 11 مليون قنطار... اليوم نحن مهددون، حتى بعدم القدرة على توفير البذور التي سنزرعها، السنة المقبلة، ونحن نعرف أن تونس تحتاج، كل سنة، إلى 2 مليون قنطار من البذور».
ومن خلال الصور، التي بثّتها تقارير إعلامية، بدت المساحات الشاسعة التي تشملها السدود التونسية الكبرى، على غرار سيدي سالم، وسيدي البراق، وسد ملاق، وقد تحولت إلى تجاويف مخيفة، بعد أن جفّت عنها مياه الأمطار، وهي التي كانت، بالأمس القريب، المزوِّد الأساسي بمياه الشرب، مما ينذر بصيف مُقلق لسكان معظم ولايات تونس، خصوصاً أن جل مدن تونس تشهد، عادةً، ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة.
يقول مصباح الهلالي، الرئيس والمدير العام لـ«الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه التونسية (الصوناد)»: «هناك عجز في تغطية الحاجيّات من المياه، ففي فترات سابقة كان الجفاف بمعدل سنة أو سنتين، ثم يعود المناخ، بعد ذلك، إلى سالف وضعه، لكن تونس، اليوم، تعيش على وقع 4 سنوات من الجفاف المتواصل».
وبشأن الحلول البديلة، التي يمكن أن تلجأ إليها تونس، للتعامل مع هذه المعضلة، قال الهلالي إن «الاعتماد على خطة حكومية لتحلية المياه الجوفية أو مياه البحر، لا يمثل حلاً سحرياً لمعضلة نقص مياه الشرب؛ لأن التكلفة باهظة جداً». جاء ذلك بعد أن أقرّ رضا قبوج، وزير الدولة المكلف بالمياه، بأن «وضعية المياه في تونس باتت حرجة جداً، بعد أن أصبح مخزون السدود لا يتجاوز 31 بالمائة، وهو مستوى غير مسبوق»، مؤكداً تراجع مخزون السدود التونسية، المقدَّر عددها بـ37 سدّاً، إلى حوالي 390 مليون متر مكعب في مارس الماضي، مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية، كما قدَّرت مصادر حكومية نسبة ضياع وهدر المياه بحوالي 23 بالمائة؛ بسبب الربط العشوائي بشبكة المياه، وكذلك عمليات سرقة المياه من السقايات العمومية.
يقول حسين الرحيلي، خبير التنمية والتصرف في الموارد، إن قرار وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، المتعلق بعدم استعمال مياه الشرب لأغراض غير منزلية، «جاء متأخراً؛ لأن تونس تعيش، منذ مدة، على وقْع سنوات الجفاف، وفي ظل انقطاع الأمطار لأشهر متتالية»، لكنه يطرح، في الوقت نفسه، عدة تساؤلات؛ أهمها كيف يمكن مراقبة الأشخاص الذين يستعملون مياه الشرب لغسل سياراتهم داخل منازلهم، أو مراقبة محطات غسل السيارات، وهل سيشمل هذا القرار أيضاً القطاع السياحي، والصناعات المستهلكة للماء، والمصانع، والقطاع الفلاحي، وما مصير الفلاحين الصغار، في حال منعهم من التزود بالمياه.
- المغرب... عجز مائي غير مسبوق
عاش المغرب، خلال السنوات الأخيرة، على إيقاع عجز مائي غير مسبوق؛ بسبب قلة التساقطات المطرية، وتراجع كميات الثلوج المتساقطة، خلال فصل الشتاء، وأيضاً بسبب تراجع مخزون المياه الجوفية، وهي وضعية دفعت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات لمواجهة الجفاف، الذي أصبح يكتسب طابعاً هيكلياً في البلاد، رغم تسجيل تساقطات مهمة، في شتاء هذا العام، أنعشت آمال الفلاحين المغاربة، في موسم فلاحي أفضل من العام الماضي، وحدّت من وطأة الجفاف الذي ضرب البلاد.
