هل فهمنا عبد الكبير الخطيبي حقاً؟

في ذكرى رحيل الكاتب والناقد المغربي «الحذر»

عبد الكبير الخطيبي
عبد الكبير الخطيبي
TT

هل فهمنا عبد الكبير الخطيبي حقاً؟

عبد الكبير الخطيبي
عبد الكبير الخطيبي

في السادس عشر من مارس (آذار) حلّت ذكرى رحيل الكاتب المغربي المغترب في النص واللغة والحاضر أبداً في النقد، عبد الكبير الخطيبي، الذي يبدو أن قسماً كبيراً من أعماله بقي في الظل بعيداً عن هالة الضوء، وبقيت كتاباته الفكرية والإبداعية نخبويةً للغاية، قياساً بما تستحقه من الدراسة والنقاش.
لقد سُلّطت الهالة الإعلامية في الغالب على أسماء فكرية تكتب في العام والمشترك، وتنشغل بالعناوين الكبيرة المثيرة للجدل. وربما كان عدد من الباحثين في المغرب وخارجه يستصعبون مهمة الخوض في تجربة الخطيبي الفكرية، ويتفادون الاشتباك مع تركيبتها النظرية قراءةً أو نقداً.
«عارياً من ثيابك الخفيفة، متبخراً، ومع ذلك سوف تكون قريباً جداً منا...» هكذا تخيل الخطيبي بلغة شعرية واضحة مشهدَ الذات، وهي تقرأ سيرتها الخاصة في عمله الروائي «كتاب الدم» الصادر عام 1979. لقد كان يصف شيئاً مما يراه كامناً في طاقة اللغة، بحسٍّ إبداعي رقيق، وهو المفكر وعالم الاجتماع البارز الذي ظل طيلة مشروعه الفكري مشغولاً بسؤال الهوية الكبير، عاكفاً على البحث في تفاصيل هذا المفهوم النظري تراثاً وواقعاً، متخذاً من المفاهيم النقدية الكونية أداة لابتكار مفاهيم جديدة تتبنّى في اشتغالها منهج النقد المتوازي، أو ما سمَّاه «النقد المزدوج» للأفكار والأطراف. فهو من جهة، ينقد محاور كثيرة داخل بنية الفكر الغربي بوصفه ينزع في تأصيل خطابه إلى الهيمنة على الآخر، وهو في المقابل ينقد خطاب الفكر السائد في بلدان عربية كثيرة رآها تتوهم -بشيء من الميتافيزيقا- حالة الوحدة والصفاء العرقي والعاطفة الاجتماعية الجامعة.
ما يمكن أن نلمسه في منجز الخطيبي النقدي هو ذلك الحذر المنهجي العميق من الاصطفاف الآيديولوجي أو حتى الفكري، وهو ليس حذراً من خوض المسائل الجدلية أو نقاش أفكارها، بقدر ما هو حذرٌ موضوعي من كل أشكال التبسيط والأحكام المطلقة والعامة، وهو كذلك حذر من الوصول إلى استنتاجات أحادية إزاء الظواهر الاجتماعية كافة. وما يميز رؤية الخطيبي على هذا الصعيد هو عنصر التوازي العملي بين التفكيك والنقد، فهو يراوح بحذر بين صرامة الروح الفلسفية الجادة وبين السوسيولوجيا كفنّ يمنح الباحث فسحة الوصف والتحليل والتأويل أيضاً.
معظم مؤلفات الخطيبي كانت باللغة الفرنسية، وهو بلا شك يعد واحداً من المؤثرين في المتون البحثية لعدد كبير من الدارسين للحقل الاجتماعي العربي والعالمي على حد سواء. وهو الملهِم بأفكاره الفذة لفئة معتبرة من طلبة العلوم الاجتماعية في مختلف جامعات العالم. والملاحظ خلال السنوات الأخيرة تحديداً أن عدداً غير قليل من رسائل الدكتوراه والماجستير في علم الاجتماع التي أنجزها طلبة مغاربيّون (المغرب وتونس والجزائر)، تناولت باهتمام فكرَ عبد الكبير الخطيبي ورؤاه الحيّة حول الهوية وقضايا المجتمع العربي.
منذ «الذاكرة الموشومة» عمله الإبداعي الأول، وصولاً إلى آخر ما كتبه في علم الاجتماع، اعتمد الخطيبي على السجال المعرفي مع الأفكار الكبرى، محاولاً بناء رؤيته الخاصة للهوية ولعدد من الظواهر الضيقة كطبائع المجتمع الأبوي مثلاً. إنه اشتباك فكري غير جدلي مع الأنساق النظرية المهيمنة، وهو أيضاً تفكيك لما تحفل به الذاكرة الفكرية من مركبات معرفية غير متجانسة في الطرح، ولعل الحديث عن هذه العناصر الفكرية في سياق منجز كامل لكاتب مُجرِّب مثل عبد الكبير الخطيبي خاض في النقد وعلم الاجتماع، كما كتب الشعر والرواية والمسرح، يطرح سؤالاً عن علاقة كل هذه الحقول بعضها ببعض... لكن الحقيقة هي أن الخطيبي كان سبّاقاً إلى تذويب الحدود الفاصلة بين أعماله وأجناسها المختلفة، وقد وصف الفيلسوف الفرنسي رولان بارت هذه السمة عند الخطيبي قائلاً: إنه لا يكتفي بإلغاء الحدود بين الأشكال الأدبية، بل يقوم بتغيير هذه الأشكال نفسها حاملاً معه القارئ نحو «أرضه الإبداعية» الخاصة.