ووفق بيانات رسمية لوزارة التجهيز والماء المغربية، فإن مجموع الموارد المائية في المغرب يقدَّر بـ22 مليار متر مكعب في السنة، لكنها في تراجع مستمر، كما عرفت الواردات المائية تراجعاً يصل إلى 14 مليار متر مكعب، خلال السنوات الـ10 الأخيرة؛ بسبب انخفاض التساقطات المطرية والثلجية بنسبة 85 في المائة، أما مخزون المياه الجوفية، القابلة للاستغلال، فيصل حالياً إلى 4.2 مليار متر مكعب في السنة، لكنها أيضاً تعاني الإجهاد.
وأثَّر الجفاف بشكل كبير على الموارد المائية، وبات مصدر قلق للسلطات والسكان، خصوصاً أن حوالي 48 في المائة منهم يعتمدون على الفلاحة في الوسط القروي، كما أثّر الجفاف على تراجع حصة الفرد من المياه بشكل كبير. ووفق تقرير لـ«المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي (مؤسسة دستورية استشارية)»، فإن الموارد المائية، بالنسبة للفرد، سنوياً تقدر حالياً بأقل من 650 متراً مكعباً، مقارنة مع 2500 متر مكعب للفرد في سنة 1960، لكن تقرير المجلس توقّع أن تنخفض هذه الحصة إلى أقل من 500 متر مكعب، بحلول سنة 2030، مؤكداً أن الدراسات الدولية تشير إلى أن التغيرات المناخية يمكن أن تتسبب في اختفاء 80 بالمائة من موارد المياه المتاحة في البلاد، خلال الـ25 سنة المقبلة.
وجاء في عرض قدَّمه وزير التجهيز والماء نزار بركة، أمام مجلس الحكومة، في 16 سبتمبر الماضي، أن وضعية السدود المغربية «باتت مُقلقة جداً»، مشيراً، على سبيل المثال، إلى أن سد سيدي محمد بن عبد الله، الذي يوفر الماء لسكان الدار البيضاء الشمالية والرباط وسلا وتمارة والصخيرات، وعدد من المدن الأخرى، «بات مهدداً بنفاد الماء، خلال بضعة أشهر؛ ذلك أن السد لا يوفر حالياً سوى 265 مليون متر مكعب»، وهو المخزون الذي كان مقرراً أن ينضب، في يونيو (حزيران) 2023، ما لم تكن هناك تساقطات، لكنْ من حسن الحظ أن بداية سنة 2023 عرفت تساقطات أنعشت حقينة السد. وكلما جرى التوجه جنوب الرباط، تفاقمت مشكلات المياه في الأحواض المائية، ولا سيما في مراكش وأكادير (وسط).
ولمواجهة هذا الوضع، أعلن الوزير بركة خطة حكومية لمواجهة الجفاف، تضمنت تزويد حوالي مليونيْ مواطن في الوسط القروي بالماء الصالح للشرب، السنة الماضية، من خلال شاحنات صهريجية، إضافة إلى شراء وحدات متنقلة لتحلية المياه؛ من أجل استخدامها في المناطق الداخلية وفي الجبال، كما أعلن بركة أيضاً سعي الحكومة لرفع الطاقة التخزينية من المياه في السدود، إلى 24 مليار متر مكعب، في أفق 2030، من خلال تسريع إنجاز برنامج السدود الكبرى والصغرى، في إطار البرنامج الوطني للتزويد بماء الشرب ومياه السقي 2020 - 2027.
ولترشيد استعمال المياه، لجأت الحكومة إلى إطلاق حملات توعية لعقلنة وترشيد استعمال الماء، كما لجأت بعض المناطق إلى منع استخدام المياه في سقي الحدائق، وغسل السيارات، وغيرها. أما في الوسط القروي، فقد لجأت الحكومة إلى التدخل لإنقاذ المناطق التي جفّت مياهها الجوفية، بتوفير المياه عبر شاحنات صهريجية، حيث جرى توفير 706 شاحنات صهريجية؛ لضمان تزويد 2.7 مليون نسمة، موزعة على 75 إقليماً ومحافظة.
وكان وزير التجهيز والماء المغربي قد كشف عن خطة حكومية لاقتناء 26 محطة متنقلة لتحلية ماء البحر، خلال هذا العام، و15 محطة لإزالة المعادن من الماء الأجاج. وأوضح أن عدد هذه الوحدات سيصل، هذه السنة، إلى 100 محطة هدفها توفير المياه للقرى.
ومن بين الإجراءات الأخرى لمواجهة شح المياه، يعمل المغرب على مضاعفة حجم المياه الناتجة عن تحلية مياه البحر؛ بهدف سد العجز في مياه السدود، وتخصيص الماء للفلاحة وللمدن غير الساحلية، علماً بأن المغرب يعكف أيضاً على مشروعات لتحلية مياه البحر من خلال 9 محطات، تنتج 147 مليون متر مكعب في السنة، بالإضافة إلى آلاف الآبار لتعبئة المياه الجوفية، كما تسعى الحكومة إلى توفير نصف الحاجيّات من ماء الشرب، عبر تحلية ماء البحر، خصوصاً في المدن الساحلية، على أن تخصص مياه السدود للسقي الفلاحي وللشرب في المناطق الداخلية. ويرتقب أن تبلغ كميات المياه، الناتجة عن تحلية مياه البحر، حوالي مليار متر مكعب سنوياً، ابتداء من سنة 2030.
- الجزائر تواجه الجفاف بتحلية مياه البحر
أمام شح الأمطار، المتواصل منذ عدة سنوات، قررت الحكومة الجزائرية إنجاز مزيد من المحطات لتحلية مياه البحر؛ للتخفيف من حِدة الأزمة، وبالخصوص تزويد المدن الكبرى بالماء الصالح للشرب، ولا سيما أن شبح الندرة بات يهدد الاقتصاد والزراعة بشكل مقلق.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، أمر الرئيس عبد المجيد تبون بوضع مخطط لتعميم محطات تحلية مياه البحر، عبر كامل الشريط الساحلي للبلاد؛ «تجنباً لتداعيات الأوضاع المناخية الصعبة»، حسبما جاء في بيان لرئاسة البلاد، كما طلب تبون من الحكومة «استنفار مصالح وزارات الداخلية والموارد المائية والفلاحة والصناعة والبيئة، على أوسع نطاق؛ لإنشاء مخطط استعجالي يهدف إلى سَن سياسة جديدة لاقتصاد المياه وطنياً، والحفاظ على الثروة المائية الجوفية»، وفق البيان نفسه، الذي نقل عن الرئيس «ضرورة إعادة تحريك وإحياء كل المشروعات المتوقفة لمحطات تصفية المياه المستعملة عبر الولايات، وإدخالها قيد الاستغلال؛ لاستخدامها في الري الفلاحي، عوضاً عن المياه الجوفية»، التي يشهد مخزونها انخفاضاً من سنة لأخرى، وفق تقارير وزارة الموارد المائية. كما شدد تبون على «المراقبة الصارمة لتراخيص استغلال المياه الجوفية لسقي المساحات المزروعة، مع تسليط أقصى العقوبات ضد أعمال حفر الآبار غير المرخصة، علاوة على إنجاز دراسات علمية بشكل عاجل؛ لتحديد دقيق لوضعية معدل مياهنا الجوفية». كما طالب بـ«تفعيل دور شرطة المياه، التي تختص بمراقبة استعمال المياه في كل المجالات، ومحاربة التبذير لمراقبة استغلال المياه عبر الوطن».
وتُعدّ محطة التحلية بالعاصمة من أهم المشروعات، التي أُنجزت في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة (1999 - 2019). في حين يجري بناء 5 نماذج أخرى مشابهة، في «كاب بلان» (وهران)، ومحطة الجزائر غرب (فوكة بولاية تيبازة)، ومحطة الجزائر شرق (كاب جنات بولاية بومرداس)، ومحطة بجاية، ومحطة الطارف، بالشرق.
وفي مطلع 2022 دقّ وزير الموارد المائية والأمن المائي السابق كريم حسني، ناقوس الخطر، عندما صرَّح بأن مناخ الجزائر «كان، في السابق، شبه جاف، لكنه أصبح، اليوم، مناخاً جافاً»، معلناً «استراتيجية جديدة» في قطاعه، تتمثل في مضاعفة الاعتماد على محطات تحلية المياه. وقال، حينها، إن تحلية مياه البحر «هي الحل الأمثل؛ لأن المياه السطحية أصبحت شحيحة، وبلادنا تزخر بكل الإمكانات اللازمة، منها شريط ساحلي يمتد لأكثر من 1200 كيلومتر، وكذا الخبرة والموارد البشرية اللازمة في هذا المجال».