لقد شُغف الخطيبي بالفكر كما اهتمت أعماله الأدبية الأخرى بالدلالات الثقافية والاجتماعية للفن والإبداع الكتابي خاصة، وهو في ذلك يبدو منسجماً إلى حد بعيد مع البيئة الثقافية التي انطلق منها باحثاً عن حقائق الهوية المتعددة والملتبسة في كثير من الأحيان. فهو إن بدا غير متفق مع كثير من المقاربات التي تشرح آليات التفكير المشكِّل للهوية داخل بيئته المعرفية، فإنه يبقى في الآن نفسه منخرطاً في عمق الاشتغال الجمالي على بنية الفنون والنقد داخل هذه الهوية الفكرية المميزة. نرى ذلك جلياً في أعمال تحفر في سؤال الاختلاف بكثير من المنهجية الفكرية من قبيل «الاسم العربي الجريح»، وهو عمل محوري بالغ الأهمية في تجربة الخطيبي، وقد نقله إلى العربية الشاعر محمد بنيس، كما نلمس شيئاً من تلك الدلالات المتقدة في عمل آخر عنوانه «في الكتابة والتجربة» أصدره الخطيبي باللغة الفرنسية، وترجمه إلى العربية الروائي المغربي محمد برادة.
ينطلق الخطيبي من نقد الميتافيزيقا التي تشكل من وجهة نظره عصب الفكر في العالم العربي، وهو نقد شامل وجذري غير مهادن، يقف عند مفهوم التعدد الذي يميز واقع الهوية العربية اليوم، فيصدم أنصار الوحدة المطلقة بحقائق يراها واقعية وحادّة، تؤكد مدى التبسيط الذي تحمله هذه الفكرة الآيديولوجية «القومية»، رغم كونها لا تزال حاضرة في عمق الفكر العربي المعاصر حتى اليوم. إنها حقائق التغاير والتعدد والتمايز والاختلاف التي تؤكد حسب الخطيبي أن العالم العربي قد تعدد بحكم الواقع، ولا يمكن أن يشكل وحدةً كلية شاملة أو منظومة واحدة، ففكرة الوحدة كما يراها هو كانت دائماً فكرة إطلاقية مرتبطة بمخرجات الميتافيزيقا والمتخيل اللاهوتي الذي تحتضن الآيديولوجيات الوافدة إلى العمق العربي كثيراً من عناصره، رغم تجدد فعل الآيديولوجيا نفسه.
وحفاظاً على قاعدة النقد المزدوج، يتوغل عبد الكبير الخطيبي داخل البنية الزمنية للفكر الغربي؛ بدءاً من أسسه العقلانية اليونانية القديمة، التي كرست فيما بعد مركزية الغرب وهيمنته المكتسبة، ويصل الخطيبي إلى ذروة نقده لهذه البنية، فيشخص بعناية حالة الإرادة الغربية المتجسدة أساساً في الهيمنة وقواعد المادية الحديثة التي تحكمها مقاييس أحادية الرؤية، والتي لا تبتكر أنظمة جديدة خالية من الثوابت، بقدر ما تكتفي بتغيير هذه الثوابت وتدويرها.
ويختلف عبد الكبير الخطيبي كثيراً مع عبد الله العروي في منظوره «التاريخاني» لفعل الحداثة ومآلاتها وإسقاطاتها على عالمنا العربي، ويراه في هذا المسار يخلط بين مفاهيم وجودية عميقة، ويبسّط منظوره الخاص إلى العامل التاريخي. ذلك أن التراكم النظري والمادي لفعل الحضارة يحدث بالفعل منذ بدء البشرية إلى الآن، لكن عامل التاريخ ليس منطقياً دائماً، فهناك قطائع وتناقضات وخسارات وفُروق لا تنسجم مع شرط الاستمرارية التاريخية. ويذهب الخطيبي إلى ما هو أبعد من ذلك فيرفض القول بأننا بوصفنا مجتمعات عربية ملزمون بقطع الخطى نفسها التي سبقنا إليها الغرب، سعياً لبلوغ ما وصل إليه من المدنية والتقدم، بل ينبغي من وجهة نظره استئناف الرحلة نحو الحضارة فوراً، والانطلاق رأساً مما هو متاح وموجود وقائم مدنياً... الآن، دون الرجوع إلى الخلف، ودون الوقوف الكلاسيكي المتوارث عند فكرة «نسيان التراث».
لا يبدو أن الأفكار التي حملها منجز الخطيبي بسيطة أو هادئة في علاقتها مع القارئ العادي، فما كتبه الرجل يختصر مساراً طويلاً من التأمل العملي والنظري في متون فكرية متواترة الطرح ومتقاطعة في اختراقاتها واقتراحاتها، وربما متضاربة أيضاً. لكن الأهم في الوقوف عند ذكرى رحيل هذا السوسيولوجي المغربي هو إمكانية الاستعادة والفهم لما قاله أو تطرقت إليه كتاباته حول قضايا الهوية الثقافية. إنها كتابات تطرح بالفعل أسئلة جادة حول الهوية العربية وإرهاصات الوحدة، وما سوّقته الآيديولوجيا من تبسيط نظري ساذج لأفكار «النهضة» والانبعاث الجماعي «للأمة». كما أن كتابات الخطيبي من حيث إنها علمية منحازة لاستنتاجاتها المستقلة تبقى شجاعة في إشاراتها؛ إذ تنبه باستمرار إلى استبداد المنهجية الغربية في مقاربتها للمسائل الكبرى بشيء من الأصولية الجديدة التي لفظها الواقع، وتجاوزتها اليوم ريح النيوليبرالية الاقتصادية، وما تحمله إلينا من مخرجات ثقافية عاصفة!
* كاتب وشاعر مغربي