وفي مطلع هذا العام، أعلنت الوزارة المختصة أن الجزائر باتت من الدول الفقيرة من حيث المورد المائي؛ بسبب فترات جفاف طويلة ومتكررة، مع عجز في نِسب تساقط الأمطار التي بلغت، وفقاً لها، بين 40 و50 بالمائة خلال السنوات الأخيرة، مقارنة بالمعدلات السنوية الماضية، خصوصاً في الجهتين الوسطى والغربية للبلاد. وأوضحت الوزارة أن نقص وشح الأمطار بفعل التغيرات المناخية «أثّر بشكل كبير على تزويد السكان بالمياه الصالحة للشرب، وقد برزت آثارها جلياً على 20 محافظة في البلاد»، من دون ذكرها، مؤكدة أن «الجزائر تعيش، على غرار دول البحر الأبيض المتوسط، عجزاً مائياً ناجماً عن التغيرات المناخية، التي أثّرت بشكل كبير على الدورات الطبيعية للمتساقطات المطرية»، ومعتبرة أن «الأزمة ناتجة عن تراجع كبير في منسوب مياه السدود بالمناطق الوسطى والغربية للبلاد، مع تسجيل نسبة عجز تقدر بـ25 في المائة من احتياطي السدود».
وتعوِّل الحكومة على بلوغ 300 ألف لتر مكعب يومياً، بفضل محطات كبرى جديدة لتحلية المياه، وذلك على مرحلتين: 2022 -2024، و2025 - 2030، كما تقوم استراتيجيتها، في هذا المجال، على تأمين المياه، عبر ترشيد الاستهلاك وتصفية المياه المستعملة وتوظيفها في الري الزراعي. وضمن هذه الخطة، تشير التوقعات إلى أن تحلية مياه البحر ستلبي الاحتياجات في مجال ماء الشرب، خلال السنوات الخمس المقبلة، بينما تصفية المياه المستعملة (2 مليار متر مكعب في السنة) ستُخصَّص للسقي، وبشكل أساسي للأشجار المثمرة، كما ستجري إعادة توجيه المياه السطحية من السدود نحو الزراعة، ولا سيما الخضراوات، مما سيسمح بالحفاظ على المياه الجوفية.
وخلال عام 2021، عرفت عدة ولايات، في وسط وغرب البلاد، احتجاجات؛ للمطالبة بتزويدهم بالمياه، على غرار العاصمة، التي خرج سكان ضاحيتها الشرقية (منطقة باب الزوار) إلى الشارع، وقطعوا الطريق السريع المؤدي إلى المطار الدولي؛ تعبيراً عن تذمرهم من غياب المياه عن بيوتهم، أياماً طويلة.
وقد طرحت ندرة المياه بشكل أكثر حِدة، خلال الحرائق المهولة التي نشبت في منطقة القبائل صيف 2021، والتهمت مئات الهكتارات من الغطاء النباتي، ومساحات شاسعة من الأراضي المزروعة وحقول الفواكه، زيادة على مقتل العشرات من الأشخاص، وهلاك رؤوس الماشية.
يقول خبراء إن الحكومة ارتكبت خطأ كبيراً، عندما عادت، في عام 2019، إلى خطة قديمة تتمثل في تزويد سكان المناطق الحضرية الكبيرة بالمياه على مدار الساعة، فقد اغترّت، وفقاً للخبراء، بامتلاء السدود بنسب مهمة، بفضل تساقطات مطرية كبيرة عام 2018، ولجأت إلى هذا القرار، بينما كانت شبكة توزيع المياه في كامل البلاد في حالة سيئة بسبب قِدمها، مما تسبَّب في تسرب 50 بالمائة من المياه المقدَّمة للسكان، وفق الخبراء أنفسهم، الذين يؤكدون أن تغير المناخ ليس التفسير الوحيد لندرة المياه، وإنما سوء تسيير شبكات التوزيع، والتبذير الذي أسهم، بحسبهم، في تعقيد الأزمة.
- ليبيا «الأكثر تأثراً بشح المياه في العالم»
في نهاية الشهر الماضي، وقف موسى الكوني، عضو المجلس الرئاسي الليبي، أمام قمة الأمم المتحدة حول حسن إدارة الموارد المائية، التي انعقدت في نيويورك، ليحذر من أن ليبيا تعاني نقص المياه بسبب انعدام سقوط الأمطار، ورأى أن هذا ينعكس بالتبعية على التنمية في هذا البلد، الواقع جغرافياً في قلب الصحراء الكبرى.