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

احتفالات مصرية بـ«رأس السنة» تتجاوز الجدل العقائدي

شارع «الترعة البولاقية» بحي شبرا في القاهرة يجذب راغبي شراء زينة الكريسماس ورأس السنة (الشرق الأوسط)
شارع «الترعة البولاقية» بحي شبرا في القاهرة يجذب راغبي شراء زينة الكريسماس ورأس السنة (الشرق الأوسط)
TT

احتفالات مصرية بـ«رأس السنة» تتجاوز الجدل العقائدي

شارع «الترعة البولاقية» بحي شبرا في القاهرة يجذب راغبي شراء زينة الكريسماس ورأس السنة (الشرق الأوسط)
شارع «الترعة البولاقية» بحي شبرا في القاهرة يجذب راغبي شراء زينة الكريسماس ورأس السنة (الشرق الأوسط)

في حين يشهد الفضاء الإلكتروني المصري بكثرة ترديد السؤال السنوي: «هل الاحتفال برأس السنة حرام أم حلال؟»، وتتراوح الإجابة شداً وجذباً بين المؤيدين والمعارضين، حسم الشارع موقفه، بعيداً عن السؤال والإجابة، ففي قلب العاصمة والمدن المصرية، تتلألأ أضواء الكريسماس، وتنتشر أشجار الميلاد المزينة، ومجسمات بابا نويل، والنجوم الذهبية، ما يعكس روحاً احتفالية تتجاوز الانتماءات الدينية والجدل العقائدي، وتنحاز فقط للبهجة.

وفي شوارع القاهرة تحديداً، بات مشهد الزينة والاحتفالات مألوفاً، بل ومتجدداً كل عام، حيث تظهر روح المنافسة في وضع زينة رأس السنة بلمسات مبتكرة، على واجهات المحال والمقاهي والمراكز التجارية والفنادق، وتستمر حتى «عيد الميلاد»، الذي تحتفل به الكنائس الشرقية يوم 7 يناير (كانون الثاني)، وبالتالي لم يعد الاحتفال مقتصراً على المسيحيين، بل أصبح جزءاً من المشهد العام، حيث يشارك المصريون على اختلاف مشاربهم في الاحتفال.

شجرة كريسماس عملاقة تتزين بها دار الأوبرا المصرية (الشرق الأوسط)

إلا أن أصواتاً انتقدت تهنئة المسيحيين بأعيادهم، ومشاركة المسلمين في مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد، لكن «دار الإفتاء المصرية» حسمت الجدل الدائر حول حكم تهنئة المسيحيين بأعياد رأس السنة الميلادية، مؤكدة أن التهنئة «جائزة شرعاً ولا تحمل أي مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية»، نافية بشكل قاطع ما يروّجه بعض المتشددين من أن التهنئة تُعد مشاركة في طقوس دينية أو خروجاً عن ثوابت العقيدة.

وأوضحت دار الإفتاء، في بيان قبل أيام، أن الاحتفال ببداية العام الميلادي يُصنَّف باعتباره مناسبة ذات بُعد اجتماعي وإنساني، يشترك فيها الناس بمختلف انتماءاتهم الدينية، حيث يعبر الجميع عن وداع عام مضى واستقبال عام جديد، مؤكدة أن هذه المعاني تتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية ولا تتعارض معها، بل تجسد قيم التعايش.

انعكاس هذه الفتوى على أرض الواقع رصدته «الشرق الأوسط» في أحد شوارع حي شبرا (شمال القاهرة)، حيث تقف الثلاثينية نجلاء حسن، أمام محل لبيع الزينة، تختار بعناية كرات حمراء وشرائط لامعة وقبعتين لبابا نويل لطفليها. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «أنا مسلمة، لكني أحب أجواء رأس السنة، أشتري الزينة كل عام وأزين بها المنزل، وأراها فرصة لنشر البهجة في المنزل، كما أن أطفالي يحبونها، وهذا العام اصطحبتهم معي لاختيار هدايا لحفل تقيمه مدرستهما احتفالاً بالعام الجديد والكريسماس».

وبعيداً عن أي جدل عقائدي أو انقسام طائفي، يشتهر حي شبرا بوجود عدد كبير من السكان المسيحيين والمسلمين، ويعد شارع «الترعة البولاقية»، وهو أحد أشهر شوارع شبرا، مقصداً لكليهما في هذه الأيام، ويجذب راغبي شراء زينة الكريسماس وهداياه وإكسسواراته، حيث تكثر المحال التجارية والمكتبات المتخصصة في هذه المنتجات.

إكسسوارات الكريسماس وهدايا رأس السنة تفرض حضورها في شوارع وميادين القاهرة (الشرق الأوسط)

«الطلب لا يقتصر على المسيحيين، بل كثير من المسلمين يشترون الزينة لبيوتهم ومكاتبهم»، يقول نادر جرجس، البائع في أحد متاجر الجملة بالشارع، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «نحن نعرض الزينة منذ سنوات، لكن في الأعوام الأخيرة هناك إقبال متزايد من العائلات المسلمة والمسيحية، فالجميع يبحث عن الفرح في ظل ضغوطات الحياة».

قطع حديث البائع سؤال من الطالبة الجامعية سارة محمود، عن ثمن دمية صغيرة لـ«بابا نويل» ليرد عليها: «50 جنيهاً» (الدولار يساوي نحو 47 جنيهاً مصرياً)، ومع دفعها، فسّرت لـ«الشرق الأوسط» سبب الشراء، بقولها: «أرى أن شراء الزينة والهدايا لا تعني تبني توجهٍ ديني معين، هي فقط تعبير عن الفرح، ومثلما نشارك أصدقاءنا المسيحيين في أعيادهم، هم يهنئوننا في رمضان والعيد».

وعلقت زميلتها الجامعية، ماري مجدي: «زينة الكريسماس للمسلمين أصبحت مثل فانوس رمضان لنا كمسيحيين، لا أرى فيهما مسألة دينية بقدر ما هي مناسبات اجتماعية جميلة للتعايش والتسامح».