تحذير الكوني سبقه مارك فرانش، الممثل المقيم لـ«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، الذي قال إن «مستقبل ليبيا يعتمد على إدارةٍ أفضل لمواردها المائية، عبر الحلول المبتكرة»، معتبراً أن ليبيا من الدول «الأكثر تأثراً بشح المياه في العالم».
وما بين تحذير الكوني، وقراءة الممثل الأممي، يتحدث اختصاصيون ليبيون في شؤون المياه عن شبح الجفاف الذي يلوح في الأفق، اعتماداً على ندرة مياه الأمطار في مواسم سابقة، وهذه المخاوف، في مجملها، يرجعها المهندس إمحمد عبد الله، مدير الشؤون العلمية والفنية بـ«المركز الليبي للاستشعار عن بُعد»، إلى أن ليبيا دولة شحيحة المطر، وفق التقييم العالمي، في وقت تشكِّل الصحراء 95 بالمائة في إجمالي مساحتها، البالغة قرابة مليونيْ متر مربع.
وقال عبد الله، لـ«الشرق الأوسط»، إن ليبيا مرّت، خلال السنوات الـ3 الأخيرة، بموسم جفاف كبير أدى إلى نقص معدل الأمطار، خصوصاً في المنطقة الغربية، إذ تراجعت إلى 120 مليمتراً في السنة، مما ألحق أضراراً كبيرة بالزراعة، وخصوصاً أشجار الزيتون المثمرة، وهو ما دفع بـ«اللجنة الوطنية لمكافحة التصحر» إلى إعلان أن هذا موسم جفاف، «مما كان يتطلب من الدولة أن تعلن حالة الطوارئ، وتتدخل؛ لحماية المزارعين ومربِّي الأغنام والماشية، لكن ذلك لم يحدث».
وكشف عبد الله عن نقطة حيوية تتعلق باستهلاك نسبي للمياه الجوفية في بعض المناطق، وقال إنه «نظراً لقلة الأمطار، اتجه البعض للآبار الجوفية في المناطق الساحلية التي تمثل سلة الغذاء، بالنسبة لليبيا، ومن ثم استنزفت المياه الجوفية السطحية، وبعد انحسارها تداخلت معها مياه البحر، مما أدى إلى تغير قوامها».
وفي منتصف الشهر الماضي، أطلقت «منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في ليبيا» برنامجاً تدريبياً حول الاستهلاك المائي في الزراعة بليبيا، ورفع كفاءة المياه وإنتاجيتها، واستهدفت الدورة «رسم خرائط الغطاء الأرضي، ونوع المحاصيل؛ لدعم إنتاجية المياه الزراعية في ليبيا»، وذلك بمشاركة 26 متدرباً من وزارات الموارد المائية والزراعة والثروة الحيوانية، بالإضافة للمركز الليبي للاستشعار عن بُعد وجامعة طرابلس.
وتحدّث مدير الشؤون العلمية والفنية بـ«المركز الليبي للاستشعار عن بُعد»، بأن ليبيا، ولكونها تقع في الصحراء الكبرى، «كانت هناك محاولات ودراسات في السنوات الماضية، بشأن أن يكون هناك بدائل لمياه الأمطار والمياه الجوفية المتكونة في الشريط الساحلي، فجاءت فكرة النهر الصناعي، ونقل المياه الجوفية من جنوب ليبيا إلى شمالها في الشرب والزراعة»، مشيراً إلى أنه «كان من المخطط أن تتجه ليبيا إلى تحلية مياه البحر، في عامي 2007 و2008، ووقّعت اتفاقيات مع بعض الدول، لإنشاء محطات تحلية على طول الساحل الليبي، من بينها إقامة محطات نووية، بحيث تكون البديل لمياه النهر الصناعي، أو إضافية له، لكن أغلب هذه المشروعات توقّف.
والقضية التي أثارها الكوني، أمام قمة الأمم المتحدة حول حسن إدارة الموارد المائية، بشأن تحلية مياه البحر، لا تزال تراوح مكانها، وكان الكوني قد قال إن الدول المتقدمة لو فكرت جدياً في استغلال إمكانياتها، بتخفيض تكلفة تحلية مياه البحر، لأسهمَ ذلك في حل مشكلات كبيرة، مضيفاً أن «النهر الصناعي يجب أن يُضخّ عكسياً؛ أي لا بد من تحلية مياه البحر، حتى يضخ هذا النهر من الشمال إلى الجنوب ليروي عطش الصحراء»، لكنه راهناً يرى أن التكلفة تحُول دون تحقيق ذلك.