ومن شمال القاهرة إلى وسطها الصاخب، يمكن ملاحظة زيادة التوجه نحو الاحتفال برأس السنة، عبر مشاهد الزينة على الأرصفة والحوائط والواجهات، ففي شارع قصر العيني، تبرز واجهة كبرى لأحد متاجر القهوة الشهيرة مزينة بنجمة ضخمة حمراء بخلفية خضراء تتوسطها عبارة «Christmas Vibes»، تجذب المارة للتصوير، كرغبة في خلق لحظات من السعادة. وقال هيثم صابر، أحد العاملين بالمتجر: «هذه الديكورات تخلق حالة من البهجة، والزبائن يحبون هذه الأجواء؛ لذا تجذبهم إلينا».

أجواء كرنفالية واحتفالية بالعام الجديد في منطقة «الكوربة» شرق القاهرة (الشرق الأوسط)

اختارت مجموعة من محال الملابس، المنتشرة بالمنطقة، وضع أشجار الكريسماس المضيئة أمام مدخلها أو داخل «فاترينة» العرض، في حين امتدت الزينة لأماكن غير تقليدية، حيث قام متجر للحيوانات الأليفة بتزيين واجهته بالغزلان والأجراس المضيئة.

وعلى بعد أمتار قليلة من وسط القاهرة، حيث تتواجد «الأوبرا المصرية»، وبجانب ما تنظمه الدار من فعاليات وسهرات بمناسبة أعياد الميلاد، لم تغفل الدار أن تشارك زوارها بأجواء كرنفالية واحتفالية بالعام الجديد، عبر مُجسم يحمل عبارة «Happy New Year»، إلى جانب شجرة كريسماس عملاقة، وكلاهما جذب زوار الأوبرا للتصوير.

وبعد التقاط صورة «سيلفي» أمام الشجرة، التي تتوسط مدخل المسرح الكبير، قالت علا علوي، وهي موظفة تسويق، كانت تستعد لحضور عرض باليه «كسارة البندق»، لـ«الشرق الأوسط»: «أشعر بالسعادة عندما أرى هذه الديكورات، التي أصبحت جزءاً من ثقافتنا الاحتفالية، هي تعبير عن مصر الحقيقية، التي تحتفل بكل شيء، وتفتح قلبها للجميع».

مُجسم يحمل عبارة «Happy New Year» بساحة دار الأوبرا المصرية (الشرق الأوسط)

وبالانتقال لشرق القاهرة، وتحديداً منطقة «الكوربة»، ينجذب الزائر إلى المشهد الكرنفالي السنوي؛ إذ تتلألأ الأضواء وتنتشر ديكورات العام الجديد على جدران البنايات ذات الطراز المعماري الفريد.

وقالت مجموعة من الطلاب الجامعيين، تواجدوا للتصوير أمام إحدى البنايات المُزينة بزينة «الكريسماس» وتتداخل معها ديكورات الفوانيس والأهلّة، لـ«الشرق الأوسط»: «نحب زيارة هذا المكان... الزينة تبعث فينا حيوية... وتشعرنا بأن هناك شيئاً جميلاً ينتظرنا في العام الجديد».


5 تمارين ذهنية لتنشيط الدماغ بعد سن الأربعين

ممارسة الكتابة الحرة تساعد على تنشيط الدماغ (جامعة يوتا الأميركية)
ممارسة الكتابة الحرة تساعد على تنشيط الدماغ (جامعة يوتا الأميركية)
TT

5 تمارين ذهنية لتنشيط الدماغ بعد سن الأربعين

ممارسة الكتابة الحرة تساعد على تنشيط الدماغ (جامعة يوتا الأميركية)
ممارسة الكتابة الحرة تساعد على تنشيط الدماغ (جامعة يوتا الأميركية)

تؤكد بحوث حديثة أن الدماغ لا يتوقف عن التطور مع التقدم في العمر؛ بل يواصل إنتاج خلايا عصبية جديدة حتى بعد منتصف العمر. وعلى عكس الاعتقاد السائد بأن «المرونة العصبية» تبلغ ذروتها في مرحلة الطفولة، أظهرت الدراسات أن الدماغ يظل قادراً على التكيُّف والتجدد طوال الحياة.

وبالنسبة لمن تجاوزوا سن الأربعين، يحمل هذا الاكتشاف رسالة أمل واضحة، مفادها أن نسيان الأسماء أو الشعور بما يُعرف بـ«ضبابية الذهن» ليسا أمرين حتميين؛ بل يمكن الحد منهما عبر تمارين ذهنية يومية لا تتجاوز 5 دقائق في اليوم، شرط الالتزام بها بانتظام.

وتشير مجلة «VegOut» الأميركية إلى أن هذه التمارين تحفِّز الدماغ وتدفعه للعمل بطرق جديدة وأكثر كفاءة.

واللافت أن هذه التمارين لا تتطلب وقتاً طويلاً أو أدوات باهظة الثمن؛ بل يمكن لأي شخص تطبيقها بسهولة ضمن روتينه اليومي.

1- الكتابة الحُرّة

في كل صباح، وقبل الانشغال بقائمة المهام اليومية، يُنصح بممارسة الكتابة الحرة دون تفكير أو مراجعة أو تصحيح. وقد تكون الكتابة عن أفكار عابرة، أو أحلام، أو حتى جمل متكررة، مثل: «لا أعرف ماذا أكتب». وتكمن الفائدة هنا ليس في مضمون ما يُكتب؛ بل في عملية تحويل الأفكار إلى كلمات دون رقابة داخلية.

2- العدُّ العكسي خلال تنظيف الأسنان

تقوم هذه العادة على اختيار رقم مكوَّن من 3 أرقام، والبدء في العد تنازلياً بطرح 7 خلال تنظيف الأسنان، مثل: 298، 291، 284. ويُجبر هذا التمرين الدماغ على التركيز خلال أداء مهمة روتينية، ما يُنشِّط الانتباه والذاكرة دون إضافة وقت جديد إلى جدول اليوم.

3- تعلَّم 5 كلمات بلُغة جديدة

تشير البحوث إلى أن تعلُّم اللغات الأجنبية يزيد من نشاط الدماغ، ويعزز مقاومته للتدهور المعرفي. ولا يشترط الوصول إلى الطلاقة؛ إذ إن تعلُّم 5 كلمات يومياً كافٍ لتحقيق فائدة ملموسة، ومع الاستمرارية يمكن اكتساب أكثر من 1800 كلمة سنوياً، وهو ما ينعكس إيجاباً على القدرات الذهنية.

4- التأمل عبر فحص الجسد

وهو نوع من التأمل يركِّز على الانتباه الواعي لكل جزء من الجسم، بدءاً من أصابع القدمين وصولاً إلى الرأس، خطوة بخطوة، مع ملاحظة أي شعور جسدي، مثل التوتر أو الحرارة أو البرودة، دون محاولة تغييره أو إصدار أحكام بشأنه.

5- الامتنان بتفاصيل محددة قبل النوم

بدلاً من عبارات الامتنان العامة، مثل: «أنا ممتن لعائلتي»، يُفضَّل التركيز على تفاصيل دقيقة، مثل ضوء الصباح أو موقف لطيف مع أحد الجيران. ويُنشِّط هذا النوع من الامتنان مراكز الذاكرة والعاطفة واللغة معاً، كما ثبت أنه يُحدث تغييرات إيجابية في بنية الدماغ.

ويشير الخبراء إلى أن دماغ الإنسان بعد منتصف العمر لا يتدهور بالضرورة؛ بل يتغير، ويمكن توجيه هذا التغيير بشكل إيجابي؛ فالعادات اليومية البسيطة تُحفِّز الخلايا العصبية على العمل بأنماط جديدة، ما يعزز الوضوح الذهني والإبداع والمرونة العقلية.

وينصح الخبراء باختيار تمرينين أو ثلاثة من هذه الممارسات، والالتزام بها لمدة شهر، ثم إضافة المزيد تدريجياً، مؤكدين أن التأثير التراكمي لهذه الخطوات الصغيرة قد يكون مذهلاً على المدى الطويل.