مقالات ذات صلة

مصر تعمّق تعاونها مع دول حوض النيل بمشروعات مائية في رواندا

العالم العربي مباحثات وزير الري المصري مع وزيرة البيئة الرواندية (وزارة الري المصرية)

مصر تعمّق تعاونها مع دول حوض النيل بمشروعات مائية في رواندا

سعياً لتعميق تعاونها مع دول حوض النيل، أعلنت مصر، الاثنين، إبرام مذكرة تفاهم مع رواندا، لتنفيذ مشروعات تنموية، تلبي احتياجات رواندا في مجال المياه.

أحمد إمبابي (القاهرة)
شمال افريقيا سويلم خلال فعاليات «اليوم المصري - الألماني للتعاون التنموي» (وزارة الموارد المائية)

مصر تستعرض خطتها لتعويض «عجز مائي» يقدَّر بـ54 مليار متر مكعب

قال وزير الموارد المائية المصري هاني سويلم، الاثنين، إن بلاده تطبق خطة شاملة لتعظيم الاستفادة من مواردها المائية المحدودة.

محمد عبده حسنين (القاهرة)
علوم تعاني مناطق غرب تكساس من جفاف شديد

هل يمكن أن تكون مياه الصرف النفطية الحل للجفاف؟

خطط لاستخدام مياه استخراج النفط للزراعة

الاقتصاد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يقف مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورؤساء الدول الأخرى المشاركين بقمة «مياه واحدة» في الرياض لالتقاط صورة جماعية (أ.ف.ب) play-circle 01:27

ولي العهد: السعودية قدمت 6 مليارات دولار لدعم 200 مشروع إنمائي في 60 دولة

أكد ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، أن السعودية أدرجت موضوعات المياه «للمرة الأولى» ضمن خريطة عمل «مجموعة العشرين» خلال رئاستها في 2020.

الاقتصاد النائب الأول لوزير الموارد المائية والري في كازاخستان بولات بكنياز (الشرق الأوسط)

قمة في الرياض لبحث مستقبل المياه بالعالم

كشف مسؤول كازاخستاني عن ملامح قمة ثلاثية لتنظيم حدث عالمي في إطار «قمة المياه الواحدة»؛ إذ تنعقد برئاسة سعودية - كازاخية - فرنسية، وبدعم من البنك الدولي.

فتح الرحمان یوسف (الرياض)

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».