من الألم إلى الإبداع... كيف يُعيد الفن بناء الذات؟

التعافي من مرض مزمن كان تحدياً صعباً لبيثاني ويليامز (غاليري بيثلم)
التعافي من مرض مزمن كان تحدياً صعباً لبيثاني ويليامز (غاليري بيثلم)
TT

من الألم إلى الإبداع... كيف يُعيد الفن بناء الذات؟

التعافي من مرض مزمن كان تحدياً صعباً لبيثاني ويليامز (غاليري بيثلم)
التعافي من مرض مزمن كان تحدياً صعباً لبيثاني ويليامز (غاليري بيثلم)

في بعض الأحيان، يكون الفن أكثر من مجرد إبداع؛ يكون ملاذاً، وطريقة لاستعادة الذات المفقودة بين الألم والصمت. هذا ما اكتشفته الفنانة الشابة بيثاني ويليامز، التي وجدت في ممارسة الفن وسيلة لإعادة الاتصال بنفسها تدريجياً بعد صراع طويل مع مرض مزمن.

معرضها الأول «هذا المكان البري، المؤلم حدّ الوجع، والجميل»، يعكس رحلتها الشخصية بكل تفاصيلها الدقيقة. المعرض، المعروض حالياً في لندن، ليس مجرد قطع فنية، بل هو سرد حي لتجربة إنسانية عميقة، تحكي قصة الألم، والصبر، والتعافي.

في عام 2013، شُخِّصت ويليامز بـ«الصداع اليومي المستمر الجديد»، مرض يزرع الألم في الرأس والوجه بلا هوادة. وحين دخلت في فترة هدوء مؤقتة، عاد المرض عام 2022 بأعراض أقسى، أجبرتها على ملازمة الفراش لفترة طويلة. عن تلك المرحلة الصعبة تقول: «قضيت عاماً ونصف العام طريحة الفراش، ثم بدأت أتحسن ببطء شديد، وكانت تلك المرحلة بالغة الصعوبة».

المعرض، كما تصفه، هو «رسالة حب إلى الأرض التي احتضنتني، وإلى الألم الذي غيّرني، وإلى نسخة من نفسي لم أكن أتوقع أن ألتقيها يوماً». وخلال تلك الفترة الحرجة، عادت ويليامز، الفائزة مؤخراً بجائزة مجلس الأزياء البريطاني وصندوق فوغ للمواهب الصاعدة، إلى جزيرة مان، لتجد فيها المساحة والوقت لإعادة التواصل مع إبداعها الفني واستعادة توازنها الداخلي؛ وفق «بي بي سي».

رحلتها نحو التعافي كانت مليئة بالتجارب المتنوعة؛ من العمل بالخزف إلى الانغماس في الطبيعة، وهي تقول إن هذه اللحظات «أعادتني إلى ذاتي ببطء». وأضافت: «طورنا في المعرض منحوتات ضوئية، وبما أنني كنت شديدة الحساسية تجاه الضوء، أردت استخدامه كرمز لتقدمي في التعافي».

تصاميمها استُلهمت من المناظر الطبيعية ورحلتها في التعافي (غاليري بيثلم)

المعرض، أول عرض فردي لها، يضم 3 منحوتات ضوئية نسيجية تمثل مراحل التعافي المختلفة، إلى جانب منحوتات بورسلان، ولوحات فنية، وتركيب من الأقمشة، وشاشة خشبية. وتقول ويليامز إن هذه الأعمال تختزل مسيرتها نحو الشفاء، رحلة «مؤلمة إلى حد كبير، لكنها حملت معها دروساً حياتية جميلة للغاية».

إلهامها جاء من الطبيعة الساحرة لجزيرة مان: الأحجار القائمة في العراء، والمرتفعات الشامخة، والأشجار التي شكلتها الرياح العاتية. وأضافت أن المناطق المرتفعة، حيث تنمو ثمار العليق والتنور ونبات الخلنج، كانت بالنسبة لها «منعزلة على نحو جميل».

وعن أسلوبها الفني، تقول: «كنت أسعى لخلق إحساس شبحاني، غامض وجميل في آن واحد، يشبه تلك اللحظة التي يفقد فيها الإنسان ذاته ثم يعود إليها تدريجياً». وختمت: «إنه رسالة حب إلى الأرض التي احتضنتني، وإلى الألم الذي غيّرني، وإلى النسخة من نفسي التي لم أكن أتوقع أن ألتقيها».

يستضيف «غاليري بيثلم» في لندن المعرض حالياً حتى نهاية يناير (كانون الثاني)، وسيُنقل لاحقاً إلى «بيت مانانان» عام 2027، ليبقى شاهداً حياً على رحلة فنانة استطاعت تحويل الألم إلى جمال، والفقدان إلى اكتشاف الذات